بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    مجلس الأمن يعبر عن قلقله إزاء هجوم وشيك في شمال دارفور    أهلي القرون مالوش حل    مالك عقار – نائب رئيس مجلس السيادة الإنتقالي يلتقي السيدة هزار عبدالرسول وزير الشباب والرياض المكلف    بعد رسالة أبوظبي.. السودان يتوجه إلى مجلس الأمن بسبب "عدوان الإمارات"    السودان..البرهان يصدر قراراً    وفاة وزير الدفاع السوداني الأسبق    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    أزمة لبنان.. و«فائض» ميزان المدفوعات    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    اجتماع بين وزير الصحة الاتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    شاهد بالفيديو.. خلال إحتفالية بمناسبة زواجها.. الفنانة مروة الدولية تغني وسط صديقاتها وتتفاعل بشكل هستيري رداً على تعليقات الجمهور بأن زوجها يصغرها سناً (ناس الفيس مالهم ديل حرقهم)    شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    حملات شعبية لمقاطعة السلع الغذائية في مصر.. هل تنجح في خفض الأسعار؟    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نوستالجيات : الأُبيّض أيام زمان ... بقلم عوض محمد الحسن
نشر في سودانيل يوم 09 - 01 - 2010


1 ) خلوة الفكى زين العابدين
كانت خلوة الفكى زين العابدين معلماً بارزاً من معالم الأحياء الغربية لمدينة الأبيض، وخاصة فريق فور وحى الميرم والربع الرابع والربع الخامس ( ولم أستغرب فى صغرى لمعجزة وجود ربع خامس فى فوق الأرباع الأربعة فى الواحد الصحيح، وقد قيل لى بعد عقود أن المقصود هو الرَبع بفتح الباء وليس الرُبع ،غير أنى لم استسغ هذا التفسير كثيراً). وقد تركتْ هذه الخلوة وشيخها أثراً عميقاً لايُنسى فى نفسى وفى نفوس أترابى من ذلك الجيل. أتذكرها وأذكره وأترحّم على روحه كلما تلفتُّ حولى هذه الأيام ورأيتُ "العجب العجيب"، وأراه فى مخيّلتى فى خمسينات القرن المنصرم،يطوف أحياء الأبيض بحيرانه الصغار ،يقف بهم أمام بيوت بعينها ليُنشدوا : " العجب العجيب أن تموت بلادنا جهلاً وفيها سادة العلماء"!!
كان الفكى زين العابدين ابن عمر محمد آدم انساناً نادراً وصوفياً نقياً طاهراً يتقى الله حق تقاته ويأنف حتى شبهة الحرام.وحين رأى أن الدنيا فسدت من حوله اعتزل الناس وهجر المدينة الى ظاهرها فاراً بدينه وبخُلقه وظلّ يعيش خارجها فى أرض قفر مجدبة حتى وافته المنية عام 1986.
حفظ الفكى زين العابدين القرآن على يد الشيخ أبو كومة بمسيدِه قرب سنّار، وتلقّى علوم القرآن فى قرية "الرضمة" بضواحى ودمدنى، ثم عمل حارساً بمعسكر خزان سنار أثناء تشييده وقضّى سنوات عديدة بعد ذلك "سائحاً" وجاب السودان عرضاً وطولاً ،فزار بربر وسنار وأمدرمان والنيل الأبيض وغيرها، وتزوج فى هذه المناطق وأنجب عدداً كبيراً من الذرية ، (فى كل بلد سوّالو ولد)، ثم قدم الى الأبيض وتزوج فيها وأنشأ خلوته عام 1930 وظل بها يعلم النشأ حتى هجر المدينةحين فاض به الكيل.
وكان منهج خلوته منهجاً فريداً سابقاً لزمانه، يهيء الحيران لدنياهم ولآخرتهم. كان يحفّظهم القرآن الكريم، ويعلّمهم القراءة والكتابة والحساب، شأن معظم خلاوى ذلك الزمان، غير أنه كان يُضيف الى ذلك مهارات قلّ أن تعلمك أيّاها المدارس النظامية، عامةً كانت أم خاصة. كان يعلمهم لغة "الإشارة" بأعلام خضراء وحمراء ( مثلما يفعل البحارة ، يتحاورون من فوق سفنهم من على البعد قبل اختراع أجهزة الإتصال الحديثة)، ويعلمهم جغرافية بلادهم بتحفيظهم أسماء محطات السكة الحديد (رحمها الله هى الأُخرى) من الأبيض الى الخرطوم ثم الى حلفا وبورتسودان. تمر أمام الخلوة فيأتيك صياح الصبية يرددون وراءه :"الأبيض، العين، الرهد، السميح، ودعشانا، أمروابه...الى آخر الخط.وكان لا يتقاضى اى أجر على جهده اذ كان يأكل ويُطعم حيرانه مما يزرع هو وحيرانه بأرضٍٍٍ له بظاهر المدينة . وقد كان من حيرانه بعضٌ ممن أصبحوا من أعلام الأبيض مثل رزق الميرغنى من آل السلطان جبر الدار الذى درس بمصر وسُجن هناك فى عهد عبد الناصر، والدكتور آدم فضل الله (رحمهما الله) الذى درس أيضاً بمصر واصبح من أشهر أخصّائيى العظام،وعبد الرحمن أبو سته ،وهو من اشهر رجال الأعمال بالأبيض، ومحمد أحمد الجمل ،(أطال الله فى عمريهما) وغيرهم,
كان "تخريج" حفظة القرآن من خلوة الفكى زين العابدين مناسبةً كبيرةً ومهرجاناً شعبياً يُشارك فيه الجميع. يركب "الخريج" على فرس مطهّم وبيده السيف وسوط العنج، يطوف أحياء المدينة المجاورة يتبعه جمهور كبير من الرجال والنساء والأطفال. وحين ينتهى الموكب فى الفضاء الفسيح الممتد من زريبة العيش بسوق ودعكيفة جنوباً الى نقطة البوليس (التُمنة) الغربية شمالاً، تُذبح الذبائح ويولم الجميع وتقدم ل"الخريج" الهدايا من الأهل والمعارف والجيران,
وحين اعتزل الناس بنى لنفسه قطيةً وراكوبة بمنطقة "بنّو" جنوب الأبيض، وانتقل هو وزوجته الى تلك البقعة المهجورة، يزرع أرضها الخراسانية الصلبة بجهد جهيد. وحين سئل لمَ يزرع الأرض الصلبة والأرض الصالحة للزراعة على مرمى حجر، قال بلغة الصوفيين " أنا محكوم!". وكان يُربى حول قطيته عدداً كبيراً من الكلاب، ليس للحراسة، ولكن لكى تنبح ان مرّ بجوارها سائر، فيخرج له مضيئاً "بطاريته" التى لاتفارقه، مصراً على استضافته واطعامه.وكان ابنه عبدالله يأتيه بزادِه من الأبيض كلّ حين، فيقول ،رحمه الله،:" عبد الله مسئول أمام الله ان أطعمنى من حرام". وكان لايزور المدينة الاّ كل جمعة، يصلّى الجمعة فى جامع "أب شره" على مشارف ألأبيض الجنوبية، ثم يطوف بيوت أهله وجيرانه ومُريديه ،يعزّى فى الأموات ويعود المرضى، لا يأكل ولا يشرب الاّ الماء القراح خشية الحرام. ثم انقطع فجأةً عن زيارة المدينة حتى وفاته، وحين سئل عن ذلك قال أنه أصبح يقرأ على جباه من يلقاهم "سعيد" أو "شقى" فيُحزنه ذلك حزناً شديداً، فآثر ألاّ يرى الناس فيحزن على مصير من يعرف.
رحم الله الفكى زين العابدين بقدر تقواه النادرة، وعلمه النافع، وعمله
الطيّب. كان عالماً سابقاً لزمنه، وانساناً عفيفاً طاهراً، وصوفياً شفيفاً صافياً حتى ليكاد يحلّق، ومعلماً بارعاً قدماه راسختان على أرض الواقع الصلبة.
ومن فرط محبة الله له أخذه الى جواره قبل أن يرى الفساد يعمُ البحر والبر فى زمننا التعيس هذا.
2 ) سوق ودعكيفه
زرت مدينة الأبيض قبل عامين، وقصدت أول ما قصدت سوق "ودعكيفه" مرتع صباى الأول، فهالنى ما آلت اليه حال السوق. تكالبت عليه عوادى الزمن وعوامل الطبيعة فأحالته خرابات ينعق فيها البوم، ولم يبق من دكاكينه العديدة العامرة الا القِلّة، بينها دكان أبوبكر ، حلّاقى منذ زمن الدراسة. وقد علمت أن السوق هُدّم بعد زيارتى له على أمل تخطيطه وبنائه من جديد، ولا أدرى ماذا حلّ بأبى بكر.
كان سوق ودعكيفة (المسمّى على العمدة ودعكيفة عمدة الحى) سوقاً مزدهرة حين رأيته أول مرّة مطلع الخمسينات من القرن الماضى، يأتيه الناس من الأحياء المجاورة والبعيدة، كما يأتيه الناس من قرى ضواحى الأبيض على ظهور حميرهم العجفاء (ماركة رالى)، يبيعون حطبهم وفحمهم وبعضاً من "خيرات الخريف"، ويشترون لوازمهم المحدودة من السكر والشاى والبن والصابون والأقمشة الخشنة، ثم يعودون فى نهاية اليوم الى قراهم المهملة ،يجهّزون "بلدانهم" و"يطقّون" هشابهم و ينظرون الى السماء رجاء الغيث النافع، ويقطعون الأشجار المحيطة بقراهم لزيادة مداخيلهم فى الحاضر ،ولإفقار بيئتهم وافقار أجيالهم القادمة فى المستقبل.
ولم تكن الكهرباء قد وصلت السوق وغرب الأبيض آنذاك، ولكن كان منظر السوق ليلاً ب"رتائنه" الوهّاجة منظراً خلاباً مدهشاً فى أعينى القروية القادمة من مجاهل ديار الشايقية حيث الظلام من السمك حتى لتكاد تتحسسه بيدك. وكان سوق ود عكيفة (والأبيض عموما) طفرةً حضاريةً عملاقة بالنسبة لى، أدخلتنى عالم التكنولوجيا الحديثة برتائنها و ماكينات الخياطة "سنجر" والدّراجات (وما ادراك ما الدرّاجات) واللوارى والسوق الكبير وشوارع الأسفلت ودور السينما و"جروبى" و"أبونجمة" و"ابو ثلاثة نجوم" ،(حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت). أردفنى ابراهيم محمد خير (أطال الله فى عمره)على درّاجته أول أيام وصولى الى الأبيض وكدتُ أفقد أصابع قدمىّ حين أدخلتهما فى أسلاك الإطار الخلفى مثلما نفعل غلى ظهور الحمير خشية السقوط !
بُنى سوق ودعكيفة فى بادئ الأمر من ثلاثة صفوف فى مربع ناقص الأضلاع، كل صف مكونٌ من أربعة دكاكين تتجه شرقاً وغرباً وشمالاً حول ميدان استحال الى موقف لعربات الكارو وحمير القرويين ومسرح لمجانين السوق، وما أكثرهم. ثم أُضيف صفّان آخران فى الناحية الشمالية يتجه أحدهما الى الجنوب ليكمل اضلاع المربع، ويتجه الآخر الى الشمال فى مواجهة سوق الخضر و"زنك الجزر" و"الفرّاشيات". وقد أصبح الفضاء الواقع بين الصفين الجديدين مطعماً شعبياً فى الهواء الطلق، يبيع فيه "عم بهلول" ، وغيرُه،الشاى باللبن والرغيف المدوّر "أبو قرشين" فى الصباح، وتُقدِم فيه "أم فتّاح" بمحفظتها الهائلة "النّفولة" و"الجقاجق" مساءً فى ضوء "السهراجات" لمن لايستطيع غير هذه الأطباق الشهية المصنوعة من بواقى اللحوم التى لا هويّة لها ولا سوق. وفى شرق السوق تقع "زريبة العيش" بتجارها اللذين يحفظون نقودهم فى أكياس من "التيل"، موسومة بهلال علم مصر القديم( وذلك قبل قدوم وباء الأعلام ثلاثية الألوان بمثلثها الأخضر وصقورها ورخمها). وبجانب الزريبة تقع "كشاشات" السمكرية اللذين يفترشون الأرض يصنعون الأعاجيب من الصفيح، وفى مقدمتهم الأسطى "جادو" رحمه الله.
وكان أهلى الشايقية( وبينهم والدى عليه رحمة الله) يشكّلون غالبية تجار السوق وصبيان دكاكينه وعربجيته وموزعى الجاز الأبيض الى دكاكينه وبعضاً من ترزيته. وكان الترزية يجلسون على ماكينات "السنجر" فى برندات السوق أمام الدكاكين، يصنعون الأعاجيب فى حِذقٍٍ ومهارة من الدمورية والدبلان للرجال، ومن "الشكشاكة"و" الباطِستا" وغيرها من فاخر الأقمشة للنساء. وكانوا فى ذلك الزمان "كهنة" التكنولوجيا الحديثة، يتعاملون مع زبائنهم من الرجال والنساء الريفيات من علٍ كما يتعامل الأطباء الكبار مع عامة الناس هذه الأيام، يعلمون جهل زبائنهم ولا يحمّلون أنفسهم مشقة شرح فنّهم المعقّد. وكانت ساحة السوق تزخر بشخصيات عجيبة ومجانين مختلفى "الماركات" والفنون. كان "حُمار" رجلاً ضخم الجثة فى فيهِ أسنان كبيرة الحجم كأسنان الحمير، يضحك لك لقاء أجر : تعطيه "تعريفة" فيضحك لك مقدار "تغريفة"، وتعطيه قرشاً فيضحك لك مقدار قرشٍٍ، وأظن أن الضحك "شرطَهُ" فى نهاية الأمر حين ركبت الهموم الناس فعافوا الضحك.وكان "الدبّوية أو موسيلينى جاكم" من ضحايا حرب الطليان، يدبّ على شوارع الأبيض وفى أسواقها، يجرّ رجليه ويعدد ، لسبب أجهله،محطات السكة الحديد بين الخرطوم وسنّار: “ الكلام ود الحدّاد، الكلام الحاج عبدالله، الكلام قالوا لى......." وغير ذلك مما يُنشر ومما لا يُنشر.و"فتّاح ابو طيّارة"" ابن "أم فتّاح" الذى كان يفتح ذراعيه محلّقا فوق شارع البديرية بفعل ما يحتسيه من كميات تجاريه من "موية الكسره"،وكانت هناك أيضاً "حليمة" و "سكوته" وهما مجنونتان من مدارس متباينة ،تختلفان فى اللون وفى فنون جنونهما.وكان ل"سكوته" علاقة حميمة ب"ود الشيخ"الملاك الحارس لسوق"أبجهل" الذى كان يضربها ضرباً مبرحاً عقب كل لقاء رومانسى معها. وكان الناس فى تلك الأيام لا يأنفون استثارة هؤلاء المجانين و"مشاغلتهم" معتبرين ذلك من وسائل اللهو البرئ. ,كان الصبية وغيرهم يصيحون فى "الدّبُويَة" : :موسيلينى جاكُم!" فيطاردهم قدر استطاعته ويرميهم بالحجارة وبأقذع الألفاظ.
وفى ستينات القرن الماضى دارت الدوائر على سوق ودعكيفة نتيجةً ل"التحولات الكبرى" فى اقتصاد المنطقة وفى مجتمعها، اذ فُتحت "الكناتين" فى الأحياء المجاورة وفى قرى "ضهارى" الأبيض، وأغفل خط سكة حديد الغرب الأبيض فبدأ من الرهد صوب نيالا وواو . مات سوق ودعكيفة تدريجياً حتى اندثر، واضمحلّت الأبيض تدريجياً تحت وطأة بوار سوقها وازمات الكهرباء والمياه التى أقعدتها ولاتزال ،وأصناف الحكام اللذين تعاقبوا عليها، وهجرة أهلها نحو الخرطوم وعبر البحر الأحمر. ويحاول الآن نفرٌ من أبنائها اقالة عثرتها وضخ الدماء فى شرايينها المتكلسة، أعانهم الله ووفّقهم، وجعل على أيديهم احياء المدينة وازدهارها.
3 ) بنجوس واخرين
" يا الله بلدي يا بنجوس " !!
و يتمنع بنجوس (رحمه الله حياً وميتاً) قليلاً بحجة الإعياء، ثم لايلبث أن "يهز" راقصاً "عشرة بلدي" مثل سامية جمال فى الأفلام المصرية الأبيض وأسود على شاشة سينما كردفان فى الأبيض فى الخمسينات من القرن الماضى.
كانت الخمسينات "أحسن الأوقات وأسوأ الأوقات" كما قال المرحوم تشارلز ديكنز. كانت معظم منازل الأبيض من القش، وكانت معادن معظم الناس من الذهب. كان الفقر يعتصر معطم سكان المدينة ( والسودان عامةً)، ولكنهم ينامون ملئ أجفانهم، لا يؤرقهم ما يأتى (أو لا يأتى) به الغد.
“أخلص يا بنجوس!"
و"يخلص" بنجوس فيتفصد العرق من وجهه المهضوم المتهلل، وتفترّ شفتاه عن ابتسامة دائمة تُظهر أسنانه الأمامية وقد وخطها لون الترسبات الجيرية التى تزين ثنايا بعض أهل كردفان. كانت سامية جمال آنذاك بضة وبيضاء من غير سوء، وبنجوس أغبش أغبر داكن اللون، ولكنه يرقص مثلها، فيدخل البهجة الصافية فى نفوس جمهوره الأغبش مثله.
وكان عمر جميل(رحمه الله) على الطرف الآخر من بنجوس فى مدارس الرقص ،اذ كان يرقص ال"روك آندرول" ،وهو بعد صيحة جديدة. كان عمر سابقاً لزمانه، واسع المعرفة بما يتجاوز حدود مدينته وبلده وقارته.رفيع الذوق،يرتدى ملابس سوداء اللون ،بنطاله ضيّق وقميصه ذو جيوب عديدة، وحزام جلدى عريض مزينٌ بأزرار معدنية لامعة يلتف حول خصره الناحل. وكان ذا قوام رياضى ممشوق ،يرقص مثل الفيس برسلى، ان لم يكن أفضل منه.وكان مثل بنجوس يرقص فى الأفراح والمناسبات الأخرى فى الأبيض فيبهج جمهوراً متعطشاً للون والحركة وكل ما من شأنه كسر رتابة يومهم الأغبش العاطل الا عن العنت والسعى وراء لقمة العيش.
وكانت السينما ،المتنفس الآخر فى مدينة الأبيض (ومدن السودان العجفاء الأخرى)،عالماً سحرياً غلى الشاشة وعالماً عجيباً على كنبات "الشعب"، يهرع لها الجميع كلما غربت شمس لتنقلهم من فيافى كردفان الجرداء (الاّ فى الخريف) ،المسطحة كالطاولة، الى جبال شاهقة تكلّل هاماتها الثلوج، وروابى خضراء ،وبحار لازورديّة، وانهار مزبدة كالسيل،
وسهول رحبة تمرح فيها خيولٌ ملونة بالوان الطيف،وغابات تزخر بالكواسر، ووخوه حسنة ناضرة، وحسان تذكرك بالجنان وتنسيك ما حولك
من غبشة ومسغبة وبؤس، وفرسان مغاوير يصارعون الأسود والوحوش والمخلوقات الخرافية فيصرعونها، ومروج تكتسى بالزهور البريّة تنسيك أشجار اللالوب واللعوت العجفاء ونباتات السوريب والسنمكة والضريسة الغبشاء.
أنا "مسكون" بالسينما منذ صغرى. أذكر أول مرّة رأيت فيها "السينما". حملنى والدى-رحمه الله- وأنا صبى يافع قادم لتوه من "البلد"، ونحن نمرُّ أمام سينما كردفان، لأسترق النظر من باب السينما المفتوح، وأذكر انّى رأيت اضواءً هلاميّةً تتراقص (اكتشفت فيما بعد أن ما رأيته كان ركناً صغيراً من الشاشة). وحين زالت عنّى قشرتى القروية أحببت السينما وأدمنتها شأن الجميع.
كانت سينما كردفان ساحةً مهولة غالبها درجة تالتة (وتسمى الشعب لسبب ما زلت أجهله وقد تعنى الرجرجة والدهماء)، وكان لها شاشة عملاقة من التيل المشدود وامامها مسطبة من الأسمنت يقدم عليها "عيال فريق فلّاته" ،فى أبهى حلل الكاوبويز ،عروضهم قبل "المناظر" وفى الاستراحة. وكان رواد الشعب خليطاً عجيباً من الأميّين والمتعلمين
والطلاب وصبيان المنطقة الصناعية والتشّاشة وعتّالة سوق الصمغ والمدرسين وصغار الأفندية، ياتون من الرديف وجبرونا وفريق الميرم وفلسطين وفريق فلّاتة وفريق فُنقر وفريق العشر وديم العُضام ( وبيوتها مشيدة من القش)، ومن أحياء الأبيض الأخرى الفاخرة فريق القبّة والربع الأول والتانى والشويحات وتقى وفريق الموظفين ( و معظم بيوتها مشيدة من الجالوص) راجلين (وذلك قبل اختراع المواصلات الداخلية)، يأتون جميعاً ليبدلوا واقعهم الأغبش "واقعاً" ساحراً زاهى الألوان.
وقد سبقت سينما كردفان العالم "أجمع" فى مجال التكنولوجيا فكانت سينما "تفاعلية" يتحدث فيها المتفرجون الى الشاشة فتستمع اليهم،ويتفاعلون مع أحداثها وشخوصها فرحاً وحزناً وغضباً وخوفاً وخيبة أمل. يحزنون حين تُظلم شادية فينادونها من كنبات الشعب : "معليش يا شادية"، فيهدأ روعها، ويحذّرون "البطل" من "الخائن" المتربص خلف الصخور :"وراك..وراك!"، فيلتفت البطل ليردي الخائن برصاصه ويبتسم خلسة للجمهور يشكره على التحذير، ويغنّون مع الأفلام الهندية بلغة أردية فصيحة وحس موسيقى رفيع، ويصفقون للخيّالة اذ تهب لنجدة البطل وهو يتمترس وحيداً خلف تلّة يصد جحافل الهنود الحمر، وتسكُن حركتهم وتصمت ألسنتهم التى لا تتوقف، و"يقنِتُون" فى صمتٍ أثناء المشاهد الغرامية الساخنة الّا من صوت وحيد يشقّ ظلام السينما الدامس:"يابتاع الشااااى!". كما كانت سينما "تعليمية"، يُنبئك فيها من لم تبع له (وقد شاهد الفيلم مرات ومرات) بمجريات أحداث الفيلم ونهايته حتى يسكن روعك وتطمئن أن البطل لا يموت رغم ما يعانيه من أهوال وعذاب، وأن القاتل الحقيقى هو صديق البطل ،وأن المال المسروق مخبأٌ تحت السرير وأن الحسناء ستتزوج البطل فى نهاية الأمر رغم ما تبديه من صدود وعناد فى بداية الفيلم.
وكان رواد الشعب يعرفون الممثلين معرفة شخصية: فريد شوقى ومحمود المليجى ويوسف وهبى وسراج منير ( الذي يصبغ وجهه بالورنيش ليصبح عنترة العبسى،) وكوكا (التي ترتدى زى الراهبات لسبب ما). يضحكون مع (وعلى)شرفنطح وعلى الكسّار واسماعيل ياسين وسعيد أبوبكر و"أبو الدّبل". يُعجبون بفتيان الشاشة المصرية أنور وجدى وكمال الشناوى وأحمد مظهر وأحمد رمزى، ويُحبون حسناواتها فاتن حمامة ونعيمة عاكف وهند رستم وسعاد حسنى وزبيدة ثروت وشادية. ويعرفون كذلك أسماء الممثلين فى الأفلام الهندية كراج كابور وشامى كابور وأبناء وبنات عمومتهم، ويحفظون اغنيات أفلامهم عن ظهر قلب. ويعرفون (بطريقتهم الخاصة) أسماء أفلام الكاوبويز : استيف الطويل واستيف القصيّر واستيف أبو كمامة، واسم "العوير" فوزى ( ولا أدرى من أين جاءوا بهذا الإسم-ربما لأنه من أسماء الحلب الشائعة). ويحفظون الحوار كلّه عن ظهر قلب حتى ولو كان بلغة اخترعتها السينما المصرية كلهجة كوكا وسراج منير فى فيلم "عنتر وعبلة" :- "أيش هادا الدراع؟ دراع سبع؟" و "بنت عمى تنادينى والحديد يقاوينى!"، ويصرخ العارفون فى الظلام وهم يرون عنترة يحطم الأغلال الحديدية: “سجك..سجك!"،أو :"كرتون..كرتون" حين يهدّ شمشون الجبار المعبد عليه وعلى أعدائه.
وكانت سينما كردفان (وشقيقتها الصغرى سينما عروس الرمال) سوقاً رائجةً للعنكوليب وعيش الريف والهالوك والشاى والتسالى الذى كان يستهلك بكميات وافرة. وكان أكل التسالى فى الأبيض فناً رفيعاً له مدارسه وأساليبه والتى تتفاوت بين التقشير حبةً حبه للمتأنقين والهواة، وبين حشو الفم بكمية "مقدرة" يخرج القشر على اثرها فى زخّات كرصاص الكلاش ،أو يلتصق كله على ظاهر الشفتين ليمسح فى رشاقة بين الفيّنة والأخرى حتى لا يُشغل آكله عن التركيز فى ما يجرى على الشاشة.
وكانت أكثر اللحظات اثارة فى السينما انقطاع شريط الفيلم أثناء العرض، وحينها ينهض رواد الشعب ويقفون على الكنبات ويولون وجوههم شطر غرفة العرض ويشتمون باقذع الألفاظ الخواجة ووالده ووالدته وأسلافه جميعاً، ثم يشرعون فى القاء الزجاجات الفارغة وكافة الأجسام الصلبة المتوفرة صوب الشاشة فيحيلونها بعد قليل الى مجموعة من الثقوب يستحيل رتقها بعد حين، مما أضطر أصحاب السينما الى بناء شاشة من الأسمنت المطلى بالجير الأبيض ليتجنبوا مشقة الرتق المتكرر.
وكان جلوس رواد الشعب يتبع طقوساً عجيبة لم أعرف مصدرها، اذ يجلسون جميعاً قبل بداية العرض على أعلى ظهر الكنبات ويجعلون أقدامهم حيث يكون مكان الجلوس. ثم يلتفتون نحو "اللوج" لرؤية "العوائل" الجالسة فى الدرجة الأولى والثانية على مقاعد فاخرة من الحديد والحبال. وحين يطول (أو لايطول) الإنتظار ويمل روّاد الشعب "الفرجة" على رواد الدرجات العليا، يبدأون فى ممارسة رياضتهم المفضّلة وهى الصفير الحاد وتوجيه الشتائم النابية للخواجه المسكين وللسيدة والدته ولعموم ملّته، الأحياء منهم والأموات، ولا تهدأ هذه الثورة الا باطفاء الأنوار توطئةً لبداية العرض.
أما الحصول على تذكرة لدخول السينما فقد كان مغامرةً لها مخاطرها الجسيمة والجسدية أحياناً، فشباك التذاكر مصمّم كقفص للحيوانات شديدة الإفتراس، مصنوع من القضبان الحديدية الغليظة، "يندفس" داخلها وخارجها وفوقها ومن جوانبهاعشرات المغامرين الباحثين عن المتعة داخل السينما وخارجها ،فى معركة ضارية يضطر "بوليس السوارى" للتدخل لفضّها، ثم لا تلبث أن تعود الى حالها فور رحيله.معركة الداخل فيها مفقود، والخارج منها (بتذكرة أو بدونها) يخرج فاقداً أزراره وأكمامه و"جزلانه"، وربما ما هو أثمن، مما خلق سوقاً موازية رائجة لمن يحبون السينما ويهابون الزحام!
أطال الله "كديرو ود حليمة، مدير السينما القديمة"، روح سينما كردفان و"موتورها"، ورحم الله أخى ادريس حسين ادريس الذى أنفق من ماله قسطاً ليس باليسير لنستمتع بالسينما وبصحبته، وأطال الله عمر من بقى من شُلّة السينما فى الأبيض، وأقال الله مدينة الأبيض من عثرتها التى طالت فقد منحتنا متعة ذكريات ذلك الزمن الطيب فى هذا الزمن العجيب!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.