هذه مقالات متتابعة تحكي عن حياة الشيخ بابكر بدري كما رواها هو في كتابه المسمى تاريخ حياتي .. ولقد قام هذا المحرر بتلخيص ذلكم الكتاب ، وها هو ينشره للنفع العام ، في حلقات متتابعة، على غرار (بداية المجتهد ونهاية المقتصد). لعمري لن يستغني المجتهد عن قراءة الكتاب الأصل. أما المقتصد والذي لا يجد سعة في وقته، أحسب أن هذه المحررات ستعطيه الفكرة والمعلومات الكفيلة بالتعريف بالشيخ المعلم المجاهد التاجر الفقيه والسياسي ايضاً.، رحمه الله وأحسن إليه.أرجو أن يسعد القراء بهذا العمل.. رب بارك لي وأربي صالح العمل القليل.. وأنسجن بالنور دربي واحفظني لا أميل. [email protected] ظهور المهدي والهجرة لحصار الخرطوم اشترينا يوماً بطيخة، فوجدنا فيها خطوطاً في حب البطيح، تقرأ: لا إله إلا الله، في صفحة، وفي صفحة الحبة الثانية خطوط مقسومة، يمكن أن يظهر فيها محمد، والبقية متقطعة. فلما أخذناه إلى شيخنا الإزيرق ، قال لنا رسول الله لا يحتاج لمعجزة في هذه البلاد الإسلامية. وذكر بعض الكلام عن المهدي أغضبني، لكن لهيبته لم استطيع أن أكلمه رغم اعتقادي في المهدي، الذي كنتُ أعرفه حينما كان يزور رفاعة لوصال أقاربه. تحرك الشريف أحمد ود طه باسم المهدية ضد الحكومة، في قريته الشرفة، القريبة من مدينة رفاعة، وقتل عساكر الحكومة. ثم رفض الشريف تسليم نفسه للحكومة فقُتِل. وقد خاف علينا أهلنا، فطلبوا رجوعنا. رجعتُ من مدني بغير رغبتي، وتركتُ المسجد عامراً بالطلاب. في هذه المدة رجعتُ اقرأ على الفقيه يوسف النعمة. وقد ظهرت المهدية بالحلاوين عندما انضم لها الشيخ محمد البصير. عند ذلك لبست الجبة (الزي المتخذ لأنصار المهدي) واخلصتُ للمهدية، مثل والدتي باطناً وظاهراً . فانضممتُ لديم (معسكر) ود البصير بمنطقة الحلاوين بالجزيرة. طلبتْ منّي أمّي الهجرة للمهدي بإلحاح وتشوُّق. وقد كنتُ رأيته، عندما يزور بعض أقاربه في رفاعة، كنّا ونحن طلاباً، نقصده لنصلي معه المغرب لنسمع قراءة الخشوع. قرأ مرة سورة القارعة في الركعة الأولى، فلمّا قرأ (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) صعق، وخر مغشياً عليه. فأتمّ الصلاة أحد غيره من حيرانه (حوارييه). ولم يصح حتى بارحناهم. هاجرتُ ووالدتي. وقد استنفر والدي من قبل فيمن أستنفر، ضمن الدعوة المهدية إلى حصار الخرطوم. فأخذتُ معي والدتي وزوجة أبي وزوجتي (حواء) وما في البيت من مخزون محصول السمسم، واستاجرتُ مركباً للرحلة إلى الخرطوم. تركتُ أخي الأصغر موسى لخدمة مزارعنا التي لم تحصد بعد. عندما وصلنا إلى الجريف (صارت مدينة الجريف المعروفة بالخرطوم)، خرجتُ من المركب قاصداً الديم (المعسكر). فلما رآني والدي في الديم (مكان حي الديم الحالي بالخرطوم) تفاجأ بوجودي وسألني، أجبتُه أنّي تركتُ المحصول لله، وأن الجهاد أفضل من المحصول. ذهب والدي لترتيب شأن الأسرة التي وصلت للتو، فاستأجر لهم مكاناً. والتحقتُ أنا بقوات الحصار، بقيادة ود النجومي . وكنتُ في أقرب المواقع تجاه الخرطوم. ولم أرجع لأهلي إلا بعد اسبوعين. مع ود النجومي: في يوم من الأيام جاء أحد معارفي بمنشور بخصوص المتخلفين عن المجيء للمشاركة في الحصار، بأن لا يزوجوهم ولا يعاملوهم ولا يُصلّى على من مات منهم. فعارضتُه أن هذا لا يمكن أن يصدر عن المهدي. فاتهمني بأن نور الإيمان لم يدخل قلبي. غضبتُ وتوجهتُ إلى المنزل الذي كنتُ أظنه للأمير ود النجومي. فخرج أحد، وسألته إذا ما جاء منشور بالمضمون المذكور. فإذا بالرجل ينفي، ويتقدم معي يحادثني، ثم يضع يده اليسرى على كتفي الأيمن، سرت معه ويدي اليمنى على كتفه الأيسر. وكان البعض يتبعنا، حتى وقف أحدهم بخضوع حاملاً مسدساً وذخيرة، قائلاً سلمني فلان هذه لأوصلها لسيدي ود النجومي. فقال صاحبي: سلِّمْها إلى فلان. فتأكدتُ أن رفيقي هذا هو الأمير ود النجومي، الذي ارتفع عندي بهذا التواضع. فشرعتُ أتحلل منه، فلما شعر بذلك صافحني وأمرني أن أصلي الظهر في الصف الأول، من جهة اليمين. وأن أقوم بعد أن يسلم الإمام (إنتهاء الصلاة) لكي يراني. وقد قمتُ بعد الصلاة بالفعل وشرحتُ مسالة المنشور، والذي أُرسلتْ منه نسخة للمهدي، فجاء رده بالنفي. كما تم التعميم بعدم صحة أن اي منشور غير مختوم بختم المهدي. خرجنا مرة ونحن تسعة نفر من الديم ، فلما قابلنا باب المسلمية (مكان كبري المسلمية، جنوب مستشفى الخرطوم الحالي)، رأينا عساكر من جيش الحكومة خارجين من الققرة (الحصن)، اعتقاداً منّا أنهم ذاهبون إلى الجريف للحصول على الغلال، لما يعانيه سكان الخرطوم من قلة الغذاء. أطلقنا عليهم النار من بنادقنا. وفي هذا الحال أنا رأيتُ شبح المهدي (عليه السلام) متقدماً من باب المسلمية قاصداً جماعة العساكر وقد ظهرت تماماً مع قائدها على حصانه. فجعلت أقول لمن معي هل ترون المهدي قاصداً العسكر. أجابوا بالنفي. فأشير إليهم أنه نحو تلك الشجرة الصغيرة، والآن يصعد إلى قوز الرملة (كثيب رمل). وأنا أنظر لذلك الشبح حتى دخل وسط العساكر . عندئذ اضطربت العساكر واختل لديهم النظام ورجعوا من حيث أتوا. ثم اتجهنا إلى ناحية بُري (ضاحية بري المعروفة في الخرطوم). فاض النيل في موسمه ذلك العام، فأرسل سكان الخرطوم المحاصرون الوابورات إلى ناحية سنار ، ولم تجد مبتغاها من الحبوب. ولم تتمكن من الوقوف في اي نقطة أخرى. وكذلك أُرسل وابور على النيل الأبيض ليجد مقاومة في بلدة القطينة ، ليرجع إلى الخرطوم خائباً. وعندما أحس غردون بشدة وطأة الحصار، ولم ير فائدة في بقاء الأهالي الجوعي معه، الذين لا يستطيعون حتى الدفاع عن أنفسهم، سمح لهم بمغادرة الخرطوم. فنشروا معهم خبر المجاعة، ومن ثم شدد الأمير ود النجومي حصاره. ولم نشهد بعد ذلك أي قوة تخرج لمهاجمتنا، إذ كان غردون يمنّي نفسه بوصول حملة الانقاذ المرسلة له من مصر. فتح الخرطوم: عندما سمح المهدي بتقدم حملة إنقاذ غردون، متجاوزة لعقبة جقدول، شمال غرب المتمة. قام بإرسال جيشاً كثيفاً، قوامه قبائل دغيم وكنانة، تحت إمرة الشيخ موسى ود حلو، ليلتقي مع حملة جيش الانجليز في منطقة ابوطليح (غرب المتمة)، فلم يستطع جيش موسى الحلو إيقاف الحملة. ولما وصل جيش الحملة إلى المتمة، جمع المهدي أهل شوراه الذين اتفقوا على التعجيل بفتوح الخرطوم، قبل وصول جيش الحملة. وفي ليلة الاثنين، 16 ربيع ثاني، في سنة 1302ه (الموافق 26 يناير1885)، جاء المهدي إلى جيش ود النجومي وجمعه، بين الخرطوم وحلة الغرقان (حلة الشيخ دفع الله الغرقان، وهي الرميلة). خطب الناس وهو على جمل، وأخذ منهم البيعة : بايعوني على قص الرقبة(ضرب الرقاب). ليقول الجيش وبصوت واحد: بايعناك على قص الرقبة. وقد كرر العبارة ثلاث مرات. ليقول: إن فتح الله عليكم، غردون لا تقتلوه، والشيخ حسين المجدي لا تقتلوه، والفقيه الأمين الضرير لا تقتلوه، والشيخ محمد السقا لا تقتلوه. ومن رمى سلاحه لا تقتلوه، ومن قفل عليه بيته لا تقتلوه. ثم بايعنا البيعة المعتادة: (بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم. أما بعد فقد بايعنا الله ورسوله ، وبايعناك على توحيد الله وآلا نشرك به احداً ولا نسرق ولا نزني، ولا ناتي ببهتان، ولا نعصيك في معروف ، بايعناك على زهد الدنيا، وتركتها والرضى بما عند الله، رغبة بما عند الله والدار الآخرة وعلى الا نفر من الجهاد). بايعنا الله ورسوله، وبايعناك على ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني ولا نعصيك في معروف، وألا نفر من الجهاد. بايعناك على زهد الدنيا، واختيار الآخرة. ثم تحركنا براياتنا نحو حصون الخرطوم. بعد أخذ البيعة، تحركنا فجراً براياتنا نحو الخرطوم المحصّنة. دخلناها من الناحية الجنوبية الغربية (منطقة جامعة السودان واستاد الخرطوم الحالية). فعندما فاض النيل، في موسم فيضانه، كان قد ارتفع ماء النيل الأبيض إلى الخندق الذي حفره غردون حول الخرطوم، ثم رجع الماء ليردم ذلك المكان (في منخفض مشتل الغابات التي تقع في مدخل غابة الخرطوم، والمصرف الموجود الآن)، رغم الأوحال التي تركها الماء. كنتُ في أوائل من دخل عبر تلك الفجوة، حتى وصلنا مكان المدفع الذي كان يضرب نحونا. باندفاعنا نحوهم دخل طاقم المدفع إلى خيمتهم وهدموها عليهم، فقتلوا تحتها. مقتل غردون والشيخ الضرير والشيخ حسين المجدي: وتقدمنا حتى وصلنا قبالة سرايا غردون (القصر الجمهوري الحالي)، لنلتقي بالأنصار الذين دخلوا عبر منطقة بُري. عند وصولنا للسرايا وجدنا غردون ملقي ودمه يجري. وقد سمعنا المهدي من قبل نحو ساعتين فقط رافعاً صوته يقول: غردون لا تقتلوه. وصلنا مسجد الخرطوم، وقد رأينا الشيخ الضرير والشيخ حسين المجدي قد قتلا. وقد أمر سكان الخرطوم بالخروج للديم. كان والدي رحيماً باسراه من سكان الخرطوم. لم يقتل احداً، رغم أنه دخل الخرطوم في أول الداخلين. بل إنه أخذ ثمانية من الرجال وخرج بهم اثناء المعركة، وكلمّا هوجم، اعترض بقوله: هؤلاء صنّاع، يحتاج لهم في خدمة الدين ، أمرني الأمير ود النجومي أن أوصلهم للديم. فيتركونهم، حتى أخرجهم. وبقي بعضهم بمنزلنا، حتى سافر أبي لكركوج بعد ثمانية أشهر من فتح الخرطوم. وقد قابلني أحدهم وقت أسري بمصر، ستاتي قصتي معه عندئذٍ صدر الأمر للأنصار (مؤيدي الإمام المهدي) بحجز المنازل. وجدنا في المنزل الذي حجزناه حلياً مخبأة في بئر المنزل، ولم يكن يمثل لدينا شئيا، لزهدنا فيه. كان عمري حينها ثلاثة وعشرين سنة. زار المهدي الخرطوم يوم الجمعة، على حصان أسود. عندما دخل غلى بيت المال، كنتُ خلفه مباشرة. عندما فتحت غرفة الذهب، أشاح المهدي بوجهه بعيداً. ولما وصل للزريبة (حظيرة)، مكان جمع النساء والولدان أمر أمين بيت المال (أحمد سليمان) بأن يتم توزيعهم، كل إلى أهله، فكل من عَرِفَتْ أحدأً أو تعرّفت إلى أحد أن تسلم إليه قبل غروب الشمس. وأن يتم تزويج الشباب ممن لم يعرفن أحد أو لا يعرفهن أحد. استعاذ المهدي في حديثه وأعاذ الناس من الإنشغال بالدنيا. وتنقل المهدي بين الخرطوم وأم درمان. وفي اليوم الثالث لفتح الخرطوم وصلت الخرطوم وابوران مرسلان من جيش الخلاص، والتي تصدت لها نيراننا لتلوذ بالفرار. غزو شمال السودان: لم ينس المهدي مقتل جيش موسى ود حلو في أبي طليح ، الذي تقدم لملاقاة جيش انقاذ غردون . فأمر المهدي ود النجومي بالتوجه للمتمة لطرد الانجليز منها. وقد كنتُ ضمن هذا الجيش. رافق المهدي الجيش حتى كرري، ليودعنا بتجديد البيعة. وعندما وصل ود النجومي إلى المتمة وجد جيش الانجليز قد غادرها إلى دُنقُلا. فكتب لنا المهدي منشوره الشهير: أحبابي لا يخفى أنكم ممن صحبني في القلة، وقام معي في الله بلا علة. وفدى الدين بمحبوباته رغبة فيما عند الله. أحبابي إن الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ، وليجدوا فيكم غلظة).. سيروا إلى الله عرجى ومكاسير (كلكم بما فيكم ذوو العرج والإعاقة). ولا تنظروا لخيال التشاهيل (المؤن) المؤدية إلى التعطيل. فإنكم أحبابي من العقلاء والفطناء الذين يعملون أن قيامنا في هذا هو بالله ابتداء وإنتهاء ولو كانت الأموال والتشاهيل مما ينفع أو يضر، لكان الترك في ذلك حظ وافر، ولكن كل من كان لله، كان الله له... ومن تمسك بالأسباب تقطعت به من مقام الأطياب إلى منازل الكلاب، وحاشاكم ذلك أيها الأحباب.... رأيت يوماً في المنام أني والمهدي ومعنا ثالث ، أننا نرفل في القيد. وفي الرؤيا أن المهدي ذهب بقيده وأنا تبعته قليلاً، حيث مشى المهدي غرباً وأنا أنظر إليه حتى غاب عن عيني بدون حائل ولا ظلمة أو غبار. قصصت الرؤيا على من يفسر الأحلام فقال إن صحت هذه الرؤية فإن ثمة أمراً عظيماً سيحدث. وبعد أن توفى المهدي سألني ذلك الشخص أنه ماذا كنت تفعل إذا قلتُ لك إن المهدي سيموت قريباً؟ أجبته ساقتلك قبله يليه (في سرية ود النجومي)
