500 عربة قتالية بجنودها علي مشارف الفاشر لدحر عصابات التمرد.. أكثر من 100 من المكونات القبلية والعشائرية تواثقت    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    حمّور زيادة يكتب: من الخرطوم إلى لاهاي    قيادي بالمؤتمر الشعبي يعلّق على"اتّفاق جوبا" ويحذّر    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوطنية والأممية في منهج عبد الخالق محجوب: ما بينه والرفاق السوفيت .. بقلم: د. عبد الماجد على بوب
نشر في سودانيل يوم 24 - 01 - 2015

من خلال قراءة بعض وثائق المخابرات السوفيتية (ك. جى . بى) التى كشفت عنها المخابرات البريطانية فى عشرينات القرن الماضى اتضح بأن السودان قد حظى باهتمام مبكر ضمن الاستراتيجية السوفيتية. وقد شرع السوفيت وقتها فى ايجاد موطىء قدم لمخابراتهم فى منطقة الحجاز. أما عن صلة الحزب الشيوعى السوفيتى بالقوى السياسة الصاعدة فى مصر وسوريا على وجه الخصوص فقد كشف النقاب عن رسائل متبادلة بين لينين والزعيم المصرى محمد فريد، كما تم استقطاب الزعيم السورى خالد بكداش الذى اعتبره السوفيت لعقود طويلة أوثق حلفائهم فى الشرق الأوسط. وفى منتصف ستينات القرن الماضى، عقب انتصار انتفاضة اكتوبر1964 تعززت مكانة عبدالخالق محجوب بين القادة الشيوعيين فى افريقيا والشرق الأوسط واحتفى به الرفاق السوفيت أيما احتفاء.
ذكر التيجانى الطيب بابكر، أحد مؤسسى الحزب الشيوعى السودانى بأن ‘الحركة السودانية للتحرر الوطنى‘ (الحزب الشيوعى السودانى لاحقاً) لم يكن لها صلات مباشرة بالحزب الشيوعى السوفيتى. وأن أول اتصال رسمى تم بعد لقاء ممثلين للطرفين على هامش مؤتمر الحزب الشيوعى البلغارى. ولكن لائحة ‘الجبهة المعادية للاستعمار‘، الواجهة العلنية للنشاط الجماهيرى الذى أسسته طلائع الشيوعيين العائدين بعد سنى الدراسة فى مصر – نصت على أن الجبهة المعادية للاستعمار تعمل على هدى "النظرية الماركسية، اللينينية الاستالينية". ويدلل ذلك على أن الصلة الفكرية قد سبقت الروابط التنظيمية التى نشأت فى وقت لاحق. كما أن ابتعاث وفود الشباب للمشاركة فى المهرجانات العالمية واللقاءات التضامنية لدرء خطر الحرب بين حلفى وارسو والناتو والحد من انتشار الاسلحة النووية، فتح نافذة مبكرة للصلة بين الحزب الشيوعى السودانى ودول المعسكر الاشتراكى.
وربما لم تنشأ صلات مباشرة بين الحزب الشيوعى السوفيتى والحركة السودانية للتحرر الوطنى (المعروفة اختصاراً باحرفها الأولى وتقرأ حستو) ولكن التأثير الفكرى للحركة الشيوعية العالمية تسرب الى الشيوعيين السودانيين من خلال قنوات عديدة تمثلت فى ابتعاث أعداد من الطلبة السودانيين بعد عام 1956 الى دول المعسكر الاشتراكى. وانخراط الطلبة السودانيون فى التنظيمات الشيوعية المصرية وأبرزها ما يعرف باسم ‘حدتو‘ اختصاراً للحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى. وتبوء عدد من الشيوعيين السودانيين مواقع ذات وزن كبيرفى هذا التنظيم. ومن بين هؤلاء عبده دهب، وعبدالماجد أبوحسبو وأحمد زين العابدين وعبدالخالق محجوب والجنيد على عمر واحمد سليمان، وعزالدين على عامروهذا على سبيل المثال لا الحصر.
بينما كان التيجانى الطيب من أبرز الذين انخرطوا فى تنظيم شيوعى اخر عرف باسم (أسكرا) وهذا الاسم مستمد من اسم صحيفة الحزب البلشفى فى بداية القرن العشرين بعنوان أسكرا وتعنى الشرارة. وفى نحو عام 1947 توحد الطلبة الشيوعيون السودانيون فى تنظيم مستقل عرف اختصاراً باسم ‘حستو‘ (الحركة السودانية للتحرر الوطنى). وتولى الشيوعيون السودانيون الحفاظ على جسد الحركة الشيوعية المصرية بعد أن تعرض جل قادتها للاعتقال والملاحقة من قبل أجهزة المخابرات المصرية. ومن بين أبرز مساهاماتهم اصدار مجلة أم درمان التى حملت اسماً سودانياً لاخفاء حقيقة انتمائها للحزب الشيوعى المصرى باشراف هنرى كوريل. وحتى ذلك الحين لم تنشأ صلات تنظيمية مباشرة بينهم والحركة الشيوعية العالمية.
عاد عبدالخالق محجوب الى السودان فى عام 1946 بعد أن داهمه المرض بسبب تعرضه لأوضاع مزرية فى المعتقلات المصرية. ومنذ رجوعه من مصر انغمس فى البناء الحزبى وأتخذت الحركة الشيوعية السودانية (حستو) منحىً ثورياً فى مضمار النشاط الفكرى والاتجاه الى تنظيم طلائع عمال السكك الحديدية فى مدينة عطبرة، واسهموا فى الربط الناجح بين النضال النقابى والأهداف السياسية فى معركة الاستقلال.
فى فترة لاحقة توجه المحترفون الشيوعيون للعمل وسط المزارعين، خاصة فى مشروع الجزيرة والنيل الابيض. وفى ذات الوقت شرعوا فى تأسيس الجبهة المعادية للاستعمار كبوتقة للتحالف بين الشيوعيين والعناصر الوطنية التى نأت بنفسها عن طائفتى الانصار والختمية والقيادة المحافظة للمؤتمر العام للخريجيين.
وعبدالخالق محجوب هو القائد الفعلى الذى وضع الحزب الشيوعى فى قلب الحركة العمالية واتحادات المزارعين وجماهير المدن. ومن ماثره الكبرة أنه أحسن قراءة الفكر الماركسى وثابر على انزاله الى ملامسة واقع بلادنا. وكان استراتيجياً ثاقب الرؤية. وظلت مهمة بناء التحالفات السياسية الناجحة فى مقدمة اهتماماته، ابتداءً من اقامة الجبهة المعادية لاستعمار والعمل ضمن تجمع الجبهة الاستقلالية لنيل استقلال السودان بلا قيد أو شرط. وتولى الشيوعيون تحت قيادته تأسيس ‘جبهة المعارضة‘ لنظام الفريق ابراهيم عبود (1958-64) وكذلك جبهة القوى الاشتراكية بعد انتصار انتفاضة اكتوبر(1964)، وقاد الجهود الواسعة لتوحيد القوى الاشتراكية فى معركة انتخابات الرئاسة فى أعوام 1968 و 1969.
فى اطار المناقشات التى دارت فى مجلس الأمن (1947) لمناقشة المسألة السودانية ومطلب الاستقلال الوطنى وقفت دول المعسكر الاشتراكى (الاتحاد السوفيتى باعتباره عضواً أصيلاً فى مجلس الأمن وجمهورية بولندا الاشتراكية كعضو مؤقت) موقفاً داعماً لمطلب استقلال السودان. وفى عام 1956 ابتعث السوفيت وفداً لتهنئة الحكومة الوطنية باعلان استقلال السودان. وكانت تلك مناسبة لعقد لقاء مباشرة بين الوفد السوفيتى ورفاقهم السودانيين. وهنالك رواية متداولة أوردها الراحل الطيب صالح ضمن مذكراته التى حققها الكاتب الصحفى طلحة جبريل أن الأمام عبدالرحمن المهدى عند سماعه بوصول الوفد السوفيتى الزائر دعا اليه فى روح الأبوة والشهامة السودانية، عبدالخالق محجوب واستفسره عن برنامجهم للاحتفاء برفاقهم السوفبت, واخبره عبدالخالق بانهم بصدد اقامة حفل شاى على شرفهم. ولم يستحسن الامام عبدالرحمن الفكرة باعتبار أن ذلك يعد تقصيراً فى ابداء واجب الحفاوة اللائقة بالضيوف كما جرت العادة فى السودان. وذكر لعبدالخالق أنه من مقتضيات الكرم السودانى، أن يعود السوفيت الى بلادهم ويذكروا لرفاقهم هناك بأنهم أكلوا طعامنا ولمسوا حفاوتنا. واقترح على عبدالخالق بأن يتولى عنهم دعوة رفاقهم السوفيت الى حفل عشاء فى قصره بالخرطوم، وبأنه سيخلى لهم الأجواء للانفراد بضيوفهم. فحمل عبدالخالق دعوة الامام للحصول على موافقة رفاقه. وبطبيعة الحال تقبلوا دعوة الامام عبدالرحمن على أن يطلبوا منه أن يكون حاضراً باعتباره صاحب الفضل الحقيقى فى تلك الدعوة. والمعلومة هذه أكدتها السيدة محاسن عبدالعال وذكرت بأنها والسيدة حاجة كاشف سمعوا هذه الرواية من السيد أمين التوم. فيا لها من شهامة وتسامح أشاعه الامام عبد الرحمن المهدى فى أجواء السياسة السودانية، خاصة تجاه من أسماهم ‘أبنائه الشيوعيين‘ الذين وقفوا على طرف نقيض من حزبه.
أما الاهتمام السوفيتى بالدولة الافريقية – العربية حديثة الاستقلال فلم يقتصر على مظاهر المجاملة الرسمية، فقد تعهد الاتحاد السوفيتى بحفر عدد من الابار فى مناطق عديدة فى السودان. وحدث الاختراق الكبير فى العلاقات الثنائية بين البلدين بعد تسلم الفريق ابراهيم عبود مقاليد الحكم فى السودان. وتطورت بشكل خاص العلاقات السياسية بانضمام السودان الى مجموعة دول عدم الانحياز التى أسسها زعيم يوغسلافيا الاشتراكية جوزيف تيتو والرؤساء سوكارنو (اندونيسيا) وجمال عبدالناصر ورئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو. وقبل ذلك أقدمت حكومة الفريق عبود على الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية. وبرز السودان كاشد الداعمين لقيام منظمة الوحدة الافريقية. علماً بأن حكومة الفريق عبود قد سعت فى ذات الوقت الى تطوير علاقاتها بالمعسكر الرأسمالى المناوىْ للاتحاد السوفيتى خاصة مع المانيا الاتحادية والولايات المتحدة. وسارعت بقبول ‘المعونة الأمريكية‘ التى حملت فى طياتها مسعىً لضم السودان الى حلف بغداد، وكذلك محاولة ايجاد موطىء قدم فى منطقة حلايب. ومعلوم أن الوجود الأمريكى المرتقب فى منطقة حلايب قد أدى الى توتر حاد فى العلاقات السودانية المصرية ووقف البلدان على شفا هاوية من الحرب الساخنة.
وكما هو معلوم لمن عايشوا أحداث تلك الفترة أن الحزب الشيوعى السودانى قد استبق انقلاب الفريق ابراهيم عيود بالتحذير من اقحام الجيش فى الصراعات السياسية. وقبل بضعة أسابيع استبق عبدالخالق محجوب الانقلاب اليمينى محذراً بأن هنالك مؤامرة تحاك لوأد الديمقراطية الناشئة. وعارض الانقلاب منذ لحظة ميلاده. وبذلك صار هدفاً رئيسياً للمطاردة والمحاكمات والاحكام بالسجن لسنوات طويلة.
وفى تناقض واضح تحسنت العلاقات السياسية بوتائر سريعة بين حكومة الفريق عبود والاتحاد السوفيتى. وفى سياق ذلك زار الفريق عبود الصين الشعبية والاتحاد السوفيتى معاً. مما حدى بالحكومة السوفيتية أن تقدم عدداً من المصانع لتعليب الفواكه، والألبان، وصناعة السكر، والجوت الخ.. وأقدم السوفيت على تصنيف حكم الفريق عبود باعتباره نظاماً وطنياً (تقدمياً). وتجاوزوا عن مساوىء السياسة الداخلية بما فى ذلك تعطيل الدستور ومصادرة الحريات، ونفى قادة الحركة السياسية السودانية وفى مقدمتهم اسماعيل الازهرى وعبدالله بيه خليل وعبدالخالق محجوب وأخرون الى نواقشوط فى جنوب السودان.
سعى الحزب الشيوعى السودانى الى وضع مسألة الصلة بين الاتحاد السوفيتى وحكم الفريق عبود فى اطارها السليم, فلم يهللوا لاقامتها، ولم يتطرقوا الى ادانتها باعتبار أن الاتحاد السوفيتى حزب ودولة يعملان فى اطار استراتيجية مناهضة للاستراتيجية الأمريكية فى افريقيا. ولم يبد الرفاق فى الحزب الشيوعى السوفيتى نفس القدر من رحابة الصدر لفهم ضرورات الموقف الذى اتخذه الشيوعيون السودانيون. ولم يتوانوا فى مسعاهم لاقناع رفاقهم السودانيين للتعاون مع حكومة الفريق ابراهيم عبود.
وبطبيعة الحال لم يستجب الرفاق السودانيون لمطلب ‘الكبار‘ ، كما درج على تسميتهم زعيم الحزب الشيوعى السورى خالد بكداش. وفى تلك الأجواء لم تكن الاحزاب الشيوعية تجرؤا على شق عصا الطاعة على السوفيت. وبسبب ذلك اتخذت العلاقة بين السوفيت ورفاقهم فى السودان انحداراً عمودياً. ورأى السوفيت فى موقف الحزب الشيوعى السودانى اتجاهاً يسارياً مغامراً. ولم يبق أمامهم الا اللجوء الى سياسة ‘العصا الغليظة‘ لوضع الحزب الشيوعى السودانى ‘فى مواعينه‘. غير أن الحركة الشيوعية العالمية فى ذلك الحين واجهت خطر الانقسام عمودياً بسبب الصراع بين قادة الاتحاد السوفيتى من جهة وقادة الصين الشعبية من جهة أخرى. وهكذا تدخلت ظروف اخرى لتحول دون انزلاق السوفيت الى معترك غير متكافىء مع رفاقهم فى السودان. وخفف من احتقان الاجواء بينهم أن الحزب الشيوعى السودانى وقف مؤيداً لموقفهم فى الصراع مع قادة الصين الشعبية (ماو تسى تونج، وشوان لاى).
وفى داخل السودان، تصاعدت أعمال الاحتجاج ضد حكومة الفريق ابراهيم عبود، وانتهت بهزيمتها والاطاحة بها بواسطة انتفاضة جماهيرية عريضة وكان للحزب الشيوعى اسهاماً كبيرا فى تحديد مسارها ونتائجها. وما من شك فى أن الرفاق السوفيت قد أدركوا خطأ قراءتهم للواقع السودانى وتقاليد شعبه الذى أسس أول نظام ديمقراطى فى افريقيا. وعاد الصفاء شيئاً فشيئا الى علاقاتهم مع الحزب الشيوعى السودانى وتهيأت الاجواء أمام عبدالخالق محجوب لأخذ موقعه فى مقدمة الزعماء الشيوعيين فى عدد من دول افريقيا والشرق الأوسط.
وحرصاَ منهم على تدعيم موقف حليفهم عبدالناصر طلب السوفيت من عبدالخالق محجوب التوسط لرأب الصدع بين قيادة الحزب الشيوعى المصرى من جهة وجمال عبدالناصر من جهة أخرى. وتلك المبادرة لم تكن محل اجماع بين الشيوعيين السودانيين خاصة حينما اقدم الشيوعيون المصريون على حل حزبهم وانصهارهم فى الاتحاد العربى الاشتراكى.
وكما هى السمة الغالب فقد أولى السوفيت اهتماماً متزايداً بالدور الذى يلعبه الحزب الشيوعى السودانى مستقبلاً وامتداد تأثيره الى بلدان افريقيا التى تحولت بوتائر سريعة الى ساحة للمنافسة بين السوفيت والحزب الشيوعى الصينى. ومن هذا المنطلق سارع السوفيت بدعوة عبدالخالق الى موسكو وحذروه من الاقدام على حل حزبه بهدف توسيع قاعدة التحالف الديمقراطى فى مواجهة هجمة الأحزاب الطائفية وسعيهم الدؤوب لتصفية الحزب الشيوعى السودانى فكرياً وبدنياً باللجوء الى ما أسماه عبدالخالق ‘عنف البادية‘. ومعلوم أن تراجع عبدالخالق عن ما أتفق عليه فى قيادة حزبه بهدف حل الحزب الشيوعى واقامة حزب اشتراكى محله لم يجد قبولاَ لدى مجموعة نافذة من قادة الحزب. والعدول عما اتفق عليه فيما عرف ‘بمؤتمر الجريف‘ تحول الى أحد مواضع الخلاف التاريخى بين أعضاء الحزب الشيوعى السودانى الى يومنا هذا.
فى اعقاب هزيمة الانظمة العربية ذات التوجه الاشتراكى نتيجة العدوان المباغت الذى شنته اسرائيل، سادت أجواء غاضبة داخل الحزب الشيوعى السودانى، علماً بأن عبدالخالق محجوب قد وقف فى طليعة المدافعين عن الموقف السوفيتى من مجريات الحرب ونصيبه فى ما لحق بالانظمة العربية الحليفة من هزيمة مدوية. ودعا عبدالخالق الى التريس فى تقصى الأسباب التى افضت للهزيمة، ومواجهة قصور الانظمة التقدمية العربية وتقاضيها عن الجذور الطبقية التى اقعدت هذه الأنظمة عن توسيع مشاركة الجماهير فى حماية منجزاتها.
وبقدر ما حافظت العلاقات بين الرفاق السوفيت ورفاقهم السودانيين على صفاء نسبى، لم يكتب لحالة الدفء التى سادت حتى منتصف الستينات الماضية أن تستمر. فقد تضمن تقرير المؤتمر الرابع للحزب الشيوعى السودانى فى عام 1967 فقرات تندد بقرار تقسيم فلسطين، ويعارض موافقة الاتحاد السوفيتى للتسوية التى أدت الى قيام دولة اسرائيل فى أرض فلسطين. واستبعد التقرير على نحو جرىء حق اليهود فى اقامة دولة قومية. باعتبار أنهم لايمثلون أمة أو كما قال ماركس "ان قومية اليهود هى قومية التاجر، قومية رجل الاعمال". وعلى نفس المنوال هاجم لينين مسعى اليهود فى الاتحاد السوفيتى لاقامة كيانهم الخاص بمعزل عن بقية القوميات. "ان الذين يستطيعون وحدهم اقامة الدنيا ضد التمثل انما هم أولئك اليهود التافهون، ضيقو الافق".
هذا التحليل، لم تجرؤ حينها أحزاب شيوعية عربية أخرى على اتخاذه مخافة أن يمثل ذلك ادانة لموقف رفاقهم السوفيت. وقد وجد موقف الحزب الشيوعى السودانى فى أجواء الانفعال القومى العربى أصداءً مدوية فى البلدان العربية، وكما هو متوقع غضب السوفيت مجدداً وذهبوا الى وصف عبدالخالق محجوب وحزبه بأنهم أنزلقوا الى مستنقع ‘القومية‘ (الشوفينية) الاسن، التى أقعدتهم عن قراءة واقع العلاقات الدولية وموازين القوى التى حملتهم على قبول قرار التقسيم، وذكروا بأن الفلسطينيين واشقاؤهم العرب لن يحصلوا على تسوية أفضل مما نص عليه قرار تقسيم فلسطين فى عام 1947؟
فى 25 مايو قامت مجموعة من الضباط التقدميين ذووى الميول القومية العربية بالاستيلاء على الحكم فى السودان. وأعلن قائد الانقلاب العقيد جعفر فى خطبه اللاحقة بأنه سيحول السودان الى ‘كوبا‘ ثانية فى قلب افريقيا. واتخذ اجراءات فورية من بينها الاعتراف بجمهورية المانيا الديمقراطية. وكان بذلك ثانى دولة فى الشرق الأوسط بعد العراق تقدم على تلك الخطوة.
عارض عبدالخالق فكرة الانقلاب المايوى باعتبار أن الضباط الذين نفذوه لن يتمكنوا من تحمل مهام التحول الاقتصادى وتوسيع قاعدة المشاركة الجماهيرية بهدف تحويل الانقلاب الى عمل شعبى. وحذر عبدالخالق من التعجل فى الاعتراف بالمانيا الديمقراطية واقامة علاقات اقتصادية مع دول المعسكر الاشتراكى بديلاً للعلاقات القائمة مع البلدان الرأسمالية. وذكر بأن المانيا الاتحادية باعتبارها أهم شريك اقتصادى للسودان سوف تلجأ لمعاقبة أى دولة تقدم على الاعتراف بالمانيا الديمقراطية. كما أن القدرات الاقتصادية للمعسكر الاشتراكى بمجمله لن تتمكن من تلبية احتياجات الاقتصاد السودانى. وبطبيعة الحال لم يرض قادة انقلاب مايو عن هذا الموقف وفى المقابل لم يتفهم الرفاق السوفيت منطلق عبدالخالق محجوب الذى يدعو للتؤدة فى اعادة بناء العلاقات الدولية للسودان بعيداً عن فورة الحماس الثورى. التى يسميها ماركس
A moment of revolutionary enthusiasm
لم يتفهم السوفيت المنطلق الحقيقى لأراء عبد الخالق, وأوغر صدورهم بعض أعضاء قيادة الحزب الشيوعى السودانى، ممن انشقوا عنه لاحقاً. وكان هدفهم استمالة السوفيت لتعزيز موقفهم فى قضايا الصراع فى الدائر فى صفوف الحزب الشيوعى. والسوفيت أنفسهم رأوا أن عبدالخالق محجوب قد تمادى فى اتخاذ مواقف لا يأخذ فى اعتباره مصالح المعسكر الاشتراكى وضرورات التنافس المحتدم مع الامبريالية العالمية والولايات المتحدة على وجه الخصوص. وكان موقف عبدالخالق فى مسألة التدرج فى العلاقات الدولية لنظام 25 مايو تعزيزاً لحالة الجفاء بينه والرفاق السوفيت.
وأسهم الانقسام الذى وقع فى صفوف الحزب الشيوعى السودانى فى تعميق مشاعر الغضب السوفيتى تجاه عبدالخالق محجوب. وذهب بعض المنقسميين الى اتهام عبدالخالق محجوب بأنه متواطىء مع فلول الأحزاب اليمينية فى السودان وخاصة حزب الأمة وزعيمه الصادق المهدى. واطلق معاوية ابراهيم مصطفى الذى قاد الانقسام فى صفوف الحزب الشيوعى السودانى على عبدالخالق ووصفة بأنه "اليمينى الملتحف بثوب اليسار." وعلق عبدالخالق بأنه فى مثل واقع العلاقات الاجتماعية (الطبقية) فى السودان، لا يعد الأمر جسيماً بأن يكون المرء يمينياً وأنما الخطورة فى أن يكون المرء يسارياً (متطرفاُ).
وفى محاولة لرأب الصدع وتقريب الشقة بين عبدالخالق محجوب ومؤيديه من جهة والمنشقين عن حزبه من جهة أخرى دعا السوفيت رفاقهم السودانيين الى موسكو. وبينما استجاب المنشقون لدعوة المصالحة رفض عبدالخالق محجوب الدعوة بحجة أن الخلافات الفكرية لا تحتمل التوسط لحلها وأعاد مقولة لينين "فإما أيدلوجية اشتراكية واما ايدلوجية رأسمالية ولاثالث بينهما".
كانت تلك الخطوة من جانب عبدالخالق محجوب بمثابة ‘القشة التى قصمت ظهر البعير‘. وبات بأن عبدالخالق قد شق عصا الطاعة مرة تلو الاخرى. والسوفيت لم يكن من بين صفاتهم مد حبال الصبر على العصيان والخروج على توجيهاتهم. ولم يبق حينها الا أن تتهيأ اللحظة الموايتة ليلقنوا عبدالخالق محجوب درساً قاسياً يعيده الى حظيرة الاحزاب التى ترتهن باشارتهم فى قضايا تقع فى صميم مسئولياتها.
وقع انقلاب 19 يوليو 1971 والعلاقات بين الرفاق السوفيت والشيوعيين السودانيين قد خيم عليها الجمود. فى ذات الوقت لم تعد علاقتهم مع حكومة نميرى على نفس القدرمن الدفء خاصة بعد وفاة حليفهم الأوثق، جمال عبدالناصر وصعود انور السادات الى سدة الحكم. وانعكس التغيير المفاجىء على علاقات السودان ومصر مع الاتحاد السوفيتى. وعندما تفجرت الاحداث بعد فشل انقلاب 19 يوليو وأقدم نميرى على تصفية قادة الحزب الشيوعى السودانى، بينما أحجم السوفيت عن استخدام ماتبقى له من علاقات مع حكومة جعفر نميرى لوقف حملات التصفية ضد رفاقهم السودانيين. وبطريقة غير مباشرة استحثوا الرئيس انورالسادات لكى يتوسط لدى نميرى لانقاذ حياة القائد العمالى الشفيع أحمد الشيخ من حبال المشنقة. وبدلالات غير خافية لم يبذل السوفيت نفس المسعى الوجل لتخليص عبدالخالق محجوب من الموت.
لم ينته الجفاء باستشهاد عبدالخالق محجوب. فواصل السوفيت هجومهم عليه. وحملوه مسئولية ما انتهى اليه حكم الرئيس جعفر نميرى من جنوح نحو المعسكر الرأسمالى. لم يأخذ السوفيت فى اعتبارهم جملة التناقضات التى واجهت تحالف الحزب الشيوعى السودانى فى تعامله مع حكم الرئيس نميرى وتمسكهم بضرورة توسيع قاعدة الانقلاب الذى بدا على وفاق مع الشيوعيين بهدف تحويله الى عمل شعبى يستوعب قوى اجتماعية واسعة. كذلك دار صراع ضارى بسبب اصرار الحزب الشيوعى على حقه فى الحفاظ على تنظيمه المستقل وموقفه السياسى المستقل. وكما ورد فى سياق هذا الموضوع فأن الرفاق السوفيت أنفسهم قد نصحوا عبدالخالق محجوب بالتخلى عن مشروع الحزب الشيوعى لحل نفسه.
فى مستهل الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الثالث والعشرين للحزب الشيوعى السوفيتى، وكما جرت العادة، وقف المؤتمرون تخليداً لذكرى قادة الأحزاب لشقيقة ممن توفوا خلال السنوات التى انقضت منذ المؤتمر الاخير. وتضمنت القائمة عشرات الأسماء لم يرد من بينهم ذكر عبدالخالق محجوب. ولم يخف الرفاق السوفيت تأذيهم مما اعتبروه تحدياً صريحاً لمكانتهم كقادة للثورة الاشتراكية فى العالم وبلدان حركة التحرر الوطنى، ووقوفهم فى خط الدفاع الامامى لتأمين سلام العالم. وفى خطى الموقف السوفيتى من عبدالخالق محجوب ذهب يوسف فيصل، العضو البارز وقتها فى قيادة الحزب الشيوعى السورى، معلناً أمام حشد من أعضاء حزبة للقول بأن "مصير الرفيق محجوب (عبدالخالق) ينتظر كل من يعصى الكبار". وقد درج قادة الحزب الشيوعى السورى على الاشارة الى السوفيت باعتبارهم ‘الكبار‘.
أصاب عبدالخالق وأخطأ فى بعض مواقفه التى كانت تستوجب التنسيق مع الرفاق السوفيت، ولكنه وقف على مبدأ حماية استقلال حزبه، وحقه فى رسم سياساته تجاه انظمة الحكم بصرف النظر عن قربها ونأيها عن المعسكر الاشتراكى. ويحفظ له التاريخ بأنه سعى الى الحفاظ على مواضع الاتفاق الجوهرية وتقدير المسئولية التى يتحملها السوفيت فى حماية السلام. وتحمل مسئولية تاريخية جسيمة بتأييد موقفهم من قمع انتفاضة شعب تشيكوسلوفاكيا فى خريف عام 1968، وأيد تدخلهم المساند لانقلاب الحزب الشيوعى فى أفغانستان على الحكم الملكى، ومن ثم انداحت حروب لا زالت تجرجر زيولها.
لقد كان عبدالخالق أممياً ووطنياً فى ان واحد، وبينما احتفى السوفيت بمواقفه الأممية لم يتسع صدرهم لتفهم موقف الحزب الشيوعى السودانى فى الدفاع عن الديمقراطية، والتاخى بين القوميات السودانية، وتحقيق العدالة الاجتماعية. بينما ظل عبدالخالق وفياً لميدأ استقلال حزبه حتى لحظة استشهاده فى 28 يوليو 1971.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.