كنا على "عهد الصبا الأول" نطوف على مكتبات الخرطوم في أمسيات الخميس في سوقها "الأفرنجي" على سبيل الترفيه والتحرر من عذاب روتين المدرسة والمذاكرة وبقية الالتزامات المرهقة. كانت رحلتنا الأسبوعية تأخذنا لمكتبة "سودان بوكشوب" المكتبة الرئيسة في عاصمة البلاد، ومكتبة أخري تقابل "بابا كوستا" لرجل أحسبه من الأغاريق في شارع الجمهورية كنا نستمتع بتقليب صفحات مجلاتها الصقيلة الورق البديعة التصاوير، ومكتبة أخري اسمها "أفريكانا" لرجل أرمني في شارع البرلمان بها عدد كبير من الروايات التي تنشرها "دار بنجوين" الشهيرة، ونختم تطوافنا بزيارة "مكتبة الخرطوم" الشهيرة خلف "فندق فيكتوريا" العتيق على شارع القصر (فيكتوريا سابقا) وقرب مدرسة الخرطوم الأولية التي انشأها رفاعة رافع الطهطاوي. عادة ما يكون حصاد جولتنا الأسبوعية كتاب رواية يتيم لجراهام جرين أو دي أتش لورنس لا يتعدي سعره عشرة قروش كاملة! في كل جولاتنا الأسبوعية تلك كنت أري كتابين ثابتين في كل المكتبات التي كنا نرتادها: "النيل الأزرق" و"النيل الأبيض" لمؤلفهما "آلن مورهيد" (المراسل الحربي الأسترالي المولود في ملبورن عام 1910م والمتوفي في لندن عام 1983م). وعلى كثرة ما رأيت هذين الكتابين لم يخطر ببالي أن أقلب صفحاتهما، بله أن أقتنيهما. فلقد كنت – لجهلي- أظن أنهما من نوع الكتب المليئة بالصور الغريبة التي تكتب خصيصا للسياح البيض للتعرف علي مجاهل البلاد التي فتحها جدودهم وتحملوا عبء نقلها للعالم المتحضر. مرت السنوات، واتيحت لي فرصة قراءة ذلك الكتاب، وسخرت بالطبع من آراء الصبا القديم. عادت لي ذكرى تلك الأيام وأنا أفاجأ بكتاب "النيل الأبيض" صديقي القديم في طبعة عربية صدرت في عام 1965م (كما أظن) فليس على الكتاب أي دليل على عام الصدورأو دار النشر أو الطباعة. كل ما هو على الغلاف الأمامي هو عنوان الكتاب واسم مؤلفه ومترجمه: عمر الزين، وبحروف كبيرة جدا كتب سعر الكتاب: الثمن 25 قرشا! وكان ذلك سعر مرتفع جدا بمقياس تلك الأيام التي كان أجر عامل البناء اليومي فيها لا يزيد على "طرادة حمراء" تساوي 25 قرشا! ليس في الكتاب المترجم (كما هو متعارف عليه الحال هذه الأيام) أي نبذة تعريفية بالكاتب أو المترجم. بحثت عن أي معلومات عن ذلك المترجم القدير فعلمت من البروفسير إبراهيم الزين صغيرون (والذي أمدني مشكورا بالكتاب مصورا) أن المترجم – أمد الله في عمره- عمه ومن عائلة "صغيرون" الكبيرة سليلة "اولاد جابر" الذين أرخ لهم بروفسير تاريخ السودان الشهير بيتر هولت في ورقة بحثية له صدرت عام 1967م وبروفسير يوسف فضل في تحقيقه لطبقات ود ضيف الله، وأنه عمل لسنوات طويلة كإداري وخبير في مختلف بقاع السودان وفي سلطنة عمان. من أعجب ما قرأته في الصفحة الأولي من ذلك الكتاب خطاب سطره مؤلف الكتاب "آلن مورهيد" من مدينة ملبورن بإستراليا بتاريخ 22 فبراير1964م ردا فيما يبدو علي خطاب أرسله له المؤلف في 29 يناير1964م يخبره فيه بأنه قد قام بترجمة كتابه "النيل الأبيض". جاء في رد المؤلف (الذي أثبته المترجم بلغته الإنجليزية الأصلية وبترجمة عربية له) ما نصه: عزيزي السيد الزين، أشكرك على خطابك المؤرخ في 29 يناير. وقد أسعدني ترجمتك لكتاب "النيل الأبيض"، وإني أتطلع إلي الحصول على نسخة منه متى تمت طباعته. مع أطيب تمنياتي. المخلص آلن مورهيد ملبورن- استراليا هكذا ببساطة... لم تكن هنالك أدنى إشارة إلي "حقوق الطبع" أو "حقوق المؤلف" أو "حقوق الناشر"، بل أمنيات طيبة وسعادة غامرة لترجمة الكتاب المشهور للغة أهل البلاد التي يتحدث عن تاريخها وجغرافيتها الكتاب. لا أدري هل كان "آلن مورهيد" مجيدا للعربية حتى يتطلع للحصول علي الترجمة العربية، أم أنه كان يرغب في الاحتفاظ بنسخة عربية من الكتاب علي سبيل التندر فقط، أو ك"تذكار عزيز" أو غير ذلك. بالعودة إلي أمر "حقوق الطبع" التي لم يأبه لها المؤلف الأسترالي "آلن مورهيد"، ذكرني موقف ذلك الرجل العتيد بموقف حدث قبل عام أو عامين حين حاولت –بتوصية كريمة- من د/ عبد الله علي إبراهيم أن أترجم كتابا لباحثة أميريكية هي "هيثير شاركي" عنوانه "العيش مع الاستعمار" عن السياسة والوطنية والثقافة السودانية، كان نتاجا لبحث نالت عليه درجة الدكتوراة. كاتبنا المؤلفة للحصول على موافقتها على الترجمة فأبدت ترحيبها بالفكرة، بيد أنها ذكرت أن الأمر ليس بيدها وإنما هو بيد دار نشر جامعة كليفورنيا، والتي كانت قد تحصلت بدورها علي كل الحقوق المتعلقة بطبع ونقل وترجمة الكتاب، ولا مناص من الحصول على تلك الموافقة قبل الشروع في الترجمة، وإلا فإن "القانون" سيأخذ مجراه (ياللعبارة المخيفة)! وأضافت الكاتبة محذرة ومهونة لأمر الكتاب وترجمته أنها لا ترى أي قيمة "تجارية" لكتابها، فهو ليس مذكرات راقصة "رأت النور" على كبر، ولا كتاب يبحث في ذات الأمور التي فاتت على صاحب "تحفة العروس". لم يثبط ذلك من عزمنا فخاطبنا دار النشر الأميريكية الكبيرة فأغرقتنا بأوراق قانونية و"فورمات" كثيرة عن تسويات مالية يتطلب تعبئتها وقتا غير يسير، وطال انتظارنا لرد دار النشر الكبيرة التي لم يجد معها الحديث عن أن ذلك الكتاب يهم القارئ السوداني العادي (وهو ليس في عداد الأغنياء بأي مقياس) وإن القصد من ترجمة الكتاب ليس الربح المادي بأية حال من الأحوال. كذلك ذكرت تجربة لي ماثلة حتى اليوم عند محاولة ترجمة ونشر كتاب "في الصحافة السودانية" للمرحوم محجوب عبد المالك (بتوصية أيضا من د/ عبد الله علي إبراهيم)، وما زاالت محاولات الحصول علي الموافقة بالنشر من الورثة والناشر علي قدم وساق منذ عامين أو تزيد! دعتني قصة "آلن مورهيد" لإزالة بعضا من جهلي بأمر "حقوق الطبع"، وبدأت بأقرب مصدر متاح وهو موسوعة "الويكبيدا" (نصيرة فقراء الكتاب) ومنها علمنا أن "حقوق الطبع" هي نوع من "الملكية الفكرية" تعطي المؤلف (أو الناشر حسب اتفاق مسبق) الحق الكامل في منتوجه في أمور النشر والتوزيع والاقتباس والترجمة وذلك لفترة زمنية محددة (قدرت بخمسين إلي مائة عام بعد وفاة المؤلف)، يصبح بعدها العمل مشاعا لمن يرغب. كذلك يتحدث الناس عن "حقوق أخلاقية" للمؤلف تشمل حق الإشارة لعمله. ظهرت فكرة "حقوق الطبع" في بداية الأمر في بريطانيا (العظمى) عام 1710م، ثم ظهرت ذات الفكرة في دستور الولاياتالمتحدة من بعد ذلك بقليل.وبعد ذلك عقد في مدينة بيرن السويسرية عام 1886م مؤتمر لحماية الحقوق الأدبية والفنية في الدول ذات السيادة أقر فيه أن المؤلف لا يحتاج لفعل شئ ما لإثبات حقه الأدبي والقانوني في منتوجه الفكري أو الإبداعي،إذ أنه بمجرد صدور عمله يصبح تلقائيا ملكا له لا ينازعه فيه أحد. وعقدت دول العالم الجديد مؤتمرا في بوينس أيرس بالأرجنتين عام 1910م أقرت تثبيت عبارة "كل الحقوق محفوظة" على الأعمال المنشورة. تشمل الأعمال المحمية بقوانين "الملكية الفكرية" كل الأعمال الإبداعية والفكرية والعلمية والفنية (ويشمل ذلك بالطبع الأعمال الغنائية والإذاعية والرسومات وأعمال النحت والأفلام وغير ذلك). بالطبع بدأت ثقافة "الحقوق الملكية الفكرية" في الشيوع في السودان متأخرة بعدة قرون، وهنا لابد في هذا المقام من تذكر شاعرنا الكبير هاشم صديق، وجهاده من أجل الحفاظ علي "حقوق المؤلف" التي لم تكن في حسبان الملحنين والمؤدين، رغم ما جره ذلك من حرماننا من كثير من الروائع الغنائية التي شببنا عليها وتعلقت بها أفئدتنا، غير أن أن "الحق أولي بالإتباع"، و"ما ضاع حق وراءه مطالب". بيد أن إعلامنا الرسمي يضرب بعرض الحائط كل مساء بأبسط مبادئ "الملكية الفكرية" بتشجيعه للشباب (غير الطامح) لأداء أغاني قدامي الفنانين وهم أحياء ينظرون (ولا يرزقون)، وكل ما يحصلون عليه من عائد هو أمنيات مقالة "بالصحة والعافية" لا تطعم خبزا! أختم مقالي هذا بما ختم به في تفاؤل صاحب "النيل الأبيض" كتابه والذي ترجمه بإقتدار وبرضاء المؤلف ومباركته الأستاذ عمر الزين قائلا: "أما مصر فقد ذاقت صنوفا من الاستعمار الفرنسي والتركي والانكليزي حتي استقلت عام 1930م- ونال السودان استقلاله في عام 1956م، وبنهاية هذا العام (1963م) تنال يوغندا وكينيا وتنجانيقا استقلالهما (لعل الصحيح هو استقلالهم) ويصبح النيل حرا من منبعه الى مصبه مع حلول العام القادم (1964م). نقلا عن "الأحداث" badreldin ali [[email protected]]