وزير الخارجية الأمريكي في اتصال هاتفي مع البرهان يبحث الحاجة الملحة لإنهاء الصراع في السودان    الخارجية المصرية: "في إطار احترام مبادئ سيادة السودان" تنظيم مؤتمر يضم كافة القوى السياسية المدنية بحضور الشركاء الإقليميين والدوليين المعنيين    عائشة الماجدي: الموت إكلينيكياً (مؤتمر تقدم)    الصين: دعمنا للسودان لن يتغير مهما كانت الظروف    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي وفد المقاومة الشعبية بولاية سنار    الموساد هدد المدعية السابقة للجنائية الدولية لتتخلى عن التحقيق في جرائم حرب    المريخ يواصل تحضيراته بالاسماعيلية يتدرب بجزيرة الفرسان    اكتمال الاستعدادت لامتحان الشهادة الابتدائية باسوان    مازدا يكشف تفاصيل مشاركة المريخ في ملتقى المواهب بنيجيريا    الجزيرة تستغيث (3)    شاهد بالصورة والفيديو.. زواج أسطوري لشاب سوداني وحسناء مغربية وسط الأغاني السودانية والطقوس المغربية    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنانة السودانية شروق أبو الناس تحتفل بعيد ميلادها وسط أسرتها    بالصورة والفيديو.. شاهد ردة فعل سوداني حاول أكل "البيتزا" لأول مرة في حياته: (دي قراصة)    اختراع جوارديولا.. هل تستمر خدعة أنشيلوتي في نهائي الأبطال؟    شح الجنيه وليس الدولار.. أزمة جديدة تظهر في مصر    أوروبا تجري مناقشات "لأول مرة" حول فرض عقوبات على إسرائيل    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    الأهلي الحصايا يطيح بأكاديمية الشعديناب من منافسة دورة العزة والكرامة بالدامر    سيكافا على الابواب ومعسكر الهلال في غياب    دراسة "مرعبة".. طفل من كل 8 في العالم ضحية "مواد إباحية"    السعودية: وفاة الأمير سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن عبدالعزيز آل سعود بن فيصل آل سعود    والي ولاية البحر الأحمر يشهد حملة النظافة الكبرى لسوق مدينة بورتسودان بمشاركة القوات المشتركة    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يترأس اجتماع هيئة قيادة شرطة الولاية    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    "آبل" تعيد بيع هواتف قديمة في "خطوة نادرة"    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    سامية علي تكتب: اللاجئون بين المسؤولية المجتمعية والتحديات الدولية    بيومي فؤاد يخسر الرهان    نزار العقيلي: (العطا طااااار ومعطا)    تراجع مريع للجنيه والدولار يسجل (1840) جنيهاً    "امسكوا الخشب".. أحمد موسى: مصطفى شوبير يتفوق على والده    الأهلي بطل إفريقيا.. النجمة 12 على حساب الترجي    نجل نتانياهو ينشر فيديو تهديد بانقلاب عسكري    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    بالنسبة ل (الفتى المدهش) جعفر فالأمر يختلف لانه ما زال يتلمس خطواته في درب العمالة    الإعلان عن تطورات مهمة بين السودان وإريتريا    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    من هو الأعمى؟!    زيادة سقف بنكك والتطبيقات لمبلغ 15 مليون جنيه في اليوم و3 مليون للمعاملة الواحدة    اليوم العالمي للشاي.. فوائد صحية وتراث ثقافي    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    إخضاع الملك سلمان ل"برنامج علاجي"    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التقوي والتقنية (1)


بقلم الأستاذ عبد الجليل النذير الكاروري
نحن مدينون لعالم التقانة بالكثير بل هذه الوسائط التي أخاطبكم بها من صنعة .. قلمي ومحبرتي ونظارتك ومصباحك. فكيف نسدد هذا الدين؟ أم أنه كتب علينا أن يكتب الدين له علينا أبدأ ، إنه يحب ذلك ليصفنا بالعالم الفقير . حسن علينا أن ننظر إليه بأي شئ هو فقير فنحاول أن نسدد خلته ونسدد دينه أننا مسلمين ...
الموارد والمعالجة
لعالم التقنية نقول: نعم أنك الجزء من العالم الأكثر ازدهارا ولكن لماذا أنت في الوقت نفسه الأكثر انتحاراً ؟ لماذا تشقي نفسك بما جمعت فتحكم علي الجسد بالفناء؟ وأنت أنت الذي عالجت أسباب الموت من الأمراض العضوية، أنت الذي كان يوظف سلاح الأدوية طلباً للعافية ألم تفاجأ في المنعطف بسقوط جيش الدفاع لدي الأجسام؟ بلي أنه الإيدز طاعون العصر أليس هو من أمراض الفقر .. الفقر للأخلاق ؟؟؟ أو ليس هو نتاج نسبية الأخلاق وعدم إعمال قوانينها؟
ولعالم التقوى نقول: أن منهج الزهد الذي ساد الشرق في القرون الأخيرة قد أفضي بنا إلي الافتقار لغير الله بل الافتقار إلي الكفار ، لقد توهمنا أن الفقر إلي الله يعني نفض الأيدي من الأسباب والأشياء ، حتى إذا افتقرنا إليها اضطرارا وجدناها عند عدونا فقلنا لا بأس قد سخره الله لنا، بينما جعل تحت أيدينا الموارد للاستمتاع. أو هكذا طمأن أهل الخليج أنفسهم مقسمين العالم بين موارد ومصانع فكانت العاقبة هي احتراق الخليج وارتهان أمنه للمستعمر مرة أخري بعد سنوات الاستقلال منه والاستغلال للثروة. أما أهل الموارد الأقل شأناً زراعية ومائية فإنهم لم يستطيعوا توظيفها إلا باستعارة التقانة الأوربية ومعها الخبراء ورأس المال فكان استعمار التنمية للجزء الأكثر فقراً من العالم وبعد الاستقلال !
إذن فقد ثبت أن عالم الموارد والمساجد فقير إلي التقانة والمعالجة، كما أن عالم المصانع والفائض فقير للتقوى والانضباط . ولا سبيل للجمع بينهما إلا بإعمال كل القوانين أو كلا القانونين ، قانون الأشياء وقانون الإنسان ولا سبيل لذلك إلا بإقناع التقنيين إن للإنسان قانوناً لا يقل عن التقانة صرامة ، واقتناع أهل التقوى بأنهم أهل الجمع لا الفرق – الجمع بين حكمة الإنسان وحكمة الأشياء أو حكمة لقمان وحكمة داؤود.
ننظر في أصل القانونين : الطبيعة والإنسان ، هل هما في موافقة أم مفارقة ؟ ثم وإذا كانا في مقابلة ما هي أوجه الافتراق وإذا كانا غير ذلك فما هي أوجه الاتفاق ؟
من حيث المفارقة نجد أن التقنية مجالها الطبيعة بينما التقوى مجالها الإنسان ، التقوى متعلقة بالسلوك البشري والتقانة متعلقة بسلوك الظواهر والأشياء .
كذلك من حيث المفارقة نجد أن التقانة هي إعمال القانون الاضطراري ( ثم أستوي إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ) بينما التقوى هي إعمال قانون الطواعية ( وحملنا الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ) .
التقانة أصلها العلم الكسبي بالدراسة والكتب ، بينما التقوى أصلها بالعلم الغيبي الوحي والكتب .كذلك من المقابلة أن نتاج إهمال التقانة هو التخلف ( حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولا ) بينما ينتج من إهمال التقوى الفساد ( وإذا تولي سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له أتق الله أخذته العزة بالإثم ) .
أما نقاط الموافقة فيكفي أن كليهما يشكل قانوناً يقوم علي الفعل والجزاء والشرط والوفاء فقط يختلف الزمن زمن التربص والنتيجة، ففي التقنية فوري والتقوى متمهل . ثم ومن عجب إن كلا القانونين غايته الضبط فالماكينة المضبوطة مثلاً هي التي تجمع بين غاية السكون مع غاية الحركة .. غاية السكون في الأجزاء الساكنة وهو ما يعرف بالإستاتيكا في الهندسة العلم الذي يحظر الحركة غير النافعة وغاية الحركة في الشغل النافع وهو ما يعرف في الهندسة بالديناميكا. وفي ضبط سلوك الإنسان عبر عن ذلك التقويون قائلين قائلين ( ألا يجدك حيث نهاك ولا يفتقدك حيث أمرك ) يعني بالضبط : غاية السكون عند الممنوعات وغاية الحركة عند المأمورات . والعجيب أن المردود أو الناتج يحسب في كلا الجهازين الآلي والبشري يحسب منسوباً لطرفي المعادلة ، الثبات والحركة أو الإعطاء والتقوى ( فأما من أعطي وأتقى وصدق بالحسنى فسنسيره لليسرى ) .وهكذا قد يسبب ضعف المردود من الموتور انحلال صواميل الربط مثلاً تلك التي تثبته مع قاعدته " الشاسية "، كما قد يكون سبب الضعف إهتراء المحامل الكروية "البلي" تلك التي تزيد العجلة ، كذلك قد يكون ضعف مردود العابد من غشيانه لبعض المحارم أو كسله عن بعض المناشط ، نعم فإذا كانت التقانة تضبطها القياسات والمواصفات فإن التقوى تضبطها الرعاية والمحاسبة . أو هكذا عبر الحارث المحاسبي.
ثم ومن عجب اتفاق الاثنين التقوى والتقانة في مبني الكلمة سواء أكانت مادة التقانة ذات أصل عربي من التقِن وهو الحذِق أو من الاسم تقِن لعربي كان حاذقاً ، أو أنها ترجع إلى الأصل اليوناني تكنك ، أي الأمرين كان فإن ما أستقر عليه الأمر من مشاركة لفظية يشكل معبراً توافقياً وفألاً بدمج المعاني كالمباني والمنطق بعد النطق.
ننظر في تاريخ الإنسان هل بدأ نشاطه مفارقاً أم موافقاً بمعني هل كان الإنسان في الأصل تقياً أم تقنياً ؟ وأي القانونين عرف أولاً وبأيهما كان هو أسعد أن أنه سعد بالجمع بينهما ؟
إذا وافقنا صاحب "أصل الأنواع " بأن آدم هو آدم كما تقول بذلك أصول الأديان ، وكما أثبتت الجينات والكروموسومات حديثاً ، فإن لهذا الإنسان الأول قصة مع التقوى والتقانة بدأت في المنشأ ثم نزل بها للأرض . وإذا نظرنا منذ أن كان الإنسان مشروعاً لعمران الأرض إذ نهي الله آدم وزوجه من الأكل من الشجرة ( فلما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلك الشجرة وأقل لكما أن الشيطان لكما عدوٌ مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكو نن من الخاسرين ) .إن هذه الآيات لتحكي البدايات الموافقة للتقوى والتقانة ، وتبين لنا تاريخ النشاط البشري المتمثل في المعالجة المناسبة للموارد المتاحة لتحقيق المنفعة ، إذن فإن أول عمل مارسه إنسان بعد تحمل أمانة الاختيار وحرية التكليف هو محاولة ستر مواطن الضعف فيه بصناعة الغزل والنسج ( فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ).
فقط يبادر السؤال : هل كانت المحاولة الأولي لصناعة الملابس من أجل الجسد أم من أجل النفس ؟ من أجل الحياء أم من أجل الحياة ؟ إنهما كانا لا يزالان حيث لا يدركهما شئ من ضرورات الجسد (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحي ) . نعم كان مكفياً الهموم البشرية الأربعة التي ما تزال تحرك الاقتصاد وتستفز الاجتماع . إنها هي هي الطعام ، الشراب ، اللباس ، والمأوي ، إن الطفل قد لا يهتم بالستر ولا بالحر فيجري هكذا عرياً وهكذا كان أبوه آدم قبل الخطأ وقبل النزول .. فلما نزل ، نزل مزوداً بالوسائل التي تضمن له الحياة والحياء ، أو الأخلاق والأرزاق ، إذن فالتقانة في التاريخ مرتبطة بالتقوى ، وهكذا لما نزل الدين بعد علي آدم وبنيه نزل بالتقوى والتقانة ، فإذا كانت الصلاة شرط التقوى فإن ستر العورة هو شرط الصلاة . ولا يكون ستر بغير تقانة الغزل والنسيج ، كما أن الجسم نفسه مطلوب حفظه ضمن الكليات الخمس التي يقوم عليها قانون التقوى الشرعي ونستطيع أن نتوسع في ذلك حتى يشمل كل الحلال والحرام الذي هو القانون الشرعي الذي يحكم النشاط البشري في معالجة الطبيعة ومعاملة الإنسان . إن التكليف ب (فأمشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ) مضبوط بالتكليف ( كلوا من الطيبات وأعملوا صالحاً إنه بما تعملون بصير ).
إن الأرض مليئة بالأحياء من غير الإنسان مزودة بوسائل البقاء من طعام ودفاع ، غير أن الإنسان نزل أعزل بلا قرون ولا منقار ولا ريش ولا صوف إلا قليلا ليمارس التكليف إنه هكذا ينادينا ربنا ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سواءتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ) إن الإشارة للسوأة هي إشارة لضرورة نفسية، أما ضرورة الحس من حر أو برد سيغطيها هذا اللبس نفسه ، أذن فالتقنية هي أخت التقوى لا عدوتها . حتى الجمال ذلك الذي نتوهم وضعه في مقابل الحق والدين مقصود تحقيقه ديناً ، وهل الريش المشار إليه في الآية الكريمة إلا لوظيفة الجمال حيث تتواري الأبعاد البشرية بهذه النقوش الصناعية فيكمل الإنسان كما الطائر جمالا وأداء ، بل يذهب الدين أبعد من ذلك لما يقرن الصلاة بالزينة آمراً ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) وما يزال إنتاج الأشياء والثياب يقوم علي مهندسين الميكانيكي الذي يصمم الآلات ومهندس التصميم الذي يفصل ويختار الألوان والنقوش .
إننا نحن المسلمين لما نسمع الحديث ( إن الله جميل يحب الجمال ) نحسبه من مبالغه الرواة بينما هو حديث صحيح سببه اللباس لا علي أعلي الجسد بل لبس الحذاء ، حيث أشتكى الصحابي للنبي بأنه يحب حتى شراك نعله أن تكون جميلة " صحابي أنيق " ويخشى أن تتعارض الأناقة مع التقوى عندها أجاب النبي بالفرقان (إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس ). فعلينا ألا ندفع الحق ولا ندفع كذلك الجمال ، بل أن قيمة الجمال لمرفوعة في القرآن تماماً كالقيمة المادية أو المنفعة ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) بل أحياناً يتكلم القرآن عن القيمة الجمالية وحدها لما يتكلم عن حدائق الزهور التي لا تعطي ثمراً غير البهجة ويستدل بهذا الجمال علي الوحدة ، وحدة الأصل ووحدة الخالق ( فأنشأنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها آإله مع الله ؟
إفتراق الجمال والحق
إن القرآن يشجع علي النشاط البشري لما تتبعض أهدافه فتضل بالتبعيض وأحياناً بالغو والتفريط ، هكذا عاب علي المتدينين لما اضربوا عن الطبيعة فقال ( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ) هكذا الغلو بسبب التفريط ، وهكذا تفريط حضارة اليوم سببه غلو أوروبا ،أولاً في الرهبانية عند سيطرة الكنيسة فكان أن تغلبت عليها الطبيعة ليسيطر الطبيعيون علي قيادة العالم من جديد " عصر النهضة " في معزل عن الدين ومجافاة له .
كذلك في الحضارات القديمة عاب القرآن علي النشاط البشري إتقانه للماديات وضلاله للأهداف ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد ارم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا البلاد الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد ) فهذا تسجيل لحضارات سادت فبلغت تقنية الأهرام وتحنيط الأموات غير أنها لما لم ترع قيمة الحق بادت، ووصف نشاطها العمراني بالفساد ( الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب ) ثم يكون التعقيب ( أن ربك لبالمرصاد ) في إشارة واضحة لحتمية القانون الأخلاقي مع القانون العمراني، فإن الأهرام لم تبن إلا بالقهر للشعب ولم يكن لبنائها هدف تنموي ، إلا الأخروي الضال المتمثل في حفظ الإنسان من العوادي والبلى – حتى لا يبلي ، بل يخلد ! إنه طلب الخلود بالمادة وهو أمر مستحيل – فالباقية هي المعاني . لما زار كيسنجر وزير خارجية أمريكا الأهرامات تعجب لهذا المشروع الضخم من غير أهداف تنموية ؟ ونحن نتعجب بدورنا من المشروعات التنموية الأمريكية لغير أهداف أخلاقية ونستظهر لتعجبنا بمقولة لشاهد من أهلها ذلكم روجيه غارودي الذي قال: يهلك الشرق بفقدانه الوسائل بينما يهلك الغرب لفقدانه للغايات ، فروجيه يري في النمو إلهاً جديداً يرفعه الغرب إلى مصاف المعبودات !
إن القران يعبر بأوضح من ذلك في نقده وتقويمه للنشاط البشري المادي إذ يقول ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون ) فعجيب هذا الوصف بين الشهادة لإتقان المعالجة لدرجة الآية في الجمال وفي الوقت نفسه فقدان الهدف المواز للوعاء – هكذا ( آية تعبثون )
نحن نقول بحتمية القوانين الأخلاقية وأنها ضرورية للنشاط البشري فكيف أمكن للبشر أن يقيموا حضارات مع إهمالهم لقانون الأخلاق ؟ وهل الحضارات المادية في أصول نشأتها لا أخلاقية ؟ وإذا شهد العالم نشوء حضارات أخلاقية فماذا كان قدر هذه الحضارات من العمران وهل كسب فيها المادة مع الأخلاق ؟ أم خسرت بالضرورة الماديات لما احتفلت بالأخلاقيات ؟
إذا استعرنا الإجابة من القرآن الكريم باعتباره شاهداً علي حضارات الأولين وضابطاً لنشاطات المعاصرين فإنه يخبرنا بإمكانية النهضة المادية علي غير القوانين الأخلاقية غير أنه يخبرنا في المقابل ببركة النهضة المادية تنشأ في كنف القوانين الأخلاقية فالعبرة في القرآن بالخواتيم نعم بالنتائج لا بالمقدمات فهو حريص علي مآل الفرد ومصير الشعوب في الدنيا والآخرة ، أخيراً أعترف علم التاريخ بهذا التقويم لما تحول من مجرد الحكاية التاريخية إلى تحليل الظاهرة الحضارية بدأ ذلك إبن خلدون في كنف المجتمع الإسلامي ونسج الأوربيون علي مقدمته من أمثال توينبي ورسل .
إن القرآن يحدثنا عن نشاط عمراني وازدهار نشأ في معزل عن الدين قائلاً : ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ ) لكن في الوقت نفسه يرصد مصير هذه الحضارة الشيئية قائلاً ( حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) بينما يحدثنا عن فتح آخر تعقبه فتوحات وبركات ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) وفي الآية الأخرى ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) هاتان الآيتان . . ألا تمثلهما تماماً حضارة الإسلام التي بلغت ديار أوروبا ثم حضارة أوروبا التي غزت ديار الإسلام ؟ ( وتلك الأيام ندولها بين الناس). هكذا بين الناس فالقوانين الأخلاقية والطبيعية لا تحابي أحداً فالذي يعمل قانون الطبيعة وحده يكسب اليوم ويخسر المستقل والذي يجمع بين قانون الطبيعة والشريعة يكسب اليوم والغد ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً ). غير أنه ينبغي أن نعترف بأن النشاط المادي المجرد له أخلاقياته تلك التي تحكم أفراد المجتمع باحترام قانون الأشياء وإلا لما استطعنا أن نستخدم أو نتعاقد علي طائرة في كنف حضارة غير أخلاقية لأن أهلها لو لم يحترموا قانون الديناميكا الهوائية لما استطاعوا اختراعها فنحن مطمئنين علي أنها تستطيع أن تسبح بنا ما دامت هي الطائرة ولا طيران بغير قانون الطيران . ولزوم هذا القانون نفسه يشكل التزاماً ، أما في الإنسانيات فإن الحضارة المادية المعاصرة هي التي استعارت من المسلمين القيم الإنسانية العامة النافعة للنشاط البشري وما المواثيق الدولية إلا من أصول خطبة الوداع النبوية غير أنهم فشلوا في رعاية هذه القوانين رغم استعارتها لأنهم قوميون في الأخلاق لا أمميون ( ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ) نعم إنهم استعاروا الأخلاق الدولية ولكن أعملوها بمعيار قومي فظلموا ويكفي في ظلمهم الاستعمار أليس غريباً أن يرتبط الاستعمار بالنهضة الصناعية ؟ أليس في ذلك دليل علي اختلال معيار الأخلاق عند الماديين ؟
في المقابل نجد المسلمين قد سادوا هم أيضاً العالم ولكنهم بقانون ( اتق الله حيث ما كنت ) ضحوا بالأرض في سبيل الشعب لأنهم كانوا يطلبون الإنسان بينما ضحي الأوربيون بالإنسان في سبيل الأرض! غير أن قانون ظهور وسقوط الحضارة لم يتخلف عن حضارة الإسلام تلك التي كانت نموذجاً بين التقوي والتقنية، سواءاً في مراكزها الشرقي بغداد أو الغربي الأندلس، إن زوالها كان بنفس قانون ظهور وسقوط الحضارة. لأنه كما يقول العالم الاجتماعي مالك بن بني إن الحضارة تنشأ من قيم أخلاقية معينة تخدم هذه القيم حتى تحكم . وهنا يوظف النشاط البشري لتكون الرفاهية وفي منحدر الرفاهية ينسي الناس الأصول فتسقط الحضارة. هذا بالضبط ما حدث للدولة العباسية في المشرق والأموية في المغرب إنها هي سنن الاجتماع لا تختلف عن شعب ولا تحابي أمة ( وإذا أردنا أن هلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) .... ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.