وساطة الفريق اول ابراهيم سليمان: هل تكرار لذات السيناريو    شاهد بالفيديو.. ياسر العطا يقطع بعدم العودة للتفاوض إلا بالالتزام بمخرجات منبر جدة ويقول لعقار "تمام سيادة نائب الرئيس جيشك جاهز"    عقار يشدد على ضرورة توفير إحتياطي البترول والكهرباء    ريال مدريد الإسباني بطل أوروبا    ريال مدريد يهزم دورتموند الألماني ويصطاد النجمة 15    (زعيم آسيا يغرد خارج السرب)    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    داخل غرفتها.. شاهد أول صورة ل بطلة إعلان دقوا الشماسي من شهر العسل    قنصل السودان بأسوان يقرع جرس بدء امتحانات الشهادة الابتدائية    المريخ يتدرب على اللمسة الواحدة    إعلان قائمة المنتخب لمباراتي موريتانيا وجنوب السودان    شاهد بالفيديو.. مواطن سوداني ينطق اسم فريقه المفضل بوروسيا درتموند بطريقة مضحكة ويتوقع فوزه على الريال في نهائي الأبطال: (بروت دونتمند لو ما شال الكأس معناها البلد دي انتهت)    بدء الضخ التجريبي لمحطة مياه المنارة    منظمات دولية تحذر من تفشي المجاعة في السودان    بعد الإدانة التاريخية لترامب.. نجمة الأفلام الإباحية لم تنبس ببنت شفة    صلاح ينضم لمنتخب مصر تحت قيادة التوأمين    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية كبيرة من الجمهور.. أحد أفراد الدعم السريع يظهر وهو يغني أغنية "هندية" ومتابعون: (أغنية أم قرون مالها عيبها لي)    شاهد.. زوج نجمة السوشيال ميديا أمنية شهلي يتغزل فيها بلقطة من داخل الطائرة: (بريده براها ترتاح روحى كل ما أطراها ست البيت)    بعد الإدانة التاريخية.. هل يستطيع ترامب العفو عن نفسه إذا نجح بالانتخابات؟    أسعار الأدوية في مصر.. المصنعون يطلبون زيادة عاجلة ل700 صنف    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون يقدمون فواصل من الرقص "الفاضح" خلال حفل أحيته مطربة سودانية داخل إحدى الشقق ومتابعون: (خجلنا ليكم والله ليها حق الحرب تجينا وما تنتهي)    مسؤول سوداني يكشف معلومات بشأن القاعدة الروسية في البحر الأحمر    "إلى دبي".. تقرير يكشف "تهريب أطنان من الذهب الأفريقي" وردّ إماراتي    دفعة مالية سعودية ضخمة لشركة ذكاء اصطناعي صينية.. ومصدر يكشف السبب    في بورتسودان هذه الأيام أطلت ظاهرة استئجار الشقق بواسطة الشركات!    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    فيصل محمد صالح يكتب: مؤتمر «تقدم»… آمال وتحديات    السعودية "تختبر" اهتمام العالم باقتصادها بطرح أسهم في أرامكو    ميتروفيتش والحظ يهزمان رونالدو مجددا    السعودية تتجه لجمع نحو 13 مليار دولار من بيع جديد لأسهم في أرامكو    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    مذكرة تفاهم بين النيل الازرق والشركة السودانية للمناطق والاسواق الحرة    سنار.. إبادة كريمات وحبوب زيادة الوزن وشباك صيد الأسماك وكميات من الصمغ العربي    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    دراسة "مرعبة".. طفل من كل 8 في العالم ضحية "مواد إباحية"    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    نجل نتانياهو ينشر فيديو تهديد بانقلاب عسكري    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    من هو الأعمى؟!    اليوم العالمي للشاي.. فوائد صحية وتراث ثقافي    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الخرطوم إلى فينكس عبر الدوحة .. بقلم: شوقى محى الدين أبوالريش
نشر في سودانيل يوم 21 - 02 - 2015

في الفترة ما بين عيد الأضحى المبارك في اكتوبر 2014 وحتى بداية عام 2015 تذبذب ترمومتر الضغط عندي من أقصاه الى أدناه، ولم تجدِ جرعات الدواء لكبت جماحه حيث كانت جرعات الفرح والحزن أكبر من إمكانات حبة "التنورمين" الصغيرة.وأصبح المكان والحدث هما الكفيلان بضبط ضغط الدم.هذه الفترة التي تمّيزت بتأرجح المشاعر، قضيتها ما بين مدينة الخرطوم ومدينة فينكس الامريكية مروراً بمدينة الدوحة.وسوف أروى لكم هنا بعض من تلك الأحداث الواقعية التي مرت بى في هذه الفترة التي أعنى ،وأرجو أن يعذرنى القراء لذكر بعض الأسماء لمجرد التوضيح والمتابعة السلسة ليس إلا.
البداية كانت في عيد الأضحى المبارك في الخرطوم،عيد الاضحى فرحة كبرى تميّزت بلمة الاهل والجيران على مائدة الخروف، والأطفال فرحين يجوبون الشوارع والحدائق بزيهم الجديد، ومناسبات الافراح والزيجات التي يحرص الناس عليها لتكون في هذا العيد فتجعل العيد عيدين.لكن تشاء الصدف بل قل الاقدار دائماً ألا يمر عيد في السودان الا ويعكر صفوه وفرحته أحداث مأساوية مختلفة،هناك حوادث السيارات في الطرقات البعيدة وهناك حوادث الغرق في الرحلات وهناك حوادث التسمم الجماعي وهكذا وكلها مرتبطة بحركة الناس غير العادية في هكذا مناسبات. ولأول مرة أكتشف في هذا العيد أن 80% من سكان الخرطوم نازحون من الأقاليم حيث خلت شوارع الخرطوم من المارة والسيارات.وفي هذا العيد تكرر المشهد المأساوي نفسه حيث تصادمت وانقلبت عدد من الحافلات في طريق القضارف أدت الى وفيات واصابات نفر من أهلنا وغيرهم كانوا في طريقهم الى الخرطوم لمشاركة الاهل الفرحة التي تحولت الى أحزان ومآتم ومستشفيات.
من العادات المتغلغلة في السودان زيارة المقابر في أيام العيد، ولذلك بمجرد أن أدينا صلاة العيد في مسجد الحاج أحمد أبوزيد توجهنا الى مقابر فاروق القريبة وكان بصحبتي الأخ الأصغر والصديق العزيز سعد سيد محمد أحمد ومعه أبناؤه الصغار جمال وعبد السلام، سمى الأول تيمناً بجده الاديب والدبلوماسي الراحل المقيم الأستاذ جمال محمد أحمد والثاني تيمناً بجده النطاسي البارع البروفسير عبدالسلام جريس حفظه الله.زيارتنا للمقابر كانت كلها حزن وألم على من فارقونا كهولاً وشباباً وأطفالاً،تدفقت ذكريات وجرت دموع...اَباء وأبناء وبنات واخوان واخوات لنا تمتعنا برفقتهم الآن تحت الثرى صامتون لايبادلونا الشعور، كم رأيت نساءاً ورجالاً يفترشون الأرض ويبكون فوق المقبرة بحرقة على فقد زوج أو أخ أو أخت، فقد شاهدت الأخت الاستاذة "انعام عتيق" تبكى شقيقها نزار الذى كان قد فارقنا الى دار البقاء قبيل العيد مبكياً على شبابه، فواسيتها قليلاً ثم لم أقوَ على مشاهدتها وهى تقف حزينة رافعة كفيها الى السماء تدعو له فوق قبره، فانزويت قليلاً لأبحث عن من يواسيني.
في خضم هذا الحزن المخيم كانت مشاعرنا تتبدل بين الفينة والأخرى بالتعليقات الذكية والبريئة للطفلين جمال وعبدالسلام...سألوا أباهم: هل سيكون يوماً ما في هذا المكان! وقبل أن يجيبهم رفضوا ذلك بحجة أن الزوار يمشون فوق المقابر(يعفصون) ولذلك نصحوه أن ينتهى به المطاف في مكة... قرأوا اسم جدتهم في مقبرتها فقالوا سويا مستعجبين: "هيدي كانت قاعده معانا في البيت"!ثم تصادف وجود جماعة يدفنون جنازة فقالوا مستنكرين:"في زول يموت في العيد" ! وكأن كل شخص يختار يوم موته..انها براءة الأطفال.
انتهينا من زيارة المقابر وخرجنا بمزيج من مشاعر الحزن والضحك على ما سمعناه من الأطفال الأبرياء.وفى المساء رافقت سعد وابنه جمال الى الخرطوم بحري ليشارك زميلاً له في المدرسة حفل عيد ميلاده،وعندما ضللنا الطريق الى منزل زميله اتصل سعد بوالدة الطفل المحتفى به سائلاً عن موقع منزلهم،فاستغربت الام من السؤال المفاجئ، ومن دواعي الخوف أو الشك حولت المحادثة الى الأب، الذي حاول سعد التهدئة من روعته وشرح له أننا في الطريق إليهم ليشارك جمال حفل عيد الميلاد وهنا استدرك الأب الامر وقال له:فعلاً يصادف اليوم عيد ميلاد ابنه لكن ليس هناك حفل لأنهم لا يؤمنون بهذه البدعة!لكن الاب من أدبه الجم أصرّ على حضورنا..وهنا رأيت الشرر يتطاير من عيني سعد والاضطراب على وجه جمال..وصلنا المنزل واضطر الاب أن يوقظ أطفاله ويدعو أطفال الجيران وأقام حفل عيد ميلاد لخاطر عيون جمال وليس لخاطر ابنه .. لقد أصابنا الحرج وغضبنا وارتفع ضغطنا من "عمايل" جمال الذي كان قد تحشّر ولفح حديثاً جانبياً دار بين زميله وسائقه بأن ميلاده يصادف ذلك اليوم..فتوقع أن تكون هناك حفلة كما العادة...مسكين جمال.. لم يتهنأ بالحفل فقد كان نصيبه علقة ساخنة بعد الحفل ثم حُرمت عليه مشاركة أعياد الميلاد مستقبلاً الا بدعوة مكتوبة باسمه شخصياً.
أنتقل بكم من عالم الأطفال الى عالم الكبار.انتهت إجازة العيد وفى طريقنا الى المنطقة الصناعية بالخرطوم لمحنا شاباً يقف في قارعة الطريق لا يقوى على الوقوف من الهزال والألم، فأعطيناه فضل ظهر،وفى الطريق حكى لنا "أنه جاء الى مستشفى ابن سيناء حسب موعده لغسيل الكلى الا أنهم رفضوا ما لم يسدد مبلغ مائة جنيه نظير الادوية والمحاليل الطبية اللازمة برغم أن الرئيس عمر البشير أصدر قراراً بمجانية الغسيل لكل المواطنين،وانه يريد أن يصل الى المنطقة الصناعية لتدبير المبلغ حتى لا يفقد موعده ويتضاعف عليه المرض." انتهى من حكاية مأساته التي استدرت كل عواطفي في تلك اللحظة، وبدون أن أفكر أدخلت في جيبه ضعف المبلغ الذي ذكره ونزل منا حالاً في الطريق قبل أن يصل وجهته الا أنه خرّب علينا بهجة ذلك اليوم من بدايته.يا إلهي..من الصدف العجيبة أنني رأيت في اليوم الثاني في جهة أخرى من المنطقة الصناعية الشاب نفسه بمنظر آخر حاملاً أوراقاً ويحكى للجمهور قصة أخرى مختلفة تماماً بل أكثر مأساوية من قصة غسيل الكلى التي حكاها لنا بالأمس القريب..جن جنوني! ولم أصدق ما تراه عيناي أمامي وتسمعه أذناي.. وما دريت هل أضحك أم أبكى. هل هو نصب واحتيال! أمهي الحاجة (والحاجة أم الاختراع)! وفيما بين اليومين تذبذبت مشاعري ليس تجاه الشخص نفسه فحسب بل تجاه المجتمع كله.
وبعد أن انتهت أيام العيد ذهبنا والاهل جميعاً الى مطار الخرطوم لوداع ابني الذي كان مسافراً،وبعد أن ودعناه ودخل منطقة الجوازات في المطار سرعان ما خرج عائداً الينا محروساً بعدد من رجال الشرطة!يا إلهي ..ماذا حدث في هذه الدقائق؟ قالوا لنا: أثناء تفتيش الحقائب وجدوا طلقات من الرصاص في حقيبته وأصرّ هو أنه لا يدري شيئاً عنها وفعلاً..وهنا طار عقل والدته لكن سرعان ما استدركت أنها بدلت حقيبته بأخرى أكبر حجما كانت موجودة في المنزل،وللصدف الغريبة أن هذه الحقيبة كانت قد حُفظت فيها عدد من الرصاصات الخاصة بمسدس زوار الليل. حكت لهم أصل الحكاية والخطأ الذي صار وتاريخ المسدس.. كانوا متفهمين للبس الذي حصل وأولاد ناس كما يقولون،فأعادوا لنا الرصاصات وفكوا أسر ابني وسافر بعد أن عيّشنا دقائق من القلق والاضطراب، وقد تخيلنا مصيره اذا ما كان قد وصل الى وجهته أمريكا بهذه الرصاصات لكان اليوم نزيلاً في معتقل جوانتنامو! لكن أراد الله له ولنا انفراجة.انه السودان"فما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله مشاعرك من حال الى حال".
الدوحة أو دوحة الجميع كما يحلو تسميتها هي محطة هامة في حياتي ومكان اَمن للمعيشة وهدوء البال تسير فيها الحياة على وتيرة واحده وليس فيها ما يعكر صفو الحياة أو يثير الاعصاب غير عدم انسيابية حركة المرور والسير في شوارعها التي ضاقت بزيادة عدد سكانها في الآونة الأخيرة نسبة للطفرة الاقتصادية الهائلة واستضافتها المرتقبة لفعاليات كاس العالم لدورة عام 2022.ارتاحت فيها أعصابي تماماً من أحداث الخرطوم لأبدأ رحلة جديدة في 12 ديسمبر الى فينكس في ولاية أريزونا الامريكية.
وصلت فينكس عاصمة ولاية أريزونا التي تقع في جنوب غرب الولايات المتحدة وهي سادس أكبر ولاية من حيث المساحة،وتشتهر بمناخها الصحراوي على نحو استثنائي فالصيف فيها حار والشتاء معتدل،أما الجزء الشمالي المرتفع فطقسه بارد جداً ويأتيها محبو التزحلق على الجليد، ووسط أريزونا وجنوبها يأتيها سكان المناطق الباردة من جميع ولايات أمريكا ليتمتعوا بالدفء في الشتاء،والطقس الاريزونى مشمس في أغلب الأحيان ويبلغ عدد سكانها 6 مليون نسمة،وبجانب فينكسبها مدن أخرى مثل "توسن" و "ميسه" و "تمبى". والسياحة والزراعة والتربية هي عماد اقتصاد الولاية،وكما يعلم البعض منكم فأريزونا بها إحدى عجائب الدنيا السبع وهي الأخدود الأعظم (جراند كانيان) وأيضاً فيها منطقة "سدونا" السياحية في شمال الوادي وتشتهر بجوها الخلاب وجبالها الفريدة ذات اللون الأحمر والبرتغالي، وهي الولاية رقم 48 التي انضمت الى الاتحاد في فبراير 1912 حيث كانت جزءاً من دولة المكسيك.
اليوم 29 كيهك بالتقويم القبطي ويوافق السابع من يناير2015 هو عيد ميلاد المسيح عليه السلام.منذ بدايته في الصباح الباكر كان هذا اليوم يومأ ممزوجاً بالفرح والقلق في آن واحد..قضيناه في "مركز شاندلر الطبي الإقليمي"في فينكس القريب من المنزل حيث كان ميلاد الحفيد "الياس" في منتصف نهار ميلاد المسيح عليه السلام.وهو نفس المركز الذى شهد مسقط رأس شقيقته "أليسا"و كذلك أبناء خالته الأطفال "كريم" و "ليلى ". والياس، كما علمنا،هو تحريف ل "الياهو" العبري والمعنى" الله الأعلى"وهو اسم إسلامي ومسيحي، واسمه في التوراة "ايليا بن الياسين" وقد ورد ذكره في القرآن مع الأنبياء..(وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ) الأنعام 85، وان شاء الله الياسنا يكونن من الصالحين.
في فينكس صادفت زيارة الفنان العملاق والشاعر الكبير الأستاذ عبدالكريم الكابلي الذي يقيم في شرقي الولايات المتحدة الامريكية. وبدعوة كريمة من أحد الأصدقاء فى فينكس وهو الدكتور على شمس الدين، التقينا مع الفنان الكابلي في منزله العامر على حفل شاى جامع لمجموعة أصدقاء، وقد كان لقاءً جميلاً بحق..وقد يتبادر الى الذهن أنها كانت حفلة غنائية،لكنها كانت محاضرة قيّمة وجلسة سمر ممتعة أكثر من الغناء.وكما قال أحد الحضور: "الغناء يمكن أن تجده وتسمعه وتطرب له في "اليوتيوب"، أما الدرر التي سمعناها من الفنان الكابلي الآن أين تجدها"!لقد صدق القول،فعلى مدى أربع ساعات متواصلة ألقى الأستاذ والفنان الكبير الكابلي على مسامعنا لأول مرة الدرر الغوالي .. تحدث عن تاريخ الغناء في السودان وشعر البادية وأغاني التراث والحماسة وأغاني الحقيبة وأسباب ازدهار الغناء في كل العصور وتحدث عن الشعراء والشعر الشعبي وضرب أمثلة غنائية من أغاني الحماسة والفن الشعبي بأغنية"خال فاطنه" و"الحسن صاقعة النجم" و"الجنزير في النجوم"و" الشيخ سيروو"و"حليل موسى".ومن أغاني التراث أغنية"ماهو عارف قدمو المفارق" للشاعر الكبير خليل فرح و"بت ملوك النيل" للشاعر الكبير سيد عبدالعزيز ثم أغاني الشعر العربي الفصيح في أغنية "شذى زهر" للشاعر عباس محمود العقاد و"معزوفة لدرويش متجول"للشاعر الفيكتوريو"ماله أيقظ الشجون"للشاعر ادريس جماع و"عهد جيرون "للشاعر محمد سعيد العباسي و "بين الحجاب والشعور" لأمير الشعراء أحمد شوقي و "فينيسيا أو الجندول" للشاعر المهندس على محمود طه.وقد شارك في الحديث الفنان الشعبي الكبير الأستاذ أحمد الفرجونى حيث تحدث عن أغاني الحقيبة والشعر الشعبي خاصة شعر وتراث أرض البطانة فكانت مداخلاته قيمة زادت الجلسة ألقاً على ألق.وقد خص الأستاذ الكابلي أغنية "ربيع الدنيا" التي التقى فيها الشاعر الكبير الأستاذ عوض أحمد خليفة بالفنان الكبير الأستاذ عثمان حسين للمرة الثانية بعد نجاح اللقاء الأول في بداية الستينيات في أغنية"عشرة الأيام".قال عنها انها أجمل ما كُتب من شعر ولو كان الشاعر المتنبي حياً وسمعها لوقف على طوله محيياً شاعرها عوض أحمد خليفة..وركّز الأستاذ الكابلي على أبيات وتعابير محددة قال عنها انها جديدة على اللغة العربية وسوف أذكر لكم هنا بعض المقاطع حيث وقف كثيراً عند تعبير "يا أخت روحي" و "ما قدرت لفراقك أصل"، ولكم أن تتأملوا قليلا في هذا المقطع الذي شدّ انتباه الأستاذ الكابلي:
يا ربيع الدنيا.. فيعينيّ
يا نور قلبي يا معنى الجمال
يا أخت روحي يا أمانيهواي
في دنيا الخيال
من قلبي من أجل المحبة
وهبت ليك شعر الغزل
مع انو قدامى الطريق
أنا عارفو يا السمحة اتقفل
ما في قسمة وما في يا نور
قلبي حتى بصيص أمل
ما قدرت أقرب من حداك
وما قدرت لفراقك أصل
ثم تحدث الكابلي عن جماعة "اخوان الصفا" التي كانت تضم عدداً من الشعراء، هم الشاعر والسفير عبد المجيد حاج الأمين والشاعر صديق مدثر والشاعر كمال عمر الامين وشخصه،وكان رسم الدخول لهذه الجماعة هو الترشيح من أحد الأعضاء بالإضافة الى عمل أدبي إبداعي مثل قصيده شعرية أو قصة قصيرة أو مسرحية يتم مناقشتها وتقييمها.وقد رشح الشاعر والفنان الكابلي الشاعر محمد عثمان جرتلى والشاعر الحسين الحسن والشاعر عبدالواحد عبدالله الذين انضموا لمجموعة اخوان الصفا التي أثرت الشعر الغنائي والأدب والمسرح في السودان.
كان أيام وليالى زيارة الفنان العملاق الكابلي لمدينة فينكس حافلاً باللقاءات والكرم السوداني الاصيل من رجالات فينكس ونسائها حيث تضاربت دعوات الغداء والعشاء والشاى، ولن أنسى دعوة العشاء الكبيرة من الفنان الشعبي الأستاذ أحمد الفرجونى في منزله العامر وكانت زوجته الفضلى وقوفاً على كل صغيرة وكبيرة لراحة الضيوف وهم كُثرُ. في هذه الليلة شدا الفنان الكابلي بأغنية "ضنين الوعد" للشاعر الكبير صديق مدثر فأطرب جميع الحضور ثم دار نقاش شيّق حول جمال القصيدة، المكونة من 44 بيتاً، وبلاغتها وعلق أحد الحاضرين إذا كان الشاعر المتنبي قد بالغ في وصف أدبه وشعره في قصيدته "عتاب وفخر"حين قال:
أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
فماذا نحن قائلون عن شاعرنا الكبير صديق مدثر عندما وصف قدراته الشعرية في قصيدته المشهورة "ضنين الوعد" حين قال:
ان تكن أنت بعيداً عن يدي فخيالي يدرك النائي القصيا
لا تقل انى بعيد في الثرى فخيال الشعر يرتاد الثريا
ان تكن أنت جميلاً فأنا شاعر يستنطق الصخر العصيا
أيهما أبلغ شعراً وأدق وصفاً !!وكيف للصخر الجامد العصىّ أن ينطق! لا أتردد في أن أقول:لو كان المتنبى حياً وقرأ هذه الابيات لوقف على طوله، بل لخلع قلنسوته من على رأسه،محيياً شاعرنا الكبير صديق مدثر.
وأحب أن أضيف هنا وصفين مماثلين الأول لفنان نوبي كبير ألا وهو الفنان "صالح ولولى" حينما وصف جمال أغنياته والتي أدركتها حتى الكائنات غير البشرية وذلك في أغنيته "أسمر اللونه " باللغة النوبية حين قال (ابيات مترجمة):
عندما يقولون ولولى فأنا المقصود
أنا الذي رقّصتُ القمري في عشه
أنا الذي أطربتُ العقرب في جحره
وهو وصف بليغ لفنه واعتداد وثقة بالنفس،أدركها حتى اولئك الذين لا يفهمون اللغة النوبية، وهذه هي عبقرية الفنان صالح ولولى عميد الفن النوبي، طيب الله ثراه.
والثاني للشاعر الكبير والدبلوماسي الأستاذ محمد المكي إبراهيم في نشيد "أكتوبر الأخضر" الذي لحنه وتغنى به الفنان العملاق الاستاذ محمد وردى حين قال:
سندق الصخر حتى يخرج الصخر لنا زرعاً وخضرا
ونرود المجد حتى يحفظ الدهر لنا اسماً وذكرا
فكيف للصخر الأصم أن ينبت من داخله الزرع والخضرة!انه وصف بليغ للشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم لعزيمة ومقدرات الشعب السوداني إذا وجد الحرية والسلام الاجتماعي.
ومن ملاحظاتى الخاصة، يبدو أن الصخر هو أكثر الجمادات صلابةً وغلظةً ومِنعةً ولذلك كان مجال تحدى للشعراء في استنطاقه وترويضه وتبديله الى خضرة وربما يكون ذلك مأخوذاً من إيحاءات آيات الذكر الحكيم في قوله تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)الحشر، والله أعلم.
وتحدث الأستاذ الكابلي عن القِيم الجمالية في الانسان السوداني وأن هذه القِيم لم تأت من فراغ بل هي خليط من التراث الشعبي والتمازج القبلي في الشمال والجنوب والشرق والغرب فهو تراث غنى ومتشعب يعرف عنه القليل ولذلك قال: من يدعى المعرفة التامة بالتراث السوداني فهو من المكابرين وأردف ناصحاً: أنه يتوجب على صانعي القرار في السودان معرفة التراث حتى لا تصطدم قراراتهم بالواقع المعاش،فقد سحر الانسان السوداني الاستعمار البريطاني بتراثه وأخلاقه فمنهم من بقى في بخت الرضا ومدنى والخرطوم وجوبا لسنين طوال ومنهم من ترك وصيته ليدفن في السودان.
وتحدث الكابلي عن أحجية الأطفال "فاطمة السمحة" وهي من التراث الشعبي السوداني وتحدث أيضاً عن أشهر قصة حب في السودان "تاجوج والمحلق" وقارنها بمسرحية "روميو وجولييت" للكاتب الإنجليزي المعروف "وليم شكسبير".وتحدث الكابلي عن اهتمامه بقضايا المرأة وتوعيتها ودعوتها للقيام بدورها الرائد في المجتمع حين غنى لها بكلماته أنشودة "فتاة الغد" وقال:
طاف بقلبي وغنى للخيال
واذاع الطهر في دنيا الجمال
وأشاع النور في سود الليالي
انه صوتي أنا أو تدري من أنا
أنا أم اليوم أسباب الهنا
أنا من دنياكمو أحلى المنا
عبد الكريم الكابلي هو شاعر وملحن ومطرب وباحث في التراث الشعبي السوداني وهو الآن بصدد اصدار كتاب جامع سوف يصدر قريباً، وربما لا يعلم الكثيرون أنه هو أول من ألف وغنى شعر الاوبريت في السودان حين كتب عن مدينة مروي التاريخية "أوبريت مروي" ومطلعها: "فيك يا مروي شفت كل جميل.." في أواخر الخمسينيات حيث كان يعمل موظفاً في إدارة المحاكم هناك.
ومن الشخصيات التي أعُجب بها الكابلي وأشاد بها السلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان لاهتمامه البالغ بالتراث والموسيقى،وهو صاحب فكرة دار الاوبرا السلطانية لتطوير هذا الفن.وكذلك اللواء طلعت فريد الذي كان فناناً ومهتماً بكل قضايا الفنانين وهو الذي جاء بفكرة المسرح القومي ونفذها، وعندما سافر الى الصين برفقة الرئيس إبراهيم عبود أحضر معه عدداً مهولاً من الصافرات لتوزيعها على كل طلاب المدارس في السودان تشجيعاً لتعلم الموسيقى.
انتهىت الليلة واللقاء الشيق مع الشاعر والفنان الكابلي بأغنية "خال فاطنه" تلبية لطلب خاص من السيدة الفضلى حرم الفنان الشعبي الكبير أحمد الفرجونى وهي أغنية ألهبت حماس رجال ونساء فينكسف كمبلو وعرضوا، تفوقوا فيها على عيال أب جويلى، حتى ضاق بهم المكان وكانت مسك الختام لليالي الكابلي في فينكس حيث عاد فجراً الى واشنطن.
انتهت الاجازة بعد أن روّحنا عن أنفسنا في أجواء فينكس الرائعة بطقسها الجميل ومناسباتها وأهلها الحلوين وأسواقها وقررنا العودة الى قواعدنا..وكما يقولون "راحت السكرة وجاءت الفكرة"..يا إلهي..عدد حقائبنا لا يقوى على حمله الا سيارة "بكب أب" أو "نص نقل" كما يسميه إخواننا المصريون.اكتشفت أن هذه الحقائب كلفتني مبلغاً وقدره .. مأكلنا ومشربنا ومسكننا كان خارج حساباتى فقد كنا ضيوفاً على الأخ والصديق العزيز باشمهندس ماهر نورى علىمدى شهر ونصف.لكن كشف الحساب والفواتير عكّر مزاجي ورفع ضغطي برغم أن التسوق كان جانباً ممتعاً، لكن الانسان بطبعه طماع. ولذلك سافرت وميزان الشعور كان متساوياً بين كفتى المتعة والصرف(break-even)فيوقت المغادرة.
وصلنا الدوحة الوارفة وأول شيء، وكما العادة، راجعت كشف حساب البنك،ولدهشتي وجدت ميزان مدفوعاتى مساوٍ لميزان مدخولي! يا إلهي..ماذا حصل؟ دققت النظر وغيرت النظارة.. فقد دخل في حسابي بونص منحتنا إياه الشركة عن أرباح عام 2015،وللصدف العجيبة أن هذا البونص كان مساوياً لتكلفة الحقائب وما بداخلها ..فيا لها كانت من فرحة.. قلت لكم ان الدوحة هي دوحة تهدئ الاعصاب. والفرحة الأكبر أننا سافرنا الى فينكس ثلاث أشخاص وعدنا منها رابعنا إلياس.
شوقى محى الدين أبوالريش
الدوحة–فينكس في يناير 2015
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.