وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    مشار وكباشي يبحثان قضايا الاستقرار والسلام    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    راصد الزلازل الهولندي يحذر مجدداً: زلزال قوي بين 8 و10 مايو    (تاركو) تعلن استعدادها لخدمات المناولة الأرضية بمطار دنقلا والمشاركة في برنامج الإغاثة الإنسانية للبلاد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    أول اعتراف إسرائيلي بشن "هجوم أصفهان"    "الآلاف يفرون من السودان يومياً".. الأمم المتحدة تؤكد    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    ((كل تأخيرة فيها خير))    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العالم الافتراضي: أطياف الرواية وأشباحها .. بقلم: عبد الرحمن الغالي
نشر في سودانيل يوم 03 - 11 - 2014


بسم الله الرحمن الرحيم
تتدافع الأفكار على رأسه بأسرع من طاقة قلمه على مجاراتها. تزاحمت عليه خواطر العالم الإفتراضي الذي يعيش فيه أو يهرب إليه لا يهم. ولكن هل هناك عالم حقيقي؟ قال أكبر متصوفي بلاده بل أكبر متصوفي العالم في عصوره الأخيرة مخاطباً الواحد الأحد: ( فاجعل مطمح قلوبنا إليك ولا تجعل نظرها إلى ما كان من عدم وكذا حقيقته الراهنة بغيرك عدم وسيعود ما غر من ظاهرها عدم). صنّف بعض كتّاب بلاده كتاباً كبيراً أفنى فيه الوقت وأهدر الجهد ليثبت أن لكل أديب في بلاده مهرباً يلجأ إليه وما درى أن الشعر والأدب مناطه على مفارقة الواقع إلى عوالم المثال، ليته تدبر كتابَي كولن ويلسون اللا منتمي وما بعده، إذن لأدرك أنه إنما يقرر المقرر. وهل يحتاج لكولن ويلسون فهذا أمر معلوم من الأدب بالضرورة، فقد إمتلأت صفحات مقدمة كتابه هو نفسه التي كتبها كاتب آخر مطّلع بشواهد تمرد الأدباء على سائد بيئاتهم .
كان الجاحظ من أكبر المتمردين، كتب مقدمة في ( المحاسن والأضداد) أرادها مدحاً للكتب وفضلها ولكنها جاءت ذماً للناس. والجاحظ ليس ممن يسوقه الكلام، وإنما يُستدل من ذلك على الرباط القوي بين الكتابة والنفور القوي من مألوف الناس. الجاحظ غريب الأطوار حاد الذكاء وله ولع بتسليط الضوء على بطولة النماذج المضطهدة . له رسالة في ( فخر السودان على البيضان) وكتاب ( البخلاء) وكتاب ( المحاسن والأضداد). أشار الدكتور محمد الواثق لذلك في كتابه (تاريخ الدراما العربية) المكتوب بالانجليزية وأسماه نموذج نقيض البطل أو البطل النقيض anti- hero. وقبل الواثق رأى إبن قتيبة ملامح من ذلك في رسالة الجاحظ في الرد على النصارى حيث إتهمه بالخبث لأنه أورد حجج النصارى كأقوى ما تكون الحجة ثم تعمد أن يفندها تفنيداً ضعيفاً .
قال محمود المسعدي عن كتابه (روايته): (هذا كتاب كتبته منذ أحقاب حين كنت أروم أن أفتح لي مسلكا إلى كياني الانساني وأقضي حجاً إلى موطني المفقود : وفاءٌ حنينٌ إلى الذات الجوهر الفرد وتوليدٌ للعشرة من معدن الوحشة)...فالحياة عند المسعدي (كونٌ وإستحالة ومأساة فإذا هي إرتدت ظاهرةً وقراراً ورضىً فهي الخسران ولعنة ٌ على الزائفين)
ومهما يكن فكتاب (مهارب المبدعين) فيه جهد محمود لكاتب مطّلع أفسد كثيراً من بهجته أنه ليس دراسة أدبية كما ذكر مؤلفه وليته كان !.
العالم (يعني الناس ) كله يعيش في العالم الإفتراضي: سحرٌ مثل سحر آصف بن برخيا جالب عرش بلقيس عليها وعلى نبي الله سليمان السلام، شبكة تجلب في لمح البصر الكتابة والصور المرئية والصوت المسموع. أصبح العالم منكبّاً على مرايا صغيرة يتخاطبون عبرها بتلك الوسائل: الكتابة والصوت والصورة الساكنة والمتحركة.
كان عالمه من نوع آخر وإن ساعده عليه عالم العالم الافتراضي الجديد. فآخر من عاش معه في هذا العالم الافتراضي فتاة تركية رائعة القلم إسمها إليف شافاق أو إلف شفق – علم فيما بعد أنها صارت كاتبة يشار لها بالبنان – لها رواية ضخمة إسمها (قواعد العشق الأربعون) كتبتها بأسلوب بديع عن شمس الدين التبريزي وتوأم روحه جلال الدين الرومي. لشد ما أخذه التصوف إلى عوالم الافتراض منذ قرأ في شبابه دراسة الدكتور عبد القادر محمود عن التصوف ثم تتبع بقية كتبه عن الفلسفات المعاصرة والتصوف في السودان. وأعجبه (منطق الطير) لفريد الدين العطار رغم كونه مترجماً. وقبلها – قبل إلف شفق – كان قد ولج عالم إبراهيم الكوني ذلك الليبي الموهوب وكتاباته عن الصحراء وعالمها الواسع الجدب الفارغ الخصب الملهم الواضح الغامض الساطع المظلم المخيف الحار البارد: الصحراء جامعة المتناقضات ورادّة الانسان إلى ذاته بعد إنشعابها أو تاركة ذاته لتواجه أسئلة الوجود بانفتاحها على الفراغ والغيب المخيف.
دخل عالم الكوني عبر روايته ( نزيف الحجر).
وقبله إلتهم كتب يوسف زيدان: صاحب اللغة الرصينة، إندهش من رواية (عزازيل) ولو قرأها قبل رواية (شفرة دافينشي) لكان وقعها عليه عظيماً ولكن الأخيرة ( الشفرة) أبطلت بعض مفعول الأولى. لغة عزازيل هادئة متئدة متأملة صوفية شرقية، وإيقاع دافينشي سريع ذكي ومعلومات دافينشي فيها البحث الأكاديمي المصنوع لا المنساب بتلقائية شأن بقية روايات دان براون التي التهمها جميعا: أثارت فيه حكة التفكير المتواصل وزودته بأزودة لدعم نظرته المسبقة: أن العالم الآن يسير وفق مؤامرة أطرافها قوم أُوتوا من العلم نصيباً غير منقوص ولكنهم غابوا يومَ قَسْمِ الرحمة والأخلاق.
قرأ لزيدان ( النبطي) وأعجبته إلا فقرة أفسدت عليه الكتاب كله وقرأ ( ظل الأفعى) و( محال) وختم (بجوانتنامو).
وقرأ رواية (حراك السكون ضد العاصفة) لكاتب سوداني هو حاتم بابكر عوض الكريم وهي باكورة إنتاج مبشرة، فكرته واضحة عما يريد قوله ولا يخشى مخالفة السائد في الأدب الذي هو مخالفة السائد في المجتمع!
لم يجد فيما قرأ لغة أرفع أو تشابه لغة محمود المسعدي التونسي الضخم، كان كتابه ( حدّث أبو هريرة قال ) فتحاً: اللغة العالية الرفيعة والحس الوجودي وتناول القضايا في أفقها التجريدي : أحاديث الوحشة والجماعة والفرد والعدد والحس والغيب واليقين يُطلب في تلك الثنائيات فلا يُدرك. قدّم توفيق بكار الرواية وتقديمه نفسه رواية أخرى داخل الرواية وكذا النقد الحق. وقرأ له (مولد النسيان) ثم قرأ روايته الأشهر ( السد) وكان قرأ عنها في كتاب معلمه الأثير الموسوم (بين النير والنور). بين النير والنور عجيبة من عجائب البيان وتداعي المعاني أظهر فيه عبد الله ذخيرته الواسعة من الأدب الروائي العالمي، مثل (أصوات وحناجر) لصديقه أحمد الطيب أحمد.
و على ذكر الأحاديث قرأ رواية ( حديث عيسى بن هشام) لمحمد المويلحي وهي جيدة وعربيتها سليمة مبينة ولكنها بعيدة عن سماوات المسعدي إذ هي رواية أرضية بالمقارنة.
كل رواية تفتح الباب لعدة كتب يقرأها: شفرة دافينشي أولجته لعالم المسيحية فقرأ عنها ما لايقل عن عشرين كتاباً في مدة وجيزة. ورواية ( إنفيرنو) ذهبت به إلى مؤامرة تقليص السكان (والرمز المفقود) و(حقيقة الخديعة) لعوالم المنظمات السرية وهلم جرا.
قرأ ( القلعة البيضاء) لأورهان باموق حائز نوبل التركي، و( الأشياء تتداعي) لشنوا أشيبي النيجيري وأخافه مكر الاستعمار ومصير بطل الرواية، وأعاد قراءة الطيب صالح بعد ما قرأه في ميعة الصبا واكتشف أن الانسان لايستطيع أن يدعي أنه قرأ كتاباً وفرغ منه لأن الانسان كائن متجدد متحول كل يوم هو في شأن وما الكتاب إلا وسيلة لأن يقرأ الانسان نفسه. دخل عالم الصادق النيهوم الليبي - وهذا خارج سياق حديثه عن الرواية – وأحلام مستغانمي الجزائرية : أعجبته ثلاثيتها ولم يعجبه كتاب ( نسيان com) فهو نزاري السنخ .وقرأ (زهرة الصبار) لعلياء التابعي التونسية ودخل قبل ذلك عوالم فنتازيا ماركيز. وأعجبه عبد العزيز بركة ساكن: كاتب جيد لو أتقن اللغة. اللغة مهمة: جيمس جويس استنفد مخزون اللغة فلم تسعفه. نحت جويس كمّاً من الكلمات الجديدة واستخدم معارفه اللغوية الانجليزية واليونانية والعربية وغيرها. ومن شاء فلينظر إلى روايتيه (عوليس و يقظة فينيقان). ترجم عوليس مترجم مصري يدعى طه محمود طه، استغرقت الترجمة معه عشرين عاماً وضع خلالها قاموساً بكلمات الرواية، ومع هذا فليس هناك من يعرفه. قلما كتاب قرأته في الآونة الأخيرة يخلو من أخطاء اللغة.
رواية ( الجنقو) جميلة جريئة وثلاثية البلاد الكبيرة (الطواحين - رماد الماء – زوج إمرأة الرصاص) بها نضج فني ينبئ عن مستقبل كبير لبركة ساكن وكذلك رواية ( عرس الطين). لم يكمل رواية (مسيح دارفور) بعد.
قرأ كتاب لمياء شمت النقدي (تأملات ومشاهدات)، لمياء شمت ناقدة لغتها آسرة وروحها حلوة تلتقط الجمال في الأعمال وتدل عليه – عكس مفهوم النقد في السودان – وقلّما تشير لمثالب الأعمال، لا أذكر أنها أشارت لمنقصة في عمل في كتابها ذلك. أعرف أن بعضهم يعيب هذا فمن شاء فليرجع إلى ( غربال) ميخائيل نعيمة في النقد ومقدمة العقاد لذلك الكتاب قبل زهاء القرن من الآن.
معظم نقاد السودان كتبهم كالدوم: ثمره قليل السكر وظله قليل ومع ذلك يرمي بظله بعيداً عن الجوار، لمياء من قلائل الاستثناءات.
نقد عبد الله الطيب خمرٌ في أسره، سكّرٌ في طعمه، منبّه للعقل شاعريٌّ بصيرٌ مبصّرٌ، أكثر إمتاعاً من الأعمال المنقودة نفسها، وكذا الدكتور أحمد الطيب أحمد وكتابه ( أصوات وحناجر) ينبئ عن إطلاع واسع وبصر بالأدب الغربي ولا غرو فهو أول عربي ينال درجة الدكتوراة في المسرح.
استسهال الكتابة كاستسهال كل شئ شائع ميسور في هذي البلاد. تناول القضايا السياسية والأفكار الرائجة مثل الحرية وحقوق الأقليات والمجموعات المضطهدة والمنفية صار سوقاً رائجة وهو أمر حسن ولكن يأتي عمق التناول كأقسى محك: وكل نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك.
وعلى ذكر المجموعات المنفية قرأ كتاباً أسمه ( نساء يركضن مع الذئاب) للكاتبة كلاريسا بنكولا كتاب رائع يجمع بين علم الجنوسة والفولكلور.
الفن نقيض المباشرة، والسياسة في معناها الشائع فعل مباشر. لم تشده رواية ماركيز (الجنرال في متاهته). أكملها ليتعرف على سايمون بوليفار الثائر الأمريكي اللاتيني. السياسة أرضية قريبة من الناس والأدب سماوي، أذكره هذا بقول شوقي ( صوني جمالك عنا إننا بشر*** من التراب وهذا الحسن روحاني). من دنا في كتابته من السياسة سيقترب من بعض الناس أكثر ولكنه سيحجب عن الأكثرية التي ترى ما هو معلق في السماء. رواياته الأُخر باهرات: ( مائة عام من العزلة – في ساعة شر – الحب في زمن الكوليرا)
كان يقول: عجبت كيف يفهم الحرفيون وأصحاب المباشرة النص القرآني. القرآن كتاب واحد تقود كل سورة لتاليتها وكل آية لتاليتها وكل جملة لتاليتها وكل حرف لتاليه هذا من حيث السبك وترابط المعاني دعك من الأسلوب الاشاري ودلالات الأمثال والتساوق المعنوي. وكان حمزة القارئ يعد القرأن بمنزلة السورة الواحدة. وتفسير البقاعي ( نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) على سبيل المثال يشير للجزء الأول: الوحدة والترابط ، والتفاسير الصوفية تشير للجزء الثاني. البقاعي تفسيره جيد للغاية ومن ذريته ثروت الخرباوي صاحب (سر المعبد) و(قلب الأخوان) . وعرض ذلك سيأتي حين حديثه عن عالم المفسرين والتفسير والله على كل شئ قدير.
(منسي) للطيب صالح كتاب في السيرة الذاتية ، روحه جد خفيفة وهو غاية في الإمتاع. الكتاب مع روحه الفكهة يتخلله حزن عميق وتأمل في حصاد العمر فكأنه سيرة ذاتية مزدوجة للطيب صالح وصديقه منسي وفي الرواية معارف كثيرة وإشارات ذكية وتجسيد للشخصيتين السودانية والمصرية ومجالات المقارنة والمقابلة.
قرأ رواية (إبحار عكس النيل ) للإعلامية العراقية فايزة العزي عن إنفصال جنوب السودان.
وقرأ (بنات الرياض) لرجاء عبد الله الصانع، للرواية رواج كبير فالتنطع والثراء يجلبان الشماتة والحسد. وقرأ (جروح الذاكرة) لتركي الحمد ولم تعجبه إحتاط الكاتب فيها على لسان بطلة روايته من نقد النقاد لتقنية الرواية. وقرأ (شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف رواية جميلة مؤثرة رغم موضوعها المباشر. تصاعد إيقاعها وازداد عمقها وبلغت ذروتها في فصولها الأخيرة. فكرتها ثورية تشبه أغنية فيروز (هدتكم الاشاعات) في مسرحية الرحبانية (حجر الصوان): رميُ القلمِ والعودة للوطن والانخراط في النضال ومواجهة الاعتقال والموت.
قبيل ثورة مصر قرأ للأسواني (عمارة يعقوبيان). الأسواني في عمارته كان قاسياً على المجتمع المصري. قال صاحبنا لنفسه ( ألا يعرف هذا المصري المصريين ) أم هو اعتمال الثورة في أحشائه خرجت قبل موعدها غضباً وتحريضاً؟ وأعجبه إدريس على في (انفجار جمجمة ) ولكنه حيثما جاء بشخصية سودانية برز الاحتقار في ثنايا حديثه عنها مع أنه نوبي مهمش مثل السودانيين. قال محمد طه الصحفي القتيل رحمه الله كلمة بليغة عندما اتُّهم بالتشيع: ( أنا سني مرمّد مثلكم !)
وقرأ رواية (مولانا) لإبراهيم عيسى وهي رواية خفيفة الظل متوسطة الجودة متوسطة الشجاعة متوسطة الفكر تناولت الواقع المصري قبل ثورة يناير: تعفن الدولة المصرية المباركية وتمدد جهاز الأمن السرطاني في الحياة المصرية وأشكال التدين المصري في مواجهة ذلك الواقع. كُتبت قبل الثورة وخُتمت بعدها. هل خُتمت أم وقع الكاتب تحت إغواء النهاية المفتوحة لعل الزمان يتيح له كتابة جزء تالٍ منها إذا صادفت الرواية نجاحاً أو سمحت الظروف بذلك؟!
قرأ ( التلصص) لصنع الله إبراهيم فتركت أثراً عابراً، هل تلصص صنع الله على هنري باربوس وروايته (الجحيم)؟ بطل الجحيم لا منتمي يتلصص عبر ثقب في الجدار على جارة تستأجر غرفة.
أعجبته قدرة حنّا مينا على السرد في ( الياطر) ثم قرأ روايات أخر له (الثلج يأتي من النافذة) و ( مأساة ديميتريو) وغيرهما، لغته خصبة وإيقاعه سريع ينبض بالحياة حياة المتوسط وإرثه وخصب البحر ومغامراته وشبق أهل الموانئ وبحّارتها وشغفهم.
لم يبق شيء في الذاكرة من المسرحيات المترجمة التي قرأها: المسرحيات في الورق مثل الألحان على النوتة الموسيقية لا تطرب فما بالك إذا كانت مترجمةٍ: (جريمة قتل في الكاتدرائية) لأليوت، (في انتظار جودو) لبيكيت، (الميجور باربارا) لبرناردشو، (موسم في الكونغو) لأيمي سيزار (حورية من البحر) لهنريك إبسن،(ليلة تبكي الملائكة) لبيتر ترسون وشكسبيريات عديدة: (الملك لير) (يوليوس قيصر) (الأعمال بخواتيمها) (العاصفة) (هاملت) كلها ذهبت أدراج الرياح. ومثلها ذهبت (يا طالع الشجرة) لتوفيق الحكيم. لا زال يذكر خيبة أمله فيها ( قرأها أيضاً في صباه) وأعجبة نقد طه حسين اللاذع لها ومن الروايات الذواهب روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس.
وقرأ (أحدب نوتردام) لفيكتور هوغو في أواخر الطفولة وبواكير الصبا فأعجبته.
( الأوديسة) ترجمتها سيدة مصرية ترجمة جيدة ضاع اسمها كأغلب أسماء المترجمين.
بقي أثرٌ من (بئر الحرمان) لإحسان عبد القدوس لأنه قرأها في أواخر طفولته قبل الصبا والعلم في الصغر كالنقش في الحجر. أو ربما استهوته محبة البطل (أوالبطلة لايذكر) لأمه وخوفه المرضي عليها.
مسرحيات شوقي الشعرية جيدة، أعجبته مسرحية ( الست هدى) لما بها من خفة الروح والفكاهة المصرية، ومن البصارة في معالجة الشعر ومغالبته واستخدام أساليب تجار المصريين في التزيين والخداع والتلفيق المحبب!
في ( عنترة) يعلو شوقي ويهبط ويسمو ويسف وكذا في ( مجنون ليلى) وشوقي عبقري ماهر لا يعجز ولا يتحيّر!
لم يعجبه المهجريون: لا شعرهم ولا رواياتهم، قرأ باهتمام (النبي) لجبران. لم يستسغ قراءة الروايات بالانجليزية : لعدم إمتلاكه ناصية اللغة ولكنه كان يقرأها لتجويد لغته. لم يبق منها شيء سوى (أربع قصص قصيرة طويلة) وهذا عنوان الكتاب، أما أصحاب القصص فقد نسيتهم، و(خمس مسرحيات لأوسكار وايلد) مجموعة في كتاب وبدأ (الرجل والسلاح) لبرناردشو ولم يكمله وكذلك مختصر (للفردوس المفقود) لملتون.
لم تخرج الروايات على كثرتها عن موضوعة الانسان وغربته النفسية وحوار الفرد مع الجماعة والمجموعات مع المجموعات وحوار الحوارات أو صدامها ونزعة الهيمنة والتعدي وكيفية التصدي لها وحوار الغيب والشهادة أو الغيبة والشهود والطين والروح: ألحان ومقامات وتقاسيم عديدة صادرة عن نفس الأوتار السبعة تنقص أو تزيد.
(رسالة الغفران) ممتعة أكثر ما لفته فيها أنه رأى المعري فيها سُنّياً على مذهب أهل السنة والجماعة كما يقولون، كتبها بنفس مطمئنة على خلاف الكثير من أشعاره وكتاباته. الانسان كما بدأنا القول نعيده ليس واحداً: فيه الصوفي والسلفي المتطهر واللاأدري والأصولي والملحد والزنديق والراضي والمتحدي والمستسلم والثائر والقانع والحكيم والمتهور: المعري ذلك الخليط النفسي ولا تناقض وهو نفسه قال عن الانسان:
والذي حارت البرية فيه *** حيوان مستحدث من جماد
قال لبيد قبله:
قإن تسألينا مم نحن فإننا **** عصافير من هذا الأنام المسخر
وبعده قال السياب:
والذي حارت البرية فيه *** حيوان مستحدث من نقود!
ولا تفتحوا عليه باب الشعر وقراءته فقد أغلقه منذ زمن، وأصبح يستريح من عناء القراءة الطويلة بلحظات خاطفة من قراءة الروايات التي لم يبق في الذاكرة منها سوى ما حدّث به أعلاه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.