بمناسبة الذكرى الخامسة لانفصال جنوب السودان من سودان واحد إلى سودانين: ديناميات التقسيم والاتحاد من منظور تاريخي. آيريس سيري-هيرتش ترجمة: الفاتح حاج التوم المصدر: Iris Seri-Hersch. From One Sudan to Two Sudans: Dynamics of Partition and Unification in Historical Perspective. Tel Aviv Notes, 2013, 7 (13), pp.1-8. halshs-00911879 في 9 يوليو عام 2011 تأسست جمهورية جنوب السودان، الدولة العضو ال 54 في الاتحاد الأفريقي. وجاء تقسيم السودان إلى دولتين إثر استفتاء يناير عام 2011 الذي صوت فيه 98.8٪ من سكان جنوب السودان للاستقلال. وكان الاستفتاء جزءً من اتفاقية السلام الشاملة عام 2005 التي أنهت رسمياً الحرب التي ظلت رحاها تدور عشرين عاماً بين الحكومة المركزية في الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب. ويثير هذا الانقسام عدداً من الأسئلة: كيف يمكننا فهم تفكك السودان؟ وما الوضع الحالي للعلاقات بين الدولتين السودانيتين؟ وهل يمكن أن ننظر إلى التفكك أنه الأول في دولة افريقية في فترة ما بعد الاستعمار؟ وهل كان نتيجة حتمية للصراع الثقافي بين الشمال "العربي" المسلم والجنوب "الأفريقي" المسيحي الوثني؟ يمكن فهم انقسام السودان فهماً أفضل بتحديد جذوره في التاريخ الاستعماري، مع التركيز في فترة محددة هي فترة منتصف عشرينيات القرن العشرين (عندما أصبح السودانان سوداناً واحداً) وهوما يعكس غرابة الوضع الحالي (سودان واحد يصبح سودانين). لقد مهدت السياسات البريطانية الانفصال بين الشمال والجنوب، ثم المحاولات الشمالية في التعريب القصري للجنوب وأسْلمته - الطريق إلى فشل الدولة السودانية الموحدة التي تأسست عام 1956. وغالباً ينظر إلى انفصال جنوب السودان عام 2011 كنتيجة مباشرة لأطول حرب أهلية واجهتها القارة الأفريقية في فترة ما بعد الاستعمار. لقد عانى السودان منذ لحظة نشوئه الحروب الأهلية المتعاقبة (1955-1972/1983-2005) التي حصدت ملايين الأرواح، وشردت أعداداً كبيرة من الناس من مواطنهم. ونتج انقسام عام 2011 السياسي بين الشمال والجنوب من الصراع المستمر الدائر بين النخب الحاكمة في الخرطوم وحركات التمرد الجنوبية. وظلت النخب الحاكمة في الخرطوم تؤكد الهوية "العربية" والإسلامية في السودان، في حين ظلت حركات التمرد الجنوبية - اعتماداً على الفترة الزمنية والقيادة - تدعو للحكم الذاتي الإقليمي للجنوب، أو للتعددية الثقافية في دولة موحدة. وظلت هذه الجهات المؤثرة عقوداً من الزمان في صراع عسكري حول الأساس الثقافي للدولة السودانية، والسلطة السياسية والتمثيل، وتوزيع الموارد الاقتصادية، وتوفير الخدمات الاجتماعية، ومع ذلك لا ينبغي أن ينظر إلى التقسيم بأثر رجعي كنتيجة حتمية للحروب الأهلية السودانية في فترة ما بعد الاستعمار. وترتكز الاتجاهات الحالية في السياسة السودانية على الحقائق والسياسات التي تعود إلى الحقب الاستعمارية؛ بل إلى "الحقب السابقة للاستعمار". الخلفية التاريخية: للسودان بحدوده قبل عام 2011 تاريخ قصير نسبياً، لكنه متقلب جداً كوحدة سياسية. ولم تتوحد مناطق السودان الحالي وجنوب السودان في وحدة إدارية واحدة حتى مطلع القرن العشرين. وضم حكام السودان في العهد العثماني المصري (1821-1885) أجزاء من الجنوب في منظومتهم، ولكن هذه الفتوحات وقعت في مرحلة متأخرة، أي قبل عشر سنوات من طرد حركة المهدية السودانية للسلطات العثمانية المصرية عام 1885. وتمددت الدولة المهدية بقيادة محمد أحمد المهدي وخليفته عبدالله التعايشي، (1885-1898) - نحو منطقة جنوب بحر الغزال لكن ذلك لم يشمل الجنوب كله. ولم يتحد الشمال والجنوب رسمياً إلا بعد احتلال القوات الإنجليزية المصرية للبلاد (1899) فيما أصبح يعرف باسم "السودان الإنجليزي المصري" (انظر الخريطة أدناه). وحكمت إدارة مصرية إنجليزية مشتركة في الخمسين عاماً التالية سكان الكيان الجديد اسمياً، وعرفت بفترة الحكم الثنائي (1899-1956). احتكر البريطانيون عملياً أعلى المناصب الإدارية، واحتفظوا بكافة صلاحيات اتخاذ القرار. ودافع القوميون المصريون، عن مبدأ "وحدة وادي النيل"، وطالبوا بحقوق السيادة على السودان حتى سقوط النظام الملكي المصري عام 1952. السياسة الجنوبية: لم يحكم البريطانيون في معظم الفترة الاستعمارية سوداناً واحداً بل سودانيْن: الشمال، والجنوب. ومع الاعتراف الدولي بالوحدة الإقليمية المسماة "السودان" أو "السودان الإنجليزي المصري،" إن السياسات البريطانية دعمت فكرة سودانين منفصلين. لماذا أدار البريطانيون الشمال والجنوب بنحو منفصل حتى عام 1947؟ غالباً ما يشير المسؤولون البريطانيون إلى الاختلافات الثقافية والدينية بين الشمال المسلم الناطق أغلبه بالعربية، والجنوب المسيحي والوثني. في الواقع يرتبط التركيز في الاختلافات الحقيقية والمتخيلة بالمحاولات البريطانية لمنع الثقافة العربية والقيم الإسلامية من الانتشار في جنوب السودان، وهي العملية التي بدأت تتكشف في القرون السابقة. وبالنتيجة أعطى البريطانيون المبشرين المسيحيين مطلق الحرية في الجنوب في حين قيدوا إلى حد بعيد وجودهم في الشمال، وأعربوا عن قلقهم تجاه رفاه سكان الجنوب، فقد كانوا يرون أنهم فريسة سهلة لتجار رقيق الشمال "العربي". وكان ذلك القلق مرتبط بتاريخ طويل من العبودية في السودان، لكنه اُستُخِدم بوعي لإضفاء الشرعية على الحكم المنفصل. إضافة إلى ذلك سمحت "السياسة الجنوبية" للبريطانيين بتركيز الموارد الاقتصادية الشحيحة في الشمال مع الحّد من النفقات فيما اعتبروه الجنوب "الهمجي". وقد لمست السياسة الجنوبية مختلف جوانب الحكومة والحياة الاجتماعية، وكانت اللغة العربية لغة الإدارة في الشمال واللغة الإنجليزية في الجنوب، في حين نما النظام التعليمي الحكومي تدريجياً في الشمال، وترك التعليم للمبشرين في الجنوب. وفُرِضت قيود كبيرة على حركة الناس والبضائع بين المنطقتين من عام 1922 فصاعداً، ومُنِع الجنوبيون من حمل الأسماء العربية، ولم يُشجع على الزواج "المختلط" بين سودانيي الشمال والجنوب. من سودانين إلى سودان واحد: مع مطلع أربعينيات القرن العشرين، انتقد المثقفون السودانيون الشماليون وبعض المسؤولون البريطانيون السياسة الجنوبية بقسوة. وكان ينظر إلى الفجوة في البنى التحتية والتنمية بين الشمال والجنوب بنحو متزايد على أنها مشكلة. في 1945 اعتمدت السلطات البريطانية في الخرطوم ثلاثة خيارات ممكنة لجنوب السودان: اتحاده مع الشمال، أو ضمه إلى الأراضي البريطانية في شرق أفريقيا (أوغندا، وكينيا، وتنجانيقا)، أو دمج جزء منه في الشمال والبقية في شرق أفريقيا. استبعدت إمكانية إنشاء دولة منفصلة ومستقلة في جنوب السودان في مرحلة ما في المستقبل على أسس جغرافية واقتصادية، إضافة إلى ذلك كان لقلب السياسة الجنوبية الدور الفعال في المحاولات البريطانية لاستمالة النخب السودانية الشمالية ضد الطموحات المصرية الهادفة لوحدة وادي النيل. وبتلبية أحد المطالب الرئيسية للقوميين السودانيين الشماليين (اتحاد شمال السودان وجنوبه) كان البريطانيون يأملون كسب القوة الدافعة في نزاعهم السياسي والأيديولوجي مع الحكومة المصرية. عارض معظم المسؤولون البريطانيون العاملون في الجنوب قلب السياسة الجنوبية، خوفاً من أن يسعى المسؤولون الشماليون لفرض الثقافة العربية والإسلامية على السودانيين الجنوبيين. وأدانوا أيضاً حقيقة عدم استشارة ولو ممثل جنوبي واحد في موضوع الاتحاد. ورداً على ذلك اجتمع الحكام البريطانيون للمحافظات الجنوبية الثلاث، مع سبعة عشر جنوبياً، وستة شماليين في جوبا يومي 12 و13 يونيو، 1947، لبحث العلاقات بين شمال السودان وجنوبه. وأيد معظم الممثلين الجنوبيين الاتحاد، وأكدوا مع ذلك ما اعتبروه تخلف الجنوب مقارنةً بالشمال، وأعربوا عن خوفهم من احتمال أن يهيمن عليهم جيرانهم الشماليون. وحرك مؤتمر "جوبا" الجدل السياسي والتاريخي في فترة ما بعد الاستعمار، فسعى علماء الشمال إلى إضفاء الشرعية على الدولة الوحدوية السودانية بزعم أن الجنوبيين أعربوا عن تأييدهم الكامل للوحدة عام 1947، أما السياسيون والمؤرخون الجنوبيون فأدّعوا أن الاتحاد كان قد قُرِر سلفاً قبل المؤتمر، وأنه كان يمكن أن ينفذ وإن أعلن ممثلو الجنوب عدم موافقتهم. وكانت الحجة الأخرى أن القادة الجنوبيين أعربوا عن تأييدهم للاتحاد بعد تعرضهم لتهديدات أو ابتزازات المشاركين الشماليين. على أي حال أقدمت السلطات البريطانية في الخرطوم على الاتحاد العاجل بين الشمال والجنوب. وكان من نتائج ذلك "الشمألة" التدريجية للتعليم في الجنوب من عام 1949 إلى الستينيات؛ فأدخلت اللغة العربية في المدارس الجنوبية كمادة أولاً ثم كلغة تعليم، واستبدلت البرامج التبشيرية بالمناهج السودانية الشمالية. ثم أُمِمِت معظم المدارس التبشيرية بعد سنة واحدة من استقلال السودان (1957). وقد أدت سياسات التعريب والأسلمة التي نفذتها حكومات السودان المتعاقبة في الجنوب منذ عام 1949 فصاعداً إضافةً إلى التهميش السياسي والاقتصادي للجنوب السوداني - دوراً حاسماً في إثارة الحرب الأهلية التي بدأت عام 1955. وكان فرض الرئيس جعفر نميري الشريعة على البلاد كلها (1983) وانقلاب عمر البشير (1989) الذي أتى بالجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي إلى السلطة - نقطة تحول في المرحلة الثانية من الصراع بين الشمال والجنوب (1983-2005). سودان ما بعد الانفصال والأصداء الاستعمارية يعدّ "الطلاق" الذي تم في الآونة الأخيرة بين الشمال والجنوب في نواحٍ كثيرة تراجعاً في تطور السودان السياسي في العقد الأخير من الحكم الاستعماري (1946-1956) عندما دُمِج السودانان في وحدة سياسية واحدة. وانقسام السودان الحالي إلى دولتين يوحي بالحاجة إلى إعادة تخيل التاريخ "الوطني" لكل بلد؛ فقد انقسمت كتابة التاريخ السوداني على نطاق واسع حتى عام 2011 بين التفسيرات الشمالية والجنوبية؛ فبينما صور الشماليون السياسة الجنوبية البريطانية بأنها السبب الأساسي للحروب الأهلية السودانية (لأنها "أوقفت" العملية التاريخية للتعريب في الجنوب، ومنعت ظهور الهوية الوطنية لكل السودانيين)، وكثيراً ما اتهم الجنوبيون البريطانيين بالتنازل على عجل أيضاً "تسليم" جنوب السودان إلى النخب السياسية الشمالية. وأشار باحث ياباني إلى أن مفاهيم مثل "السودان"، و"الأمة السودانية"، و"التاريخ السوداني" تحتاج إلى إعادة نظر من الأكاديميين والمواطنين. على المستوى العملي لا تعتمد جدوى سودانين كدولتين مستقلتين كثيراً على السوابق التاريخية "سودان واحد" أو "سودانين"، بل على قدرة قائديهما على حلّ القضايا الخلافية بين البلدين وتلبية الحاجات العاجلة في كل بلد. وما زالت القضايا الخلافية مثل رسمْ الحدود، وتقاسم النفط، والمواطنة، وقوانين الجنسية تنتظر الحلول. قد تسهل الجهود التي يبذلها حالياً الاتحاد الأفريقي للتوسط بين الخرطوموجوبا - تنفيذ اتفاقيات التعاون الموقعة بين البلدين. ومع ذلك يجب ألا تصرف القضايا الثنائية الانتباه المحلي والدولي عن المشاكل الداخلية في أي منهما. ولتجنب سلسلة جديدة من الانفصال أو الانهيار في السنوات القادمة تحديداً في دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق، وشرق السودان - على النخب الحاكمة في البلدين معالجة مجموعة واسعة من القضايا التي تتراوح بين الأمن والبنى التحتية والخدمات الاجتماعية، والعمل للتوزيع الإقليمي للموارد، والتمثيل السياسي للمجموعات المختلفة، والحريات الفردية. وسيتطلب التبني الناجح للهويات الوطنية الشاملة أو الولاءات على الأقل في أي من السودانين - تحول المجتمع الأوسع في السودان وفي جنوب السودان إلى نماذج التعددية، والتخلي عن المطالبات الحصرية على أساس العرق. ويجب أن تعترف المجموعات المهيمنة مثل قبائل السودان النيلية التي تعتدّ ب "عروبيتها"، والدينكا في جنوب السودان - بدور الأقليات العرقية والدينية واللغوية في تاريخ المنطقة، وتعرّف أماكن هذه الأقليات في المجتمع الحالي. المؤلفة : آيريس سيري-هيرتش حاصلة على زمالة ما بعد الدكتوراه في معهد أبحاث ودراسات العالم العربي والإسلامي بجامعة سي إن آر إس/إيكس مرسيليا(CNRS/Aix)، فرنسا)، وأستاذة زائرة في مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا (جامعة تل أبيب). يتم تمويل أبحاثها الحالية من المؤسسة الوطنية السويسرية للعلوم. ترجمة الفاتح حاج التوم عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.