هل توقفت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما عن العمل لزعامة العالم؟ وكيف تنظر إلى حماية مصالحها الحيوية في أرجاء الكوكب؟ وما الذي ميز مصطلح «دبلوماسية القوة الذكية» الذي صاغته وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون عن «نظرية الفوضى الخلاقة» التي صاغتها سابقتها كونداليزا رايس؟ وهل تحاول واشنطن تعويض إخفاقاتها في المنطقة بإعادة ترتيب الأوضاع في أميركا اللاتينية؟ وما مسؤوليتها عن الهزات التي حدثت في عدد من دول القارة الجنوبية المشاكسة؟ إخفاق سياسة الانقلابات دعمت الإدارات الأميركية المتعاقبة عبر وكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) ومكتب التحقيقات الفيدرالي والسفارات والشركات فوق القومية السلطات العسكرية التي حكمت مباشرة أو عبر دعم واجهة يمينية في معظم دول أميركا الجنوبية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، ومثال انقلاب بينوشيه العسكري في تشيلي كشف تورط الاستخبارات الأميركية في تدريب فرق لقتل القادة النقابيين ونواب الحركات اليسارية وزعزعة الاستقرار ودعم مرشحي اليمين والمؤسسة العسكرية بالمال خلال الحملات الانتخابية.. ولم يقف الأمر عند منع وصول ممثلي الحركات اليسارية والعمالية إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، بل تعداه إلى تحركات محمومة لإبعادهم سريعاً عن الحكم كما جرى مع الحركة الساندينية اليسارية في نيكاراغوا، أو بتحريض كبار الضباط الذين تدربوا في الولاياتالمتحدة على القيام بانقلاب ضد الرئيس المنتخب ودعم حركات الاحتجاج المعارضة لإجراءاته المتجهة إلى حفز التنمية وتقليص الفقر، وتقليص الدين أو الاعتماد على مساعدات واشنطن، ويبدو ذلك واضحاً في فنزويلا والباراغواي والاكوادور، إذ لم تتوقف محاولات الادارة الأميركية للضغط على الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، وإثارة المشكلات ضد اجراءاته الاقتصادية وانتقاد مواقفه السياسية المناصرة لوحدة شعوب القارة ودولها، ولحقوق الشعوب المظلومة، والمنتقدة لتدخلات واشنطن في الشؤون الداخلية لفنزويلا وتوتيرها للأوضاع على الحدود مع حكومة كولومبيا المجاورة الموالية لسياسات البيت الأبيض، والتي سمحت للإدارة الأميركية باستئجار سبع قواعد عسكرية على الأراضي الكولومبية، في خطوة أزعجت فنزويلا وأثارت استياء دول القارة، ولم تتوقف محاولات واشنطن لإزاحة رئيس الباراغواي فرناندو لوغو الذي فاز بأغلبية أصوات الفقراء في بلاده وأزاح حزب كولورادو اليميني بعد أن حكم البلاد منذ عام 1947 ونفذ الاملاءات الأميركية. أبعاد هزة الاكوادور نظرت واشنطن بعين القلق إلى صعود الاقتصاد البرازيلي والى برنامج التسريع لنمو الاقتصاد الذي أطلقه الرئيس اليساري لولا داسيلفا، وأدارته مستشارته ديلما روسيف المرشحة لخلافته في الانتخابات الرئاسية التي جرت مؤخراً وتقدمت فيها على منافسيها، وينتظر فوزها في الجولة الثانية.. وأبدى السفراء الأميركيون في دول أميركا اللاتينية قلقهم من التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تتخذها الحكومات اليسارية الفائزة بالانتخابات في باراغواي وبوليفيا والاكوادور، والى تعاظم التنسيق والتعاون ضمن اتحاد دول أميركا اللاتينية، فحاولت إعادة القارة إلى شبح الهزات والانقلابات، ورأت في إطاحة رئيس هندوراس المنتخب مانويل زيلايا مقدمة مشجعة لتنفيذ محاولات مماثلة في دول أخرى. ورأى المحللون ان هزة الاكوادور لم تكن «رد فعل» احتجاجياً على قانون التقشف الذي اطلقه الرئيس رافائيل كوريا بل سبقتها مقدمات كثيرة قبل وصول كوريا إلى الرئاسة، إذ سمحت العلاقات الوطيدة الاستخبارية بين واشنطن وكيتو بمراقبة القادة السياسيين والصحفيين المناهضين لسياسات الولاياتالمتحدة في الاكوادور، وكانت أجهزة الاستخبارات في الاكوادور تخفي المعلومات عن حكومة بلادها وتنقلها إلى الاستخبارات الأميركية، ولم يتكشف ذلك إلا بعد تأزم العلاقة بين الاكوادور وكولومبيا، إذ قصفت الأخيرة مواقع قوات «فارك» الكولومبية داخل الاكوادور فتوتر الوضع بين البلدين. وبمجيء كوريا إلى الحكم عام 2007، واستعادة زمام المبادرة في مؤسسات الدولة ومنع الشرطة من تلقي أموال من السفارة الأميركية أو إقامة علاقات غير رسمية معها وإغلاق القاعدة العسكرية الأميركية في مانتي، والاصلاحات التي اتبعها الرئيس وحكومته اليسارية أبدت واشنطن قلقها، ودفعت عملاءها والضباط الموالين لها إلى عرقلة إصلاحات كوريا، كما دفعت سفيرتها في الاكوادور منذ آب عام 2008 هيثر هودجز إلى إضعاف موقف كوريا، وكانت قد عملت في عدة دول مثل غواتيمالا ومولدوفا فقامت بضخ أربعين مليون دولار لتمويل حملة منافس كوريا الكولونيل لوشير غوتيريز الذي غادر مقعد الرئاسة هارباً خارج البلاد على غرار رئيس البيرو فوجيموري، ثم صدر عفو عنه وعاد عام 2009 لينافس كوريا في الانتخابات الرئاسية. ورأى المحلل الروسي نيل نيكاندروف أن مخطط الانقلاب ضد كوريا قد وضعته الاستخبارات المركزية الأميركية بالتنسيق مع غوتيريز وعدد من ضباط الشرطة والجيش الموالين لواشنطن من أجل خلع كوريا، واستغلال استياء السكان الأصليين لكن رفض هؤلاء المشاركة في الخطة والتأييد الشعبي للرئيس كوريا، وسرعة تحرك دول أميركا اللاتينية والتعبير عن دعمها لكوريا ومطالبتها بمحاسبة المتورطين بالانقلاب أسهم في إحباط الخطة، ووصل وزراء خارجية اتحاد دول أميركا اللاتينية إلى كيتو للتعبير عن دعم بلدانهم للرئيس المنتخب وقال الرئيس البرازيلي داسيلفا بعد إحباط المحاولة الانقلابية: إن الديمقراطية لم تعد في خطر في أميركا اللاتينية. وعبر الاتحاد الأوروبي على لسان رئيسه هرمان فان رومبوي عن الارتياح لعودة الوضع إلى طبيعته في الأكوادور، وأكد تأييده للرئيس كوريا، وأمام هذه التطورات اضطرت وزيرة الخارجية الأميركية إلى «إظهار» التضامن مع كوريا ولكنها لم توجه أي انتقاد للانقلابيين. الاستقواء وازدواجية المعايير زادت الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عقدين من حروبها وتدخلاتها العسكرية في شؤون الدول المعارضة لسياسات هيمنتها على العالم، وبانتهاء الحرب الباردة واختلال ميزان القوى في العالم، أطلق ممثلو المجمع الصناعي العسكري الأميركي العنان لخططهم بتزعم العالم، وفرض وقائع جيوسياسية على الأرض وشروط اقتصادية ملائمة لمصالحهم. وما الحرب على العراق ويوغوسلافيا في العقد الماضي سوى مقدمتين للحروب المباشرة في أفغانستان والعراق أو غير المباشرة في مناطق عديدة. وجرى توسيع القواعد العسكرية الأميركية في القارات جميعها واتسعت تجارة السلاح وأدخل العالم في دوامة جديدة بذريعة «مكافحة الإرهاب» وافتعلت أزمة اقتصادية ومالية سببتها آليات احتيالية للمصارف الأميركية جرّت على الدول ذات الاقتصادات الصاعدة والدول النامية خسارات كبيرة. وأعاقت واشنطن كل محاولات إعادة التوازن للعلاقات الدولية وإصلاح النظام الاقتصادي العالمي وتفعيل دور الأممالمتحدة وتمثيل قارتي أميركا اللاتينية وإفريقيا في العضوية الدائمة لمجلس الأمن وتصدت بصلب لمحاولات تغيير نظام الأحادية القطبية والانتقال إلى نظام عالمي قائم على تعددية الأقطاب. واعتمدت واشنطن على الاستقواء والتهديد والعزل والحصار للجم التطورات في أميركا اللاتينية التي تخدم استقلال دولها ومصالح شعوبها وتقوية الاتحاد القاري فيها، فشددت الحصار على كوبا المستمر منذ نصف قرن وهددت فنزويلا وسلحت كولومبيا، ودعمت احتجاجات معارضة للتحولات الاجتماعية في عدد من دول القارة، وغطت أعمالها غير المشروعة بحسب المواثيق الدولية بخطاب سياسي يدعي الدفاع عن «حقوق الإنسان» و«الاستقرار الإقليمي» و«توفير الأمن والرفاه» في مناطق التدخل وقد رأى العالم النتائج الكارثية التي جرت في العراق وأفغانستان والصومال وباكستان وجورجيا والشرق الأوسط. فسياسة الاستقواء والمعايير المزدوجة التي تعتمدها واشنطن في التعامل مع ساحة ظلت تعدها لعقود «حديقتها الخلفية» ومجالاً حيوياً لشركاتها العملاقة أصبحتا عملتين زائفتين لا تنفعان في التعامل مع قارة ناهضة تريد شعوبها ودولها أن تحمي سيادتها وتعيش بسلام بعيداً عن «مساعدات» واشنطن وتدخلاتها وهيمنتها، وحصاراتها واملاءاتها التي ألقت بظلالها الثقيلة على القارة، وأعاقت توجهاتها لبناء شراكات متكافئة مع الاتحاد الأوروبي وإفريقيا والدول العربية وروسيا والصين وإيران والمكسيك والهند. المصدر: تشرين السورية 24/10/2010