لم يكن شعار “دخلنا إلى أفغانستان معاً ويجب أن نخرج معاً" الذي طرحته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عشية قمة الحلف الأطلسي في شيكاغو، عاصماً للرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الذي أصرّ على سحب قواته المقاتلة من هذا البلد خلال العام الجاري وإن كان تصريح المستشارة الألمانية يعكس تصميم الأغلبية الساحقة من الدول الأعضاء على مواصلة الحرب الأفغانية حتى الأجل المعلن لها أي نهاية العام 2014 . ومع أن فرنسا ليست الدولة الأطلسية الوحيدة التي تغادر أفغانستان منفردة، إذ سبقتها هولندا وكندا، فإن الانسحاب الفرنسي يوحي جزئياً على الأقل بإخفاق الأطلسي في القضاء على حركة طالبان التي عادت بقوة إلى المسرح الأفغاني، وكان من المفترض أن تهزمها الحملة الأطلسية الأطول والأهم في غرة الألفية الثالثة . ولعل الانسحاب الفرنسي يتناسب أيضاً مع جملة من المؤشرات إلى إخفاق هذه الحملة، من بينها أن الحكومة الأفغانية برئاسة حميد قرضاي رددت في أكثر من مناسبة نيتها التفاوض مع الجناح المعتدل في حركة طالبان من دون أن نعرف ما هي ملامح هذا التيار ومن هو رمزه أو رموزه في هذه الحركة . ومن المؤشرات أيضاً، أن تصريحات صدرت في مناسبات مختلفة ومن أكثر من عاصمة أطلسية مفادها أن الحل في أفغانستان لن يكون عسكرياً، ما يعني أن الحرب التي شنّها الحلف صارت بلا مهمة وأن التفاوض مع طالبان لا يستدعي حشداً ما عاد يخيف الحركة، بل الدول التي ينتمي إليها هذا الحشد . ومن بينها أيضاً وأيضاً علو النبرة الباكستانية ضد الأطلسي الذي لم يتردد في قتل عسكريين باكستانيين في وزيرستان خلال قصف جوي بتهمة إيواء أو التغاضي عن المجموعات السلفية المسلحة، الأمر الذي أدى إلى إقفال خطوط الإمداد الباكستانية للقوات الأطلسية في أفغانستان، علماً أن “إسلام أباد" ما كانت يوماً مطمئنة ومرحبة بالحملة الأطلسية التي استهدفت وتستهدف مجموعة الباشتون الإتنية القوية في أفغانستان والتي تمثلها حركة طالبان . و"الباشتون" هم من الإتنيات الأفغانية والباكستانية الشديدة البأس والمنتشرة على طرفي الحدود، ويملك أفرادها نفوذاً كبيراً في الجيش الباكستاني، في حين كانوا على الدوام محور السلطة المركزية في أفغانستان، ما يعني أن الجيش الباكستاني وبخاصة المخابرات الباكستانية التي كان الأطلسي يعّول عليها في قهر طالبان الباشتونية، كانت تلعب بهذا القدر أو ذاك لعبة مزدوجة، وجهها الأول يقضي بالتعاون مع الحلف الأطلسي لضرورات دولية وإقليمية وبالتالي توفير خطوط إمداده اللوجستية، ووجهها الثاني يستدعي حماية طالبان وغض الطرف عن خطوط انسحابها وإمدادها بالمقاتلين والمعدات القتالية المهربة . تبقى الإشارة إلى عوامل أخرى كثيرة من بينها أن الأزمة الاقتصادية التي تضرب بلدان القارة الأوروبية والتي تهدد اليورو نفسه بالزوال، ما عادت تسمح بتغطية كلفة حرب مستمرة ولا شيء يوحي بكسبها في مدى زمني منظور . ولعل هذا الاستنتاج ليس قاصراً على الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي فاز في الرئاسيات الأخيرة، فالرئيس السابق نيكولا ساركوزي كان قد وعد ناخبيه بسحب القوات الفرنسية من أفغانستان قبل نهاية العام 2013 أي بفارق شهور معدودة عن منافسه فرنسوا هولاند . من جهة ثانية لابد من لفت الانتباه إلى الأسباب الداخلية الفرنسية التي أملت هذا الانسحاب، ومنها أن باريس في عهد ساركوزي سعت إلى الفوز برضى الأمريكيين بعد تمردها على إرادتهم أثناء حرب العراق، ولكي تفوز بالرضى بادرت إلى التمركز في مناطق أفغانية خطرة كانت القوات الأمريكية قد انسحبت منها، وقد أدى هذا التمركز إلى خسائر مادية وبشرية كبيرة وسط أجواء شعبية فرنسية مناهضة للحرب الأفغانية التي طالت أكثر مما ينبغي، ورأي عام لا يدرك تماماً السبب الذي يحمل بلاده على مواصلة الحرب في أرض يرى الجميع أن التفاوض هو الطريق الوحيد وليس الحرب للخروج منه . في قمة شيكاغو الأطلسية ربما تمكن المشاركون من تغطية الانسحاب الفرنسي من أفغانستان بإعلان تضامنهم وإصرارهم على البقاء في هذا البلد حتى تتمكن حكومته من تحقيق المصالحة الوطنية في نهاية العام ،2014 وعبر تفهم قرار هولاند المبني على تعهد أخذه على نفسه أمام مواطنيه خلال الحملة الانتخابية، وبالتالي لا يمكنه التنكر له . بيد أن التغطية غير المباشرة ربما انطوت في ثنايا الاستنتاج الذي لاح في ختام القمة من أن الأطلسي بات مهتماً باستقرار أفغانستان، وبعدم عودة طالبان إلى تولي شؤون هذا البلد، وهذا الهدف يبدو بعيداً بمسافات طويلة عن أهداف جورج بوش الشهيرة لحرب عام 2001 بجعل أفغانستان البلد الأكثر ازدهاراً وديمقراطية في محيطه . أما كيف يمكن للأطلسي أن يضمن استقرار أفغانستان بعد خروجه منها، فقد أجاب عن السؤال الأمين العام للحلف بقوله إنه سيوفر للجيش الأفغاني أكثر من أربعة مليارات دولار سنوياً لتغطية نفقاته، وإن الولاياتالمتحدة ستتعهد بدفع أكثر من نصفها، على أن يتولى أعضاء الحلف النصف الباقي، ما يعني أن الحرب الأفغانية ستستمر بقوى أفغانية وبوسائل وتجهيزات ورواتب أطلسية، وفي هذه الحال تكون فرنسا قد خرجت من أفغانستان قبل غيرها دون أن تخرج من الحرب الأفغانية التي ستستمر بوسائل أطلسية أخرى . المصدر: الخليج 23/5/2012م