تتجه العلاقات المصرية - السودانية بخطوات سريعة نحو عملية “تصحيح مسار" لعلاقات ظلت تراوح مكانها على مدى العقود الثلاثة الماضية بين بلدين، لا يجمعهما فحسب تاريخ ومصير مشترك، بل شريان واحد يضخ الحياة في جسد شعبين، تربط فيما بينهما وشائج تقاليد وثقافة متجذرة في عمق التاريخ، حتى إن فرقتهما السياسة . وربما تكفي قراءة سريعة للتصريحات التي أطلقها خلال الأسابيع الماضية مسؤولون متنفذون في البلدين، للدلالة على ذلك التحول الكبير في العلاقات بين القاهرةوالخرطوم، وفي مقدمتها تلك التصريحات التي أطلقها نبيل العربي وزير الخارجية المصري، والتي أكد خلالها صراحة أن العلاقات الثنائية بين البلدين “تحررت في يوم 25 يناير"، وأن مصر “قررت أن تبدأ صفحة جديدة مع الجميع، وعدم الالتفات لأخطاء الماضي من أي جانب"، معرباً عن أمله “شخصياً" في أن تصبح “مصر والسودان وليبيا دولة واحدة" . لم يكن غريباً أن يكون الرئيس السوداني عمر البشير، هو أول رئيس عربي يزور القاهرة بعد سقوط نظام مبارك، فقد سارع الرجل في 8 مارس/آذار الماضي إلى زيارة مصر، حيث استقبله المشير محمد حسين طنطاوي رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بعد مراسم استقبال رسمية في مقر وزارة الدفاع المصرية، قبل أن يعقد الجانبان لقاء تناول سبل دعم العلاقات بين البلدين، وتعزيز الشراكة المصرية - السودانية في العديد من المجالات، ثم لم تمض سوى أسابيع قليلة حتى قام رئيس الوزراء المصري الدكتور عصام شرف بزيارة كانت هي الأولى من نوعها أيضاً بعد الثورة إلى الخرطوم، حظي خلالها باستقبال شعبي ورسمي حافل، وقد توجت تلك الزيارة بالإعلان عن قرب توقيع عدد من اتفاقيات التعاون تصل إلى سبع اتفاقيات فضلا عن توقيع عدد من مذكرات التفاهم المشتركة بين البلدين، إضافة إلى خمسة آلاف رأس من الأبقار أرسلتها الخارجية السودانية إلى القاهرة على سبيل “الهدية" للشعب المصري . الزيارات المكوكية بين القاهرةوالخرطوم، حتى إن بدت للوهلة الأولى طبيعية ولا تدعو للدهشة، بين بلدين يمثل كل منهما امتداداً طبيعياً للآخر، تعد بنظر كثير من المراقبين بمثابة “رسالة قوية وذات مغزى" لأطراف إقليمية ودولية متعددة، لا تؤكد فحسب مدى أهمية السودان بالنسبة لمصر، ومدى أهمية مصر بالنسبة للسودان، وإنما تؤكد في الوقت ذاته أن البلدين قد شرعا بالسير بخطوات واسعة على الطريق الصحيح، لتجاوز ما علق بعلاقاتهما السياسية من توتر خلال فترة نظام مبارك، ذلك التوتر الذي بلغ ذروته في منتصف تسعينات القرن الماضي، ووصل إلى حد تبادل طرد السفراء والمبعوثين الدبلوماسيين . بوابة مصر الجنوبية 0وينظر كثير من المراقبين إلى عودة الدفء للعلاقات المصرية السودانية باعتبارها “بوابة مصر الحقيقية" لعودتها إلى موقع الريادة في الوطن العربي والإسلامي، ويقول هؤلاء إن هذا الأمر لن يتم إلا إذا اعترف الطرفان بأخطاء الماضي، وبالمواقف المشتركة التي تؤكد عمق الروابط الجغرافية والإنسانية بين البلدين حتى إن لعبت السياسة دوراً في تعكير صفوها على فترات . الثابت أن قيادتي البلدين وعتا ذلك جيداً في العديد من الأزمات التي نشبت على مدى أكثر من خمسين عاماً، ففي فترة الحكم العسكري الأول في السودان بقيادة الفريق ابراهيم عبود، تم التوصل إلى اتفاق حول مياه النيل وإنشاء السد العالي، وقد وضح ذلك جلياً في البيان الأول لعبود عندما أكد أن حكومته سوف تسعى لإزالة حالة الجفاء المفتعلة بين الشعبين المصري والسوداني، التي كان يرى أنها من صنع السياسيين، وقد أثبت عبود ذلك عندما نحى مشكلة الحدود المتمثلة في منطقة حلايب جانبا، بعد أن أثارها السودان بقوة في عهد رئيس الوزراء الأسبق عبدالله خليل . من جانبها استوعبت مصر جيداً الحراك السياسي الذي شهده السودان بعد فترة الرئيس عبود، وهو ما عرف في الأدبيات السودانية بفترة “الديمقراطية الثانية"، وقد لعبت هذه الفترة التي استمرت بين عامي 1964 حتى 1969 دوراً كبيراً في التأثير في العلاقات المصرية السودانية، وقد قيل وقتها إن مصر لم تعر ثورة أكتوبر السودانية الاهتمام المطلوب، فيما عملت بعض القوى السياسية الداخلية على إثارة الشارع السوداني، الذي خرج في موجات احتجاج عاتية على الإعلام المصري بل حد الإساءة للعلم، لكن القيادة المصرية اعتبرت ذلك انفعالاً طبيعياً وتجاوزت الأمر، وقد رد السودان على ذلك بدوره عملياً عقب اندلاع حرب يونيو/ حزيران في عام ،1967 عندما أعلن الرئيس إسماعيل الأزهري أن السودان دولة مواجهة مع “إسرائيل"، وأنه يقدم كل إمكانات السودان للقيادة المصرية للمشاركة في المعركة، وقد تجسد ذلك أيضا في “قمة الخرطوم" بلاءاتها الثلاث، وإن ظل لقوة شخصية الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، دور كبير في احتواء ما ظهر على السطح من أزمات خلال تلك الفترة وما سبقها . ظلت العلاقات المصرية - السودانية تراوح مكانها خلال فترة حكم السادات ومن بعده مبارك، ووقع البلدان ميثاقا للتكامل في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1982 بهدف تقنين العلاقة وإخضاعها للإشراف الحكومي لكلتا الدولتين، وقد تمخض هذا الميثاق عن إنشاء العديد من المؤسسات والأجهزة السياسية والفنية من بينها مجلس أعلى للتكامل برئاسة رئيسي الدولتين، وبرلمان وادي النيل، والأمانة العام للتكامل، واللجان الفنية المشتركة، وصندوق التكامل إضافة إلى العديد من اللجان الفرعية الأخرى، لكن كل هذه اللجان لم تقدم في خطواتها العملية ما يرضي طموح الشعبين . أزمة على الحدود على مدى سنوات طويلة ظلت مشكلة مثلث حلايب والشلاتين تمثل واحدة من أبرز نقاط التوتر في العلاقات المصرية السودانية، وبحسب مراقبين فقد لعبت أطراف عدة دوراً كبيراً في تفجير هذا التوتر على فترات، ربما كان آخرها تلقي القاهرة قبل سنوات مقترحاً سودانياً يطلب ضم منطقة حلايب للتعداد السكاني في السودان بهدف دعم الكتلة الانتخابية للرئيس عمر البشير، وقد أبدت مصر تحفظات كبيرة على هذا الطلب، ليس فقط بسبب عدم رغبتها في الدخول كطرف في اللعبة الانتخابية داخل السودان، وإنما أيضا بسبب خطورة فتح مثل هذا الملف من جديد، خاصة بعدما اتفقت القاهرةوالخرطوم في وقت سابق على أن تظل تلك المنطقة نقطة للتكامل بين البلدين، بأكثر منها نقطة للتوتر والخلاف . وينتمي سكان منطقة مثلث حلايب إلى قبائل البشاريين التي تتمدد في عمق الحدود المصرية السودانية، لذا لم يكن غريباً أن يقول السودان إن عدداً كبيراً منهم يحملون الجنسية السودانية، فيما يحمل العدد الآخر الجنسية المصرية، وقد دفعت التوترات المتلاحقة في هذا الملف الخرطوم إلى التقدم في مطلع العام الماضي بطلب رسمي للقاهرة، من أجل اللجوء للتحكيم الدولي في القضية لكن القاهرة لم ترد، وهو ما دفع الرئيس البشير إلى الإعلان في غير مناسبة أن منطقة حلايب “سودانية وستظل سودانية" . وترجع جذور الخلاف في الحدود المرسمة بين مصر والسودان، إلى اتفاقية الاحتلال البريطاني الموقعة في عام 1899 والتي ضمت المناطق من خط عرض 22 شمالاً لمصر، وهو ما يعني أن مثلث حلايب يقع داخل الحدود المصرية، لكن المملكة المتحدة رأت في عام 1902 أن تضم مثلث حلايب للإدارة السودانية، باعتبارها أقرب إلى الخرطوم منها إلى القاهرة . وتفجر النزاع على منطقة حلايب بين القاهرةوالخرطوم في عام 1992 عندما اعترضت مصر على منح الحكومة السودانية شركة كندية حقوق التنقيب عن البترول في المياه المقابلة للمثلث، وقد تسبب ذلك النزاع في انسحاب الشركة إلى حين الفصل في النزاع على المنطقة التي شهد ملفها نقاشات واسعة من الجانبين انتهى في نهايات عام 2000 عندما قام السودان بسحب قواته من حلايب . في عام 2004 أعلنت الحكومة السودانية أنها لم تتخل عن إدارة المنطقة المتنازع عليها، وأنها لم تهجرها أو تسلمها للمصريين، وقالت إنها سوف تتقدم بمذكرة إلى الأممالمتحدة لجهة سحب مصر لقواتها الموجودة في المنطقة التي لا تزال حتى اليوم تحت السيادة المصرية . صفحة جديدة للعلاقات على مدى السنوات الأخيرة من عمر العلاقات المصرية - السودانية ظلت حكومة السودان تتعامل مع النظام المصري السابق باعتباره يمثل “شوكة في خاصرة السودان"، ويقول الدكتور هاني رسلان الخبير في مركز الدراسات الاستراتيجية ب “الأهرام" إن قادة حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان، كانوا ينظرون إلى النظام السابق باعتباره المنفذ الأول للسياسة الأمريكية - “الإسرائيلية" في المنطقة، ويروجون لقصص وهمية حول رفض مصر زراعة القمح في السودان خوفاً من أمريكا . ويرى رسلان أن قادة نظام الإنقاذ السوداني حين قاموا بتعديل سياساتهم تجاه مصر، بدءاً من عام 2000 لم يكونوا مدفوعين في ذلك بإدراك أو قناعة بأهمية العلاقات مع مصر، وإنما كانوا يسعون إلى توسيع مجال حركتهم الإقليمية، من أجل البقاء لأطول فترة في الحكم، ومن ثم فإنهم حسبما يرى الخبير البارز في الشؤون السودانية “ربما يطالبون بإعادة بناء العلاقات من الصفر مرة أخرى، بناء على قراءة مغلوطة للواقع المصري بعد الثورة تستند إلى أن التيار الإسلامي بفصائله المتعددة، سوف يمثل مكوناً رئيسياً في النظام السياسي القادم، وأن هذا سوف يوفر لهم مساندة غير مسبوقة تجاه خصوماتهم الداخلية والخارجية، باعتبار أن نظام الإنقاذ مازال يعتبر نفسه نظاماً إسلامياً . الحقيقة انه وبعيداً عما تذهب إليه العديد من النظريات السياسية، فإن كثيراً من المصريين والسودانيين يعولون كثيراً على المرحلة المقبلة، في عودة العلاقات الدافئة بين القاهرةوالخرطوم، وهنا وحسبما يرى كثيرون فإن تفعيل اتفاقية “الحريات الأربع" ربما يكون المدخل الحقيقي لعودة هذه العلاقات . وتعد تلك الاتفاقية واحدة من أهم الاتفاقيات المعطلة التي وقعتها القاهرةوالخرطوم في أغسطس/آب من عام ،2004 وتنص على “حرية التنقل والإقامة والعمل والتملك" في البلدين، الأمر الذي من شأنه أن يحدث نقلة نوعية هائلة في العلاقات حالة تطبيقها، سواء على مستوى التكامل الاقتصادي، أو زيادة التلاحم الشعبي بين البلدين، وقد بدا الاتفاق على تفعيل هذه الاتفاقية واضحا من الطرفين، سواء من قبل الرئيس السوداني عمر البشير الذي أعرب عن تفاؤله بمستقبل العلاقات بين مصر وبلاده، ودعا في أثناء لقاء جمعه ووفد الدبلوماسية الشعبية المصري قبل أسبوعين إلى تفعيل هذه الاتفاقية باعتبارها “مفتاح بناء العلاقة الجديدة بين البلدين"، كما دعا إلى إزالة العوائق أمام تنقل المواطنين براً وبحراً وجواً لبناء جسور التواصل بينهم “لأن ذلك هو الوضع الطبيعي" . وفي لقائه مع وفد الدبلوماسية الشعبية المصري قال البشير إن السلطات في السودان وسلطة الثورة في مصر، سوف تعملان بكل قوة على إزالة العوائق، “فالسودان يحتاج إلى مصر بإمكاناتها البشرية وقدرتها المالية والفنية، ومصر بحاجة إلى السودان بإمكاناتها الطبيعية التي يمكن من خلال هذا التكامل أن تتحول إلى سلة غذاء للعالم كله، بما يعنيه ذلك من توفير الأمن الغذائي لمصر" . خطوات على الطريق عملياً، وعلى أرض الواقع يمكن القول إن العلاقات المصرية السودانية تسير في الاتجاه الصحيح، فهناك حالة من التوافق تبدو واضحة في الرؤى المشتركة بين البلدين في ما يتعلق بالعديد من القضايا الإقليمية، خاصة الوضع الصومالي والفلسطيني وربما الإيراني، وهي ملفات كانت محل اختلاف بين البلدين على عهد النظام المصري السابق، كما أن هناك ما يشبه الاتفاق بين الطرفين على الموقف من حكومة الجنوب الوليدة، وعلى العمل باتجاه التعامل مع هذه الدولة الحديثة في الجنوب باعتبارها جزءا من منظومة التوافق الإقليمي، بل مساعدة الجنوبيين على تأسيس دولتهم . الأهم من ذلك هو ما أعلن عنه وزير الزراعة واستصلاح الأراضي المصري قبل أيام، ليؤكد أن الجانبين سيقومان خلال فترة وجيزة للغاية توقيع الاتفاق النهائي لتخصيص مساحة 25 .1 مليون فدان في ولاية النيل الأبيض ومنطقة دمازين لزراعتها بخبرات وعمالة واستثمارات مصرية، وذلك عبر إنشاء شركات مساهمة لفصل ملكية الأرض عن إدارتها . تلك الأرض التي سوف يساهم فيها شباب الخريجين المصريين بالحصول على أسهم تعادل 5 أفدنة لكل خريج منهم، من المقرر لها أن توفر فرص عمل لأكثر 200 ألف شاب على الأقل، وربما تكون تلك الاتفاقية البداية على الطريق الصحيح . المصدر: الخليج 12/6/2011
