السودان وتشاد.. كيف عكرت الحرب صفو العلاقات بين الخرطوم ونجامينا؟    الحرس الثوري الإيراني "يخترق" خط الاستواء    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    فيتش تعدل نظرتها المستقبلية لمصر    عالم فلك يفجّر مفاجأة عن الكائنات الفضائية    السيد القائد العام … أبا محمد    اتصال حميدتي (الافتراضى) بالوزير السعودي أثبت لي مجددا وفاته أو (عجزه التام الغامض)    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    هيفاء وهبي تثير الجدل بسبب إطلالتها الجريئة في حفل البحرين    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    والى الخرطوم ينعى نجل رئيس مجلس السيادة    قبل قمة الأحد.. كلوب يتحدث عن تطورات مشكلته مع صلاح    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    وفاة محمد عبدالفتاح البرهان نجل القائد العام للجيش السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. فنانة سودانية تحيي حفل غنائي ساهر ب(البجامة) وتعرض نفسها لسخرية الجمهور: (النوعية دي ثقتهم في نفسهم عالية جداً.. ياربي يكونوا هم الصاح ونحنا الغلط؟)    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تسخر من الشباب الذين يتعاطون "التمباك" وأصحاب "الكيف" يردون عليها بسخرية أقوى بقطع صورتها وهي تحاول تقليدهم في طريقة وضع "السفة"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    واصل تحضيراته في الطائف..منتخبنا يؤدي حصة تدريبية مسائية ويرتاح اليوم    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملامح من سياسة السودان الخارجية (2) .. بقلم: محمد بشير حامد
نشر في سودانيل يوم 16 - 10 - 2014

من ʼالعزلة المجيدةʻ والفورة الثورية 2لى ʼالحالة الفِنْلَنْديَّةʻ
هذه هى الحلقة الثانية من دراسة نُشرت أصلا باللغة الأنجليزية كجزء من كتاب (Sudan since Independence) الذى صدر فى لندن فى عام 1986 وساهم فى كتابته نفر من اساتذة كلية الاقتصاد والعلوم الاجتماعية بجامعة الخرطوم وحققه د.بيتر وودورد من جامعة ردينق بمشاركة شعبة العلوم السياسية فى الخرطوم. ورأيتُ ترجمتها ونشرها فى حلقات لعدة اسباب منها اولاً حلول الذكرى الخمسين لثورة أكتوبر، وثانيا شح المراجع وقلة الكتابات عن السياسة الخرجية باللغة العربية لتلك الفترات من تاريخنا، وثالثا كمقدمة لدراسة أقوم بها عن السياسية الخارجية للدولة الطريدة Pariah State)) التى ابتُلينا بها منذ ربع قرن ونيّف. وتوخيت عند الترجمة الالتزام بما ورد فى الأصل ما عدا اضافة بعض المعلومات من مراجع لم تكن متاحة لى فى مطلع الثمانينات والتى فى تقديرى عزٙزت فى معظمها قراءة وتحليل بعض الأحداث التى وردت أصلا فى النص الانجليزى.
فترة ʼالعزلة المجيدةʻ(Splendid Isolation) 1958 – 1964:
كانت أهم ملامح السياسة الخارجية لنظام عبود العسكرى غياب أى ارتباط نشط او طويل المدى فى العلاقات الخارجية. وحافظ النظام على أرثودكسيَّة دول العام الثالث التى اتَّبعتها الأنظمة السابقة فى الوقوف الى جانب "السلام العالمى والوحدة الأفريقية والوحدة العربية وكل الدول المناضلة فى سبيل الحرية الخ". ولكن عمليا فإن السياسة الخارجية للطغمة العسكرية تميزت بعدم اكتراث كبير بالشئون الخارجية، فقد ظل السودان بمعزِل عن المعسكر العربى الراديكالى لميثاق الدار البيضاء وكذلك عن تجمع بلدان مؤتمر منروفيا المحافظ.
وكان الهدف الرئيسى للسياسية الخارجية هو التماس وجذب المعونة من أى جهة ترغب فى منحها مما جعل من الضرورى أتباع سياسة معتدلة ومتوازنة تجاه العالم الخارجى. . فقد بدا أول بيان للسياسة الخارجية الذى أعلنه الوزير أحمد خيرفى نوفمبر 1958فى بعض جوانبه وكأنه 2علان تجارى، فوعد بزيادة التعاون السياسى والاقتصادى والثقافى مع كل الدول وخلق مناخ مواتٍ لجذب المساعدات والاستثمارات والتعامل تجاريا مع "كل الأقطار على اساس المنفعة المتبادلة والمصلحة المشتركة".
وقد توافقت وجهة النظر الامريكية مع ذلك التوجه فلخص تقرير من السفارة الامريكية أهداف السياسة الخارجية للنظام فى نقطتين: تجنب المشاكل الخارجية والتركيز على التنمية الاقتصادية بالحصول على منح وقروض اجنبية لهذه التنمية. واوضح التقرير انه "رغم ان عبود يتبع (سياسة الحياد الايجابى) ويحافظ على علاقات دبلوماسية مع روسيا، والصين، وبقية المعسكر الشيوعي، نعتبر عبود يعادي الشيوعية، ويؤيد الغرب بصورة عامة، وتظل تجارة السودان الخارجية وقروضه ومنحه تميل نحو الغرب...ليست للسودان مشاكل مع اي دولة غير المشاكل التاريخية والتقليدية مع مصر وغير انتقادات من دول بسبب سياسته نحو الكونغو...ويتعرض عبود لضغوط مستمرة من كل من مصر وروسيا لينتهج (سياسة محايدة حقيقية) وخاصة ليسمح بمرور اسلحة الى ثوار الكونغو ]انصار باتريس لوممبا ضد حكومة اليمينى مويس تشومبى[ وفى الحالتين تعتمد قدرة عبود على مواجهة الضغوط الخارجية على قدرته فى اقناع السودانيين بانه قادر على تطويرهم اقتصاديا وسياسيا ". (تقرير السفارة الأمريكية فى الخرطوم لواشنطون بتاريخ 4/5/1964، وثائق الخارجية الأمريكية، ترجمة محمد علي صالح)
وفى 29 نوفمبر 1958 اكد النظام العسكري الموافقة على اتفاقية المعونة الأمريكية والتى كانت قد فجرت أزمة سياسية فى البرلمان قبيل الأنقلاب والتى ربما كانت عاملا فى قرار تسليم السلطة للجيش وأصبح البنك الدولي والمانيا الغربية وبريطانيا وايطاليا من المانحين المميَّزين للمعونات والمساعدات التقنية. وقام النظام كذلك بالتماس الاعتراف والمعونة من الكتلة الشرقية فى محاولة لانتهاج سياسة متوازنة فى صلاته الاقتصادية مع الغرب. فمن أوائل الخطوات فى السياسة الخارجية قام النظام بالاعتراف بالصين الشعبية والتفاوض حول اتفاقيات تجارية مع الاتحاد السوفيتى ويوغسلافيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا وبحلول 1961 أضحى السودان متلقيا للمعونات من مصادر عدة.
ولم تكن سياسة عدم الانحياز التى أعلنها عبود فى أول مؤتمر صحفى له وليدة قناعة عقائدية أو استرتيجية دبلوماسية كما تبلورت فى حركة الحياد الايجابى فى العالم الثالث من المبادئ الخمسة لمؤتمر (باندونج) فى عام 1955، بل كانت كما فسرها وزير الخارجية أحمد خير "مجرد وسيلة لكسب الأصدقاء" (فى مطلع الثمانينات ذكرت دارسة امريكية نقلا عن أحمد خير رواية لا تخلو من طرافة و2ن كانت تعكس نهج "عش ودع الغير يعيش"(live and let live) الذى اتسمت به سياسة عبود الخارجية. فقد زار السفير الامريكى الوزير لياخذ أذنا لطائرة تحمل عتادا حربيا بعبور المجال الجوى السودانى، فسأله الوزير: "على أى ارتفاع ستحلق الطائرة؟" رد السفير بأنها ستحلق على ارتفاع عال. وهنا قال له أحمد خير "هل تظن أن أحدا سينظر نحو السماء ويرى طائرتكم من خلال السحاب؟ لماذا تأتون وتزعجوننا بمثل هذه الطلبات؟" فرد السفير أنهم يريدون فقط التحوط فى حالة سقوط الطائرة على أرض سودانية. وانتهى الأمر بان أعطى الوزير موافقة شفهية. ويذكر نفس المصدر ان طلبا مشابها من الاتحاد السوفيتى قد تم رفضه لان الروس رفضوا السماح للسلطات السودانية بتفتيش الطائرة عند هبوطها فى مطار الخرطوم فى طريقها لجهة غير معلومة). Interview by Sally Ann Baynard, Khartoum, 9 July 1981. See Sally Ann Baynard Sudanese Foreign Policy under Nimeiri, 1969-1982 (PhD Thesis, George Washington University, 1983).
لقد شجعت زيارة عبود للولايات المتحدة فى عام 1961 تطور العلاقات الثنائية وكذلك فعلت زيارته للاتحاد السوفيتى فى العام ذاته وزيارة شوين لاى (Zhou En-lai) للسودان فى يناير 1964. ولكن تلك الزيارات لم تعنِ أكثر من ابراز شهادة بعدم الارتباط من دون أن يرقى ذلك 2لى ممارسة للحياد بمفهومه الايجابى كبديل ثالث فى العلاقات الدولية للاستقطاب الثنائى لكتلتى الغرب والشرق.
هذا الموقف الغامض فى بعض جوانبه انعكس أيضا فى مجالات اخرى فى العلاقات الخارجية. ففى حين استمر السودان فى تأكيد انتمائه العربى الا أنه فضل الابتعاد قدر الامكان عن القوى التى كانت تتصارع حينها من اجل قيادة العالم العربى وواكب ذلك الابتعاد أيضا عدم حضور فعال فى أفريقيا وتقصير فى تعزيز العلاقات مع الدول الافريقية خاصة فى تفعيل دوره "كجسر بين أفريقيا والعالم العربى" والذى كان املا راود العديد من القادة السياسين والمثقفين فى اعقاب الاستقلال. (المشكلة فى "مفهوم الجسر" كانت فى كيفية أن يعتبره كل من الجانبين العربى والافريقى "جسرا" يُمكن العبور عليه بدلا من تخطيه وهو ما فشلت الحكومات السودانية المتعاقبة فى تحقيقه منذ الاستقلال).
بدأت العلاقات مع مصربمبادرة ودية فمصر كانت اول الدول إعترافاً بالنظام الجديد وفى أول مخاطبة اذاعية للامة فى 17 نوفمبر وعد عبود بتسوية كل المشاكل القائمة مع مصر وازالة "الجفوة المفتعلة" التى خيمت على العلاقات بين البلدين. (لعل أحد عوامل السياسة الخارجية الذى أدى لقرار عبدالله خليل بتسليم السلطة للعسكر تخوفه من النفوذ المتزايد للرئيس المصرى عبد الناصر وقناعته أن الجيش السودانى هو الجهة الوحيدة التى التى تستطيع الوقوف امام مصر أو على الأقل منع قيام حكومة متحالفة معها). وقد اعتبر النظام إبرام الاتفاقية الجديدة لمياه النيل مع مصر فى نوفمبر 1959 انجازا كبيراً، فقد وافق الجانبان على حصة المياه والتى زادت نصيب السودان نظرياً وعلى التعويض المالى لترحيل النوبيين الذين ستغمُر أراضيهم فى وادى حلفا مياه السد العالى عند اتمامه. وكما اوضح خبير سودانى فى دراسة لاحقة: "وقد أصرّت مصر على دفع 10 مليون جنيه مصري فقط كتعويضٍ للسودان عن كل ما سيفقده في منطقة وادي حلفا جرَّاء بناء السدّ العالي. ولم تنجح توسّلات السودان، الذي أوضحتْ حساباتُه أنه يحتاج إلى 35 مليون جنيه لإعادة التوطين القسري لأهالي حلفا، سوى في زيادة التعويض المصري إلى 15 مليون جنيه. وحدث ذلك فقط بعد رفع الأمر إلى الرئيس عبد الناصر كوسيطٍ بين الطرفين بعد تعنّت الجانب المصري المفاوض. وقد بيّنَت الأيام صدق حسابات السودان، إذ كلّفته إعادة توطين أهالي حلفا أكثر من 37 مليون جنيه، أي بزيادة حوالى 25% مما دفعته مصر" (د. سلمان محمد احمد سلمان "السودان بين سد النهضة والسد العالي" صحيفة الراكوبة 17/6/2013).
وبمباركة القيادات الطائفية (حزبى الامة والوطنى الاتحادى) للاتفاقية بدا وكأن ستارا قد أسدِل على أحد مصادر الخلاف مع مصر ومهِّدت الطريق لعلاقات افضل دشنتها زيارة عبود للقاهرة فى يوليو 1960 والتى ردّها الرئيس ناصر فى نوفمبر من نفس العام. ولكن ابرام الاتفاقية جر فى أذياله ردود فعل داخلية ذات عواقب وخيمة فاقت أى مزايا قصيرة المدى حصل عليها النظام. أثارت الاتفاقية موجة من الانتقادات فى البلاد وفجرت أول تحدٍ مدنى معلن لسلطة العسكرِتاريا عندما اندلعت فى 1960 مظاهرات داوية فى وادى حلفا احتجاجا على قرار الحكومة باعادة توطين 50 ألف من النوبيين المنزوعة أراضيهم فى خشم القربة. ومع ان النظام تمكن من احتواء تللك الانتفاضة الا أن الضرر الذى حاق بسلطته لم يكن من السهل أزالته. ففى مواجهة التحدى المعارض اصبح موقف العسكر اكثرتشددا فمشروع اعادة التوطين كان هو المشروع الذي ادّخرته الدولة لإعلاء صِيتِها وبسط هيبتها. ولكن ثمن تلك الهيبة ساعد على إفقار الخزينة العامة، واما سلطة النظام فأُسطورة قد تم الطعن في صِدقِيّة مناعتها بتحدى أهالى وادى حلفا لها ولم تعد بعد ذلك الى ماكانت عليه من قبل. وقد عكست برقية من السفارة الأمريكية بالخرطوم لواشنطون بتاريخ 3/11/1960قراءة مماثلة للواقع السودانى: " صار واضحا ان معارضي نظام عبود يستغلون موضوع حلفا لاسقاط النظام. وبعد هدوء دام عاماً تقريبا، يبدو ان السودان سيشهد تحركات علنية هامة ضد النظام. ومهما يحدث لهذه المظاهرات في المستقبل، فقد صارت نقطة تحول لانها مواجهة رئيسية للنظام العسكري المنعزل عن القوى المدنية. ربما سيلجأ عبود لمزيد من الكبت، لكن تبقى هذه المظاهرات تحديا، ونقطة تحول". (وثائق الخارجية الأمريكية).
فى المجال الاقتصادى كان النظام يواجه مصاعب شتى. فقد تصرف العسكر بفعالية لإصلاح المسار الاقتصادى عند استلامهم للسلطة. ففى يناير 1959 قامت الحكومة بالغاء السعر الاحتياطى للقطن السودانى وعرضته للبيع باى سعر يمكن الحصول عليه، وبما أن الأسعار العالمية كانت فى حالة ارتفاع عندئذٍ فقد تمكنت من بيع كل المحصول الجديد والمتبقى من الموسم السابق بحلول اغسطس 1959 واصبحت البلاد قادرة على سداد مديونتها مع فائض قليل فى الدخل القومى. ولكن هذا التحسن فى الوضع الاقتصادى مع تدفق المعونات الخارجية شجع الحكومة على الدخول فى مشروعات اقتصادية استلزمت صرفا ثقيلا من رصيد العملات الاجنبية مما ادى لوضع البلاد فى مديونية أجنبية عميقة. فقد نتج عن التقديرات المبالغ فيها عجز يزيد عن 75 مليون جنية فى خمس سنوات. وهكذا بدأت الشعبية التى اكتسبها النظام بمبادراته الاقتصادية الأولى تتضاءل إزاء فشله فى التعامل مع التحديات السياسية والاقتصادية التى باتت تواجهه بوتيرة مطّردة. ومع ارتفاع صوت المعارضة تناقصت حساسية النظام بدوافع ومسببات السخط الشعبى وتزايد لجوء الطغمة العسكرية لسياسة العصا الغليظة خاصة فى جنوب السودان لتكتمل بذلك الحلقة المفرغة من فعل وردود فعل متواصلة.
وقد انعكست مشاكل النظام الداخلية على سياسته الخارجية. فعلاقة السودان مع مصر أصابها الفتوروأخذت طابعا خلافيا بعد ان كثف الرئيس عبد الناصر فى 1961 عملية التحول الاشتراكى فى مصر وأزدادت حدة عدائه تجاه الدول المحافظة والمتحالفة مع الغرب. ومما زاد توتر العلاقات بين البلدين مطالبة نظام عبود لمصر بتسديد ديونها العالقة للسودان وهو مطلب عزته مصر وقتها للنفوذ الغربى الامبريالى على السودان والهادف لتقويض السياسات الثورية فى مصر. كما استاء المصريون مما ظنوا أنه عرقلة النظام السودانى بالتعاون مع أمريكا للجهود المصرية لارسال اسلحة 2لى أنصار لوممبا فى الكنغو. وبحلول 1964 ارتدت العلاقات مع مصر الى حالة فقدان الثقة والشكوك المتبادلة التى كانت طابعها قبل وصول نظام عبود للسلطة.
ولم يكن تردى العلاقات مقتصرا على علاقته مع جارته فى الشمال بل بدأت علامات التصدع تظهر أيضا فى علاقاته مع بعض جيرانه فى الجنوب بسبب تدهور الوضع الأمنى فى جنوب السودان فقد كان تمرد 1955 قد اتخذ شكل عصيان منظم تقوده الأنيانيا (Anya-Nya) وأدت محاولات العسكر لسحقه لتفاقم العنف والعداء وتزايد المقاومة مما أدى بدوره لتدفق اللاجئيين الجنوبيين إلى يوغندا وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو، وأثيوبيا وولَّد تعاطفا مع قضية الأنيانيا فى تلك الدول المجاورة. وزاد الوضع تأزما محاولة العسكر حل مشكلة الجنوب بفرض سياسة الأسلمة والتعريب والتى كان من نتائجها أن منحت القادة الجنوبيين سلاحا اعلاميا لشن حملة فعالة فى الخارج تصور مشكلة الجنوب على انها حرب دينية وعنصرية يقوم بها المسلمون العرب فى الشمال ضد المسيحيين الافارقة فى الجنوب.
وفى فبراير 1964 قام النظام العسكرى بطرد 300 من المبشرين المسيحيين من الجنوب بتهمة مساعدتهم للمتمردين. وبصرف النظر عن المبرارات التى أدت لاتخاذ ذلك الاجراء ف2ن الطريقة الفجة والعشوائية التى تم بها تنفيذه، شأنها فى ذلك شأن كثير من الأمور التى تخص الجنوب، كانت أبعد ماتكون عن طمأنة العالم الخارجى عامة وجيران السودان خاصة بعقلانية وحسن نوايا الحكومة السودانية. ففى يوليو 1964وقف متحدث فى البرلمان الاوغندى قائلا: "كيف يمكننا الوقوف فى هذا المجلس لنُدين جنوب أفريقيا والبرتغال فى حين يتم ذبح الناس كالماشية فى جوارنا؟". وتحدث تقرير للسفارة الأمريكية فى الخرطوم عن "معلومات موثوق بها بان قادة قبائل وزعماء سياسيين في جنوب السودان صاروا، في تزايد مستمر، اكثر غضبا بسبب سياسات الكبت التي يفرضها الشماليون على جنوب السودان. ووصل هؤلاء القادة الى قناعة بان الجنوبيين لن يقدروا على المحافظة على هويتهم الاجتماعية، والدينية، والثقافية في ظل نظام عبود العسكري الحاكم. ولذلك ومع احتمال انهم ربما كانوا يسعون للإنفصال، خططوا لبداية اتصالات مع دول خارجية لمساعدتهم مثل: بريطانيا، الولايات المتحدة، فرنسا، والدول الافريقية المجاورة، وحتى الامم المتحدة ..." (برقية السفير لواشنطون بتاريخ 5/1/1961 وثائق الخارجية الأمريكية).
ولعل عدم تدهور علاقات السودان بجيرانه لدرجة أسوأ كان سببه لحد كبير تجنب النظام مساندة ودعم حركات التحرر فى الدول المجاورة والتى كانت فى غالبها ذات توجهات انفصالية. ويمكن تفسير انتهاج العسكر لتلك السياسة بتوخيهم المصلحة الذاتية أكثر من التزامهم بمبادئ التحرر والحرية التى تغَّنت بها دول العالم الثالث حينذاك. وكما لاحظ احد المهتمين بالشأن السودانى (Peter Bechtold) فقد بدأت تظهر معادلات أقليمية، وبصفة خاصة فى العلاقات بين السودان وأثيوبيا، قائمة على نظام غير معلن من "الردع المتبادل من خلال الابتزاز المتبادل" (mutual deterrence through mutual blackmail) الذى أدّى دورا مُقدَّراً فى السنوات اللاحقة فى حفظ السلام الاقليمى و2ن يك ليس بأفضل السبل لبناء قاعدة متينة لعلاقت حسن الجوار الدائمة.
وبحلول عام 1964 كان النظام العسكرى يعانى الفشل كحكومة فى الشمال وكجيش فى الجنوب وكان الكبت والعنف الذى صاحب الفشل أو نتج عنه عاملا مباشرا فى إثارة موجة من الغضب والاستياء بلغت ذروتها فى ثورة اكتوبر 1964. ووضع المد الأكتوبرى الذى أغرق العسكر نهايةً لعزلة وانطواء فى السياسة الخارجية واتجه بالسودان لوجهة مغايرة تماما.
فى الحلقة القادمة: ثورة أكتوبر والفورة الرادكالية فى السياسة الخارجية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.