قبل قمة الأحد.. كلوب يتحدث عن تطورات مشكلته مع صلاح    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    وفاة "محمد" عبدالفتاح البرهان في تركيا    شاهد بالصورة والفيديو.. فنانة سودانية تحيي حفل غنائي ساهر ب(البجامة) وتعرض نفسها لسخرية الجمهور: (النوعية دي ثقتهم في نفسهم عالية جداً.. ياربي يكونوا هم الصاح ونحنا الغلط؟)    شاهد بالفيديو.. الفنانة شهد أزهري تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بنيولوك جديد وتقدم وصلة رقص مثيرة خلال حفل خاص بالسعودية على أنغام (دقستي ليه يا بليدة)    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تسخر من الشباب الذين يتعاطون "التمباك" وأصحاب "الكيف" يردون عليها بسخرية أقوى بقطع صورتها وهي تحاول تقليدهم في طريقة وضع "السفة"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. (فضحتونا مع المصريين).. رجل سوداني يتعرض لسخرية واسعة داخل مواقع التواصل الاجتماعي بعد ظهوره داخل ركشة "توك توك" بمصر وهو يقلد نباح الكلاب    قائد السلام    واصل تحضيراته في الطائف..منتخبنا يؤدي حصة تدريبية مسائية ويرتاح اليوم    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    عيساوي: البيضة والحجر    دعم القوات المسلحة عبر المقاومة الشعبية وزيادة معسكرات تدريب المستنفرين.. البرهان يلتقى والى سنار المكلف    والي الخرطوم يصدر أمر طواريء رقم (2) بتكوين الخلية الامنية    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    العقاد والمسيح والحب    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أساس الفوضى (30) .. بقلم: د. عبدالمنعم عبدالباقي علي
نشر في سودانيل يوم 19 - 08 - 2016


بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
من أجل فهم مفهوم "التَّنافر أو التَّناقض المعرفي والسلوكي" لا بُدَّ للإنسان من مرجعيَّة فكريَّة معروفة يقارن ويحكم بها على سلوكه وذلك ليري مدي التَّقارب أو التَّباعد بين المرجعيَّة الفكريَّة وبين السلوك.
والمرجعيَّة الإنسانيَّة الشاملة هي مرجعيَّة أخلاقيَّة في الأصل، باختلافٍ لا يُذكر بين المجتمعات في تعريف السلوك المقبول، فقلَّ أنْ تجد مجتمعاً يعتقد أنَّ الكذب فضيلة، أو السرقة عملٌ أخلاقيِّ، أو القتل أمرٌ طبيعي، أو الخيانة لا بأس بها.
ولكن أيُّ مرجعيَّة لا بُدَّ لها من رؤيةٍ واضحة وشاملة ومتكاملة في ذهن المرء، وإلا فإنَّ انعكاس نور الرؤية المتجزِّئة، ذات الأفكار المُتشتِّتة، تكون كالمرآة المهشَّمة لا تعكس إلا خليطاً من الصور المتنافرة المُشوَّهة لا ترابط بينها وليست بذات معني ولا تهدي للتي هي أقوم.
ولا يفوتنا أنَّ غياب هذه الرؤية الشاملة والواضحة والمتكاملة هو السبب الأساس في تخلُّف شعوب المسلمين وفوضى حالهم إذ أنَّهم مُثقلون بتراثٍ مهيب يشدَّهم للوراء لم يطوِّعوه لخدمة حاضرهم ومستقبلهم بينما الرؤية هي التي تشدَّ النَّاس للأمام.
وهذا يُرجعنا لحديث المصطفي صلي الله عليه وسلم عن شرار النَّاس، الذين اختلطت أفكارهم المُتعاكسة بأمراض قلوبهم وظلمتها، لنري القاعدة الأخلاقيَّة للحكم على السلوك وما يُحرِّكه في النَّفس:
" ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الذي ينزلُ وحده، ويمنع رفده، ويجلد عبده".
فهو، صلي الله عليه وسلم، عندما قال ذلك كان يتحدَّث إلى مسلمين لهم نفس المرجعيَّة الفكريَّة وكانت أسئلته إضافة "معلومات" لهذه المرجعيَّة الفكريَّة بإعطائهم المعايير التي يستطيعون بها الحكم على مثل هؤلاء النَّاس؛ أي الذين سلوكهم يفارق المرجعيَّة الفكريَّة التي تتوقَّع نوعاً مُحدَّداً من السلوك الخيِّر.
ولأنَّ المصطفي صلي الله عليه وسلم يعرف كيفيَّة بناء الرُّؤية فقد عمد إلى تثقيف صحابته بشتَّي أنواع العلوم المعرفيَّة والثَّقافات الأفقيَّة للأمم ممَّن سبق وعاصر، تماماً كما بني المولي عزَّ وجلَّ رؤية المسلمين في كتابه الكريم معنيً معنيً ومفهوماً مفهوماً إلى أن أتَمَّها وأعلن ذلك: " ‫الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا‬". ‬
والإكمال هو عمل الشيء على أحسن وأفضل وجه، والإتمام هو الانتهاء من الإنجاز، فالمعني أنَّ الإسلام كرؤية نافعة قد تمَّ إنجازها، ولكن يتبقَّى للنَّاس تفصيلها وفهمها وتطبيقها بما يوافق سياق حياتهم، وتطبيقها على الوجه السليم يؤدِّي للنِّعمة وهي تمام العافية الجسديَّة، والنَّفسيَّة، والاجتماعيَّة والرُّوحيَّة، والخروج عن منهجها يؤدِّي للمرض أو الفوضى.
وكما أنَّ الرؤية غير تفصيليَّة في كلِّ أجزائها وتحتاج إلى خطط وبرامج عمل مُفصَّلةٍ منبثقة منها، فإنَّ المولي عزَّ وجلَّ ترك فيها بذوراً تحمل الصفات الجينيَّة لكلِّ أشجار الخير، وما على النَّاس إلا زراعتها وتوفير مُعينات النُّمو من علمٍ، وخبرة، ومهارة، وأخلاق لتنمو وتُثمر، وإلا ظلَّت كامنة في بذرتها أو ماتت إذا تعرَّضت للتَّلف.
ولاكتمال بناء هذه الرؤية في أذهان الصحابة رضوان الله عليهم، كان لا بُدَّ من معرفة لاحقة عن المسلم تُمثِّل معايير أخري مثل الخير كتعريف المسلم في حجَّة الوداع: "المسلم من سلم النَّاس من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنه النَّاس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر من هجر الخطايا والذُّنوب، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله"، وأيضاً من معرفة سابقة مثل:
"أولا أخبركم بخياركم؟ أطولكم أعماراً وأحسنكم أخلاقاً".
وفي حديث آخر: "خياركم الموفون المُطَيِّبونَ، إنَّ الله يُحبُّ الخفيَّ التَّقيَّ".
أو في حديث آخر:
"طوبَي لمن شغله عيبُه عن عيوب النَّاس، طوبَي لمن أنفق مالاً اكتسبه من غير معصيةٍ وجالس أهل الفقهِ والحكمة، وخالط أهل الذِّلةِ والمسكنة، طوبَي لمن ذلَّت نفسه وحسُنت خليقته، وطابت سريرته، وعزل عن النَّاس شرُّه، طوبَي لمن أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله، ووسِعته السُّنَّةُ ولم تستهوهِ البدعة".
فأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم كانوا يجمعون من المعلومات ما وسعهم، والرسول صلوات الله وسلامه عليه يزيدهم معرفةً مبادرةً من نفسه بلا سؤال، حتى يتمكَّنوا من بناء المفاهيم في مصنع العقل باستخدام آلته، فيستنبطون المعاني ويصلون لحقيقة الأشياء بالدَّليل، والذي هو خالص العلم، ويُكملون بناء الرُّؤية الشَّاملة المُتكاملة وعليه يقيسون ما يرون بما يعلمون.
وعندما يرون أحداً ينزل وحده؛ وهو الذي يعتزل النَّاس تكبُّراً وخيلاء وبخلاً فيأكل وحده، يعلمون أنَّ تناقضاً معرفيَّاً وسلوكيَّاً قد تمَّ بين شخصٍ له مرجعيَّتُهم المسلمة وبين سلوكه المُخالف.
ونحن في هذه الأيَّام مثلاً، نري في بعض بيوت العزاء من يجلسون على كراسي وثيرة وحدهم في داخل بهو المنزل في جوٍّ باردٍ، ويؤتي لهم بأفضل الطَّعام، وبقيَّة النَّاس يجلسون على الأرض في الحرِّ ويأكلون ممَّا يأكل منه عامَّة النَّاس والمصطفي صلي الله عليه وسلَّم يقول:
"إنَّما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد".
وهذا السلوك المُشين تمييز للنَّفس على الغير، وينشأ من الغرور وهو نتيجة السقوط الأخلاقي الأوَّل:
" ‫قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ". ‬‬‬‬‬
‬‬‬‬‬‬‬‬
وحتماً سيؤدِّي مثل هذا السُّلوك إلى الكيل بمعيارين في مختلف السياقات؛ وهو النِّفاق، وأفسدها في عدم تساوي النَّاس أمام القانون، فتجد معاملة مختلفة لأعضاء الطائفة المتسلِّطة أو الحزب الحاكم، مقارنة بمعاملة بقيَّة النَّاس ويبدأ ذلك بتقسيم النَّاس إلى خواص وعامَّة. والتَّاريخ مليء بالأمثلة لكلِّ الأنظمة الشموليَّة شرقاً ووسطاً وغرباً.
ونحن مثلاً رأينا في ماضي الأيَّام في السُّودان كلَّ النَّاس على اختلاف وظائفهم ومكانتهم يلبسون زيَّاً متشابهاً، ويجلسون على الأرض في بيت العزاء ويأكلون ممَّا يأكل منه عامَّة النَّاس، وعندما نريد أن نحكم على المجتمع في هذه الأيَّام هل ازدادوا خيراً وإسلاماً أم نقصوا، نستطيع أن نستخدم المعايير في المرجعيَّة الفكريَّة والرؤية للإسلام التي علَّمها الرسول صلي الله عليه وسلم لنا ونستنتج الحكم.

والتَّنافر المعرفي والسلوكي يحدث رغم معرفة هؤلاء النَّاس بهذه الحقائق ولكن لا ينهاهم أن يخالف سلوكهم ما يؤمنون به، بل ويجدون العذر لعدم تطبيقه باختراع الوهم البديل للحقيقة، أو يفتخرون بالسلوك المَرَضِي، والبعض يراه تعظيماً واحتراماً لمن بيده السلطة الماليَّة أو الحاكمة، والآخر قد يراه قُربي لله بتوقير عترة المصطفي صلي الله عليه وسلم، وبينما يدعون النَّاس للرِّجوع مثلاً لمثال دولة المدينة، أو لديكتاتوريَّة الطَّبقة العاملة تجدهم ينعمون بترف المدينة بينما الأغلبيَّة تُزري بحالهم المسغبة.
ونري قمَّة "التَّنافر المعرفي" عند الجماعات المُتشدِّدة مثل جماعة النَّازيَّة والفاشيَّة أو الدِّينيَّة التَّكفيريَّة، والتي تتستَّر وراء عباءة الدِّين لتحقيق أغراضٍ خاصَّة، وتستخدم نفس الأساليب الفاشيَّة القمعيَّة، وهؤلاء هم الذين لا يرحمون أحداً أبداً، حتى وإن كان من جماعتهم إن أظهر ضعفاً ما، أو ممَّن يُصنِّفونه كعدو، فالإنسان يُعامل كما يعامل الجماد يُستخدم حين الضَّرورة ويُرمي بلا اهتمام بعد انتهاء وظيفته.
ونراها بدرجةٍ أقلَّ في الجماعات السياسيَّة العقائديَّة عندما لا تسمح لهم الظروف بتعدِّي حدود الإنسانيَّة ولكن درجتها تزداد مع ازدياد الشموليَّة.
فالذي يؤمن بدين الإسلام مثلاً يعرف أنَّ إزهاق النَّفس التي حرَّم الله إلا بالحقِّ لا يُعادله أو يفوقه إثمٌ في الإسلام، ما عدا الشِّرك بالله، وهو كمثل قتل النَّاس جميعاً ويعلم ذلك من القرآن المجيد فيقرأ:
"منْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جميعاً". ‬
ويقرأ من كلام المصطفي صلي الله عليه وسلم:
"قتلُ المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا".
وقوله الشريف: "لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً".
‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ أو يقرأ عن قول الرسول الكريم مرَّتين: "اللهم إنِّي أبرأ إليك ممَّا صنع خالد" بعد قتل سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه لبني جذيمة حين أخطأ فهم ما قالوا، فهو قد بُعث داعياً لهم ولم يُبعث مقاتلاً.
وقول الرسول الكريم حينما قتل سيدنا أسامة بن زيد، رضي الله عنه، رجلًا من المشركين عندما رفع السيف فقال: لا إله إلا الله، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر على أسامة - رضي الله عنه - وشدَّد عليه وغلَّظ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ قال: "يا رسول الله ! قالها متعوِّذًاً" ثمَّ قال: "رفعت عليه السيف فلما رفعت عليه السيف قال: لا إله إلا الله إنَّما قالها متعوِّذًا، ما قالها عن إيمان". قال: "أشققت عن قلبه؟ كيف تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة"، وفي لفظ آخر: "اللهم إني أبرأ إليك فيما فعله أسامة".
وقد خلط سيَّدنا أسامة بن زيد بين مفهوميَّ الإسلام والإيمان، فالإسلام يطلب من النَّاس الحدَّ الأدنى وهو الشهادة باللسان، حتى وإن لم يؤمن المرء فذلك أمرٌ بينه وبين ربِّه لا سلطة للبشر فيه، ولذلك فقد استخدم سيدنا أسامة بن زيد ظنَّاً ولم يستخدم يقيناً؛ وهو لا سبيل له، فكان سؤال المصطفي صلوات الله وسلامه عليه: "أشققت عن قلبه؟".
ولكنَّه بالرَّغم عن ذلك تجدُ المُجاهد أو الثَّوري يقتل الأبرياء ولا يطرف له جفن بل ويحتفل بذلك والرَّسول الكريم يقول: وقوله: "من قتل مؤمنًا متعمداً فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً". ‫‬‬
أو يقول أيضاً صلي الله عليه وسلَّم في إعلاء قيمة الحياة على قيمة الموت، وقيمة الدَّعوة على قيمة القتال: "والذي نفسي بيده لإسلام رجل واحد أحب إليَّ من قتل ألف كافر"، يقول هذا في وحشيٍّ الذي قتل عمَّه حمزة بن عبدالمطَّلب رضي الله عنه وقد جاءه مُسلماً، وبعفوه عنه تدور الأيام فيقتل وحشيٌّ مسيلمة الكذَّاب. ‬‬‬‬‬‬
أمَّا كيفيَّة الوصول لتناسق هذا العلم مع الفعل في ذهن القاتل؛ فينتج عن تفريخ وهمٍ منتفخٍ بالباطل كأنَّه سمينٌ بالعافية، ويتمُّ ذلك بتحوير الحيثيَّات المعرفيَّة بحيث يجد لها القاتل سنداً يطمئنُّ إليه، أو يحذف أو يُضعِّف دليلاً لا يتوافق مع ما ينوي فعله بأخذه خارج سياقه، أو يفعل ذلك بتجاهله ومعارضته بحديث آخر في سياقٍ مختلف.
وأوَّل ما يفعله شخص كهذا هو أن يُغيِّر تعريف كلمة الحقِّ، أو أن يعتبر نفسه أنَّه الوحيد الجدير بتقرير معنى الحق، أو أنَّه المُمثِّل الوحيد له، كأنماَّ يُمثِّلُ الحقَّ في ذهنه نوعاً من السُّمِّ يحتاج إلى ترياق يعادله، وكلَّما تعارضت المفاهيم كلَّما ازداد السَّعي لإيجاد ترياق الباطل.
وما تفعله هذه الجماعات لتُقلِّل من فاعليَّة وثوران "التَّنافر المعرفي والسلوكي في نفوس أعضائها، عندما يشمئزُّ المُغرَّرُ بهم من رقيقي القلوب من أفعال القاسية قلوبهم، هو الانعزال عن النَّاس وسرِّيَّة العمل، والبيعة لمنهج فكريٍّ واحدٍ، والحجر على الفكر المُغاير وعلى أيِّ نوعٍ من الخلاف، وإعلاء قيمة الموت على قيمة الحياة، واختصار مشوار الحياة المُشوَّش في أذهانهم واستبداله بنموذج واضحٍ وبسيطٍ مثل القتال والشهادة.
أو بالإكثار من الطُّقوس ومن مظاهر القوَّة بدغدغة أحاسيس الإنسان البدائيَّة للقوَّة المُطلقة، وذلك باستخدام وسائل نفسيَّة لغسيل المخ بالإيحاء، أو باستخدام المُنبِّهات، أو بلبس الأزياء المشابهة وتشجيع المظهر المُتشابه، وتهييج المشاعر بالشعارات، وخلق ثقافة خاصَّة من الشعر والأناشيد أو الأغاني، أو تغذية الرَّغبات والشَّهوات بطريق مُغلَّفٍ بالقبول، وتشجيع التَّنافس بين الأعضاء في التَّضحية بأنفسهم من أجل الهدف الأكبر، مع الوعد بالسموِّ والعُلوِّ إن كان في هذه الحياة الدُّنيا أو في الحياة العليا.
وضحايا هذه التَّنظيمات من الشباب هم عادة من ذوي الفهم القاصر، أو اللامنتمين الذين يبحثون عن معني لحياتهم، أو الذين يبحثون عن يقين لا يجدونه في أحاسيس الشَّباب الفوَّارة أو عند أهلهم.
أو الذين لهم مشكلة أُسريَّة تدفعهم للتَّعلُّق بأسرة بديلة، أو الذين يبحثون عن هوِّيَّة، أو يمُرونُّ بفترة الشباب الطَّبيعيَّة للانفصال وللتَّفرُّد عن أبويهم.
أو من يريدون أن يُطهِّروا أنفسهم إن أسرفوا على أنفسهم، أو الذين تعلو فيهم الطَّاغوتيَّة من قساة القلوب ذوي الشخصيَّات المُختلَّة الذين يجدون بعض الشرعيَّة لممارسة ساديَّتهم المريضة بالتَّلذُّذ بعذاب الآخرين.
أو الذين فيهم من الخير الكثير وهمَّهم مساعدة البشريَّة أو تقوي الله؛ فيظنُّون أنَّ مثل هذه التَّنظيمات تُعطيهم ما يفقدون وتُقرِّب الشُّقَّة بينهم وبين الخير الدَّائم.
أو قد يكون الشباب ذوي ثقةٍ ضعيفةٍ بالنَّفس أو يُعانون من الاكتئاب أو القلق والتوحُّد الخفيف، والانعزاليَّة المرضيَّة، وفقدان المهارات الاجتماعيَّة لمدِّ جسور الصَّداقة مع الآخرين وخاصَّةً الجنس الآخر. ولربما تجتمع بعض العوامل في شخصٍ واحدٍ وتزداد قابليَّة الشَّخص للتَّجنيد بازدياد العوامل فيه.
ولذلك فالقائد منهم مثلاً يذكر صُور الظلم التي تقع على شعوب المسلمين، ويخاطب فيهم الإحساس باليأس والغضب من حال الأمَّة الإسلاميَّة وتقاعُد حكَّامها عن جهاد العدوّ، ويعكس لهم صورة ذهنيَّة خاصَّة عن زمن السلف وكيف أنَّهم هزموا الامبراطوريَّات العظمي في زمانهم.
ويستنتج من كلِّ ذلك أنَّ جميع النَّاس من الخوالف عن الجهاد بما فيهم الآباء والأمَّهات، وبذلك يُبخِّس قيمة النَّاس جميعاً إلا مجموعته، وإذا كان سيحارب فيُبخِّس قيمة المقتول، من أيِّ ملَّةٍ كانت، بأن يجعله أقلَّ قيمة من البهيمة، لأنَّ البهيمة في نظره تنفع ولا تضرُّ، ويقول بأنَّ هذا الإنسان عدوٌّ لله وللإسلام ولذلك يصحُّ ذبحه حتى إن شهد أنَّ لا إله إلا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله، أو هو عدوٌّ للدَّولة، أو للفكرة، أو للحزب إن كان اشتراكيَّاً أو بعثيِّاً.
بل ويري أنَّه على حقّ وأنَّ ما فعله يتماشى مع المفاهيم المُغايرة لتفكيره، أو لمُثل النَّاس جميعاً ممَّا يسمح له بالكذب على أهله، أو التَّبليغ عنهم للسُّلطات لأنَّه في زعمه يخدم الدَّعوة، أو القضيَّة أو الفكرة والمولي عزَّ وجلَّ يُحذِّرنا منهم:
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ".
وبنتيجة التفكير الانعزاليِّ يصل هؤلاء النَّاس لتناسق بين الفكرة والسلوك بعد حالة التَّنافر المعرفي والسلوكي بتأويل النُّصوص أو أخذها خارج سياقها أو عدم رواية الجزء الذي لا يتَّسق مع فكرهم.
وبرغم الذَّكاء العقلي لمعظم أعضاء هذه المجموعات إلا أنَّ ذكاءهم العاطفي يتناقص تدريجيَّاً مع ازدياد العصبيَّة للمذهب ومع ازدياد التَّفكير الأحادي الاختزالي.
وينسي مثل هذا الشَّخص، إن كان مسلماً، أنَّ الحديث يقول أيضاً: "إنَّ الله محسنٌ يُحبُّ الإحسان"، أو في رواية أخري: "إنَّ الله كتب الإحسان على كلِّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبح"، وهذا مقصود به البهيمة فما بال الإنسان؟
ولكنَّه يتصرَّف كأنَّه لم يسمع بحديث "من لا يرحم لا يُرحم، ومن لا يغفر لا يُغفر له، ومن لا يَتُبْ لا يُتَبْ عليه"، وهو في كلِّ فعله لا يُظهر رحمةً ولا شفقةً، ولا يفكِّر حتى في مسامحة ضحيَّته أو في الإحساس بإحساسه، ويكبِّر ويُهلِّل وهو يذبح ضحيَّته ثمَّ يُصلِّي ويقرأ: "بسم الله الرحمن الرَّحيم"، يطلب الرَّحمة لنفسه ويضنُّ بها على غيره.
ويعرف حديث المصطفي: "حين خلق الله الخَلق كتب بيده على نفسه الرَّحمة أنَّ رحمتي غلبت غضبي"، ولكنَّه يفعل ما يفعل وتبرير ذلك أنَّ المذبوح لا تجوز عليه الرَّحمة، ولكنَّه يغفل عن أنَّ المذبوح ليس بالمقصود بالرَّحمة في الحديث ولكن المقصود بها رحمة الذَّابح الذي لا يقتدي بالله سبحانه وتعالي ولا بالرسول عليه أفضل الصلوات والسلام.
والإمام محمد بن أبي بكرٍ الزَّرعي (ابن قيِّم الجوزيَّة) رضي الله عنه يقول:
"فإنَّ الشَّريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلُّها، ورحمة كلُّها، ومصالح كلُّها، وحكمة كلُّها؛ فكلِّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرَّحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتَّأويل".
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.