لم تكن المملكة المتحدة وحدها التي تنفست الصعداء، وفرحت أيما فرح بتصويت الاسكتلنديين لرفض الانفصال عنها يوم الخميس الماضي، بل إن العديد من دول أوروبا التي تواجه مصيراً مشابهاً، كإسبانيا وبلجيكا وإيطاليا وروسيا وكندا وغيرها، كانت تتابع مجريات الانتخابات ساعةً بساعةٍ، ودقيقةً بدقيقةٍ، وتشخص بأبصارها إلى صناديق الاقتراع في المدن الاسكتلندية، غلاسكو وأدنبرة ودندي ومزرويل..الخ، متطلعةً إلى النتيجة، بحبس الأنفاس، والتوجه بالدعاء أن يرفض الاسكتلنديون الانفصال عن المملكة المتحدة. إذ أنهم شركاء في الهم، وأصحاب شراكة في المصير، بسبب توجه بعض المقاطعات في بلدانهم بنزعةٍ استقلاليةٍ، من خلال الدعوة إلى الانفصال من البلد الأم. وأحسبُ أن الاسكتلنديين وازنوا بين طموحات أليكس سالمون رئيس الحزب الوطني، والداعي إلى انفصال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، والذي انفصل في مفاصلة شهيرة مع عدد من زملائه من حزب العمال البريطاني، ليشكل الحزب الوطني الذي يهدف من خلاله إلى انفصال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، ولكنه عمل بمبدأ التُّقية، إذ مرحل خطوات الانفصال، بالدعوة إلى إنشاء برلمانٍ مستقلٍ لاسكتلندا، وبالفعل نجح في ذلك عام 1999، ومن هنا بدأ الحزب الوطني الاسكتلندي التعبير بشكل أقوى عن الرغبة في الاستقلال عن المملكة المتحدة، خاصةً بعد حصوله على أكبر نسبة أصوات في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2011، على حساب الحزبين الكبيرين العمال والمحافظين، وتسلمه السلطة لأول مرةٍ في الإقليم منذ عام 1999. وفي 15 أكتوبر 2012، وقعت الحكومتان البريطانية والاسكتلندية "اتفاقية أدنبرة" تمهيداً للاستفتاء في سبتمبر 2014، بعد وحدةٍ مع بريطانيا استمرت 307 سنوات. وفي رأيي الخاص، أن الاسكتلنديين دخلوا هذا الاستفتاء، وقبيل إدلاء كل واحدٍ منهم بصوته في صناديق الاقتراع أجرى حسابات دقيقة بين عاطفة الاستقلال وعقلانية الوحدة، فوصل إلى موازنات دقيقة، خلُص منها حوالى 55% إلى إعمال العقل وإسكات العاطفة، بالتصويت لصالح الاستمرار في الوحدة التي زادت عن الثلاثة قرون. وكان طوال ال15 عاماً الماضية يعمل البرلمان المستقل لاسكتلندا، والذي تأسس إبان تولي توني بلير رئاسة الوزارة البريطانية، من تطبيق سياساته في مجالات عديدة، منها التعليم والصحة والزراعة حتى الفن، بينما تكفل البرلمان البريطاني بإقرار نسبة الضريبة المطبقة في اسكتلندا. ولم يكن من السهل على البريطانيين التفريط في اسكتلندا، بل عملوا على إنجاح الوحدة الجاذبة، لأنهم يعلمون أن انفصال اسكتلندا، يعني خسارة المملكة المتحدة لثلث أراضيها، وفقدانها لعددٍ مقدرٍ من سكانها، نحو 5 ملايين نسمة. كما أن الاسكتلنديين ليسوا وحدهم المطالبين بالانفصال عن المملكة المتحدة، فهناك شعب ويلز الذي يبلغ تعداده نحو ثلاثة ملايين نسمة، في غرب المملكة المتحدة يطالب أيضاً بالانفصال وإعطائه فرصة لإجراء استفتاء على الانفصال، كما أُعطيت الفرصة للاسكتلنديين يوم الخميس الماضي، لكن الوسائط الصحافية والإعلامية البريطانية قللت من نسبة تعداد الويلزيين، بقولها إنهم لا يزيد تعدادهم عن 15%، وإنه لا يوجد أي احتمال لإجراء الاستفتاء على حق تقرير مصيرهم. أخلصُ إلى أن نتيجة استفتاء الاسكتلنديين يوم الخميس الماضي، من الضروري أن تُؤثر سلباً على مُطالبات مقاطعات في دول أوروبية تسعى جاهدةً إلى الانفصال عن طريق الاستفتاء أو الحركات المسلحة، كما كان يحدث في إيرلندا الشمالية مع الجيش الجمهوري، ومنطقة كتالونيا الواقعة شرق إسبانيا التي يطالب مواطنوها أيضاً بالانفصال عن إسبانيا، وتحديد مصيرها منذ زمن بعيد، حيث اكتسب الكتالونيون أوضاعاً خاصةً، وحقوقاً جديدةً بشأن الحكم الذاتي للإقليم، في عهد خوزيه لويس رودريغيز زباتوري رئيس الوزراء الإسباني الأسبق في عام 2006، إلا أنهم فقدوا الكثير منها عام 2010، جراء تقديم حزب الشعب الحاكم آنذاك اعتراضاً إلى المحكمة الدستورية. ولم يكن غريباً أن يطالب الحزب اليساري الجمهوري، الذي يعتبر أكثر الأحزاب المدافعة عن انفصال كتالونيا، بالاستفتاء بعد أن حصل الحزب على 21 مقعداً في الانتخابات المبكرة، ودخل الائتلاف الحكومي مشترطاً على أرثور رئيس الوزراء الإسباني، استفتاءً على استقلال الإقليم في أقرب فرصة. وجاهد هذا الحزب في محاولات مستمرة للحصول على اتفاق مختلف الأحزاب السياسية في الإقليم، على إجراء استفتاء بين الكتالونيين. وبالفعل توافقت هذه الأحزاب السياسية على إجراء استفتاء بين الكتالونيين يوم 29 نوفمبر 2014، ويتضمن الاستفتاء توجيه سؤالين هما: "هل ترغب في أن تكون كتالونيا دولة؟"، و"هل ترغب في استقلال هذه الدولة؟". وسارع البرلمان المحلي للإقليم بطلب إلى البرلمان الإسباني في يناير 2014، من أجل الموافقة له على إجراء استفتاء على انفصال كتالونيا في 29 نوفمبر 2014، إلا أن البرلمان العام، ومجلس الشيوخ الإسبانيين، رفضا طلب البرلمان الكتالوني. أحسبُ أن دعاة الانفصال في 20 منطقة أوروبية تطالب بالاستقلال، أُصيبوا من جراء نتيجة الانتخابات الاسكتلندية يوم الخميس الماضي، بنكسةٍ في طموحاتهم وآمالهم، وبُدد حلم الراغبين في الانفصال عن المملكة المتحدة من الاسكتلنديين إلى وقت آخر، عقب تصويت حوالى 55% من سكانها مطالبين بالاستمرار في الوحدة مع المملكة المتحدة. ولنستذكر في هذا الصدد قول الله تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ". وقول أمير الشعراء أحمد بك شوقي: بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة وأهلي وإن ضنوا عليَّ كرام بلادي وإن هانت عليَّ عزيزة ولو أنني أعرى بها وأجوع ولي كف ضرغام أصول ببطشها وأشرى بها بين الورى وأبيع تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها وفي بطنها للمجدبين ربيع أأجعلها تحت الثرى ثم أبتغي خلاصاً لها؟ إني إذن لوضيع