واصل تحضيراته في الطائف..منتخبنا يؤدي حصة تدريبية مسائية ويرتاح اليوم    عيساوي: البيضة والحجر    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    ماذا قال دكتور جبريل إبراهيم عن مشاركته في مؤتمر مجموعة بنك التنمية الإسلامي بالرياض؟    دعم القوات المسلحة عبر المقاومة الشعبية وزيادة معسكرات تدريب المستنفرين.. البرهان يلتقى والى سنار المكلف    الصليب الأحمر الدولي يعلن مقتل اثنين من سائقيه وإصابة ثلاثة من موظفيه في السودان    انجاز حققته السباحة السودانية فى البطولة الافريقية للكبار فى انغولا – صور    والي الخرطوم يصدر أمر طواريء رقم (2) بتكوين الخلية الامنية    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    شاهد بالفيديو.. في مشهد خطف القلوب.. سيارة المواصلات الشهيرة في أم درمان (مريم الشجاعة) تباشر عملها وسط زفة كبيرة واحتفالات من المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء أثيوبية تخطف قلوب جمهور مواقع التواصل بالسودان بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها مع إبنها على أنغام أغنية وردي (عمر الزهور عمر الغرام)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسراء والمعراج بين المنقول والمعقول

تفيد قصة الإسراء والمعراج أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم قد أسري به ليلا من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بفلسطين ، الذي يبعد عنه بأكثر من 1210 كيلو مترا ، في وقت قصير لا يتسع لما روي من مشاهد أثناءها . وكان هذا الإسراء بوساطة دابة من غير دواب الأرض أسمها البراق . وتفيد القصة كذلك أنه صلى الله عليه وسلم ، قد عرج به بعد ذلك إلى السموات العلا فمر بالملآ الأعلى ، ورأى مشاهد وآيات كبرى ، وكل ذلك في زمن متناه في الصغر .
لقد ورد خبر حادثة الإسراء بنص قرآني صريح ، كما يفهم من هذه الآية ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) [الإسراء : 1].
نفهم من هذا النص القرآني أن الله سبحانه تنزه بذاته عن أن يكون هو الوسيلة ، ولكن بقدرته أسرى بعبده محمد جسدا وروحا ، وأن الإسراء كان ذهابا وعودة ، وأنه حدث في وقت تسكن فيه حركة الأحياء في هذا الجزء من الدنيا ، حيث حدوثه وحين يسود الظلام ، كما يدل الفعل "أسرى" والظرف "ليلا" . في هذا الوقت تتناغم ايقاعات الكون مع خلجات النفوس البشرية ويتقارب الملأ الأعلى من الأدنى ، أي سمائنا الدنيا . وهو الوقت الذي أقسم الله به في كتابه المجيد ، كما في قوله تعالى (والليل إذا يغشى) [الليل :1] و (والليل إذا سجى) [الضحى : 2] ، إذ تتجلى في هذا الوقت عظمة خلق الله واتساع سمائه الدنيا سيما في ليلة السابع والعشرين من الشهر القمري التي يمحق فيها نور القمر فيزخر الكون بالنجوم الساطعة بضيائها .
الصلاة معراج إلى الله :
لعل في الربط بين المسجدين الحرام والأقصى مغزى عظيما في هذه الآية التي استفتحت بها سورة الإسراء ، التي تسمى أيضا سورة بني إسرائيل . فالمسجد الحرام ارتبط بإبراهيم وإبنه إسماعيل ومن بعد بذريتهما إلى محمد ، والمسجد الأقصى ذو صلة بذرية إبراهيم وإبنه إسحاق ومن بعد يعقوب " إسرائيل " وذريته من الأنبياء ومنهم موسى وعيسى عليهم جميعا صلوات الله وسلامه . وإذ بارك الله حول المسجد الأقصى كذلك ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ) [آل عمران : 96] ، هو المسجد الحرام . وهو قبلة المؤمنين في صلاتهم وحجهم ، كما كان المسجد الأقصى قبلتهم الأولى . ولا يزال المؤمنون المتوجهون في صلاتهم صوب المسجد الحرام يضرعون إلى الله ليطهر المسجد الأقصى من دنس الكفر ، حتى يتحقق وعد الله ( ... وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ) [الإسراء : 7] ، فلا تزال قضية المسجد الأقصى محور الصراع بين الحق والباطل ، حتى يلتئم شمل المسجدين تحت راية الإسلام . وتتأكد هذه الرابطة بين المسجدين من خلال الإسراء بالنبي بينهما وبشعيرة الصلاة التي أم النبي محمد فيها الأنبياء آنئذ ، إذ جعلت بمعراجه الذي تلى الاسراء فريضة على المسلمين تشد الرحال لإقامتها في هذين المسجدين ويتعبد بها في كل مسجد فهي معراج العباد إلى الله .
لقد كان الهدف بالنبي أن يريه الله من آياته ، وقد تحقق ذلك عند معراجه في السموات ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) [النجم : 18] ، وهذه الآيات الكبرى التي رآها النبي ، أنكرها عليه الناس ورموه بالضلال والغواية والهوى ، فكان رد الله تعالى عليهم ( ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى ) [النجم : 2-4] . لقد استهجن المشركون حديث النبي عن الإسراء به إلى بيت المقدس الذي تضرب له أكباد الإبل شهرين ختى يعودوا منه ، وافتتن الناس بما قصه عليهم مما رآه ( ... وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ... ) [الإسراء : 60] ، وهذا لأن عقولهم عجزت عن تصور القصة . حتى من بين أقرب الناس للنبي كان هنالك ممن لم يستيقن بحدوثها على النحو الذي سمع منه ، فأشار عليه ألا يحدث بها مخافة أن يكذبه قومه . أما أبو بكر  مع تحفظه على صحة ما نقل له عن النبي – لغرابة محتوى الخبر – كان مستيقنا بأن محمدا إنما يتحدث عن صدق لذلك قال قولته الرشيدة ردا على المنكرين " لئن كان قال ذلك لقد صدق " ، فسمي بذلك صديقا [البيهقي] .
لقد نفذ النبي ليلتئذ من أقطار السموات والأرض في زمن بالغ القصر ورأى من المشاهد ما حدث في الماضي وما سوف يحدث في المستقبل وغير ذلك مما تقصر عقولنا وحواسنا عن إدراكه .
في هذه الدراسة لسنا بصدد سرد هذه المشاهد التي رويت عن الرسول الأمين ، والتي يمكن الرجوع إليها في كتب السنة للتأكد من صحة نقلها . ولقد نقل لنا أنه حتى أصحابه صلى الله عليه وسلم لم يجمعوا على فهم واحد لحادثة الإسراء والمعراج ، لذلك اختلف العلماء من بعدهم في تكييفها . فمنهم من قال إن الإسراء كان بالروح ومنهم من قال بالروح والجسد معا ، ومنهم من جعله رؤيا منامية ، ومنهم من فرق بين الإسراء والمعراج في التوقيت ومنهم من قال بتكرارهما . واختلفوا كذلك في توقيت حدوثها في أي شهر من الشهور . وحتى هناك من أنكر ما روي من أحاديث عنها مع ثبوت هذه الأحاديث في أوثق كتب السنة ، ورموها بالإسرائيليات لما عجزت عقولهم عن بلوغ أبعادها .
ونحن هنا لا تخوض في ترجيح رواية على الأخرى أو تغليب راي على آخر أو تضعيف متن أو سند لحدبث إزاء ما نقل لنا عن حادثة الإسراء والمعراج ، ولكن نقف عند العلة التي جعلت حتى أقرب الناس من النبي الصادق الأمين يستغرب حدوثها . ولنستلهم فهمنا من موقف الصديق الذي لم يرتب في صحة ما قاله النبي – إن صح أنه قاله – حتى لو لم يقبله بعقله لأن ما يقوله النبي حق لامراء فيه .
لذا بتسليمنا أن ما روي صحيحا عن الرسول ليلة أسرى وعرج به كان خبرا تقصر عن فهمه العقول ، يجب أن ينصرف تفكيرنا إلى النظر في ما يجعل العقل قاصرا في استيعاب هذا الحدث الذي جرت مشاهدة في ملأ أعلى خارج نطاق القانون الذي يحكم الحادثات الطبيعية . هذا القانون الذي جبلت عقولنا على فهمه وكيفت حواسنا على إدراكه . ويلزم هنا أن نعي أن إدراكنا للعالم من حولنا وقف على مقدرة حواسنا على الانفعال به . فهذه الحواس إنما تزود العقل بالمعلومات وفق ترتيب محدد يجعل الأسباب تسبق النتائج ، ويجعل توقيت الحوادث مرهونا بهذا الترتيب بين "القبل" و "البعد" أو الماضي والمستقبل . ومن خلال هذه "البرمجة" نحكم على كل خبر من حيث أنه منطقي معقول أو متناقض معلول . فالحواس تتفاوت في قدراتها . وبقدر ما تكون هذه القدرات فاعلة في التعامل مع ما حولها تتسع العقول لفهمه . ومعنى ذلك أن الإنسان المكتمل الحواس يدرك العالم على الطبيعة التي يدركها كل أمثاله من البشر ، والذي تنقصه واحدة منها ، كالكفيف أو الأصم أو فاقد الإحساس بالمس أو الشم أو الذوق يدرك عالما ناقصا . فالضرير لا يميز الألوان وما يسمعه المبصرين عن دلالات ألفاظ مثل "الأخضر" أو "الأحمر" أو غيرها هو مجرد تخيل ذهني خلافا لما يراه المبصرون . ومثل ذلك الأصم يستوي عنده الدوي والضجيج مع الأنغام والأهازيج . وهذا يعني أنه كلما كانت الحواس منقوصة لدى إنسان يقتصر عالمه الطبيعي على ما يدركه بهذه الحواس ، وما خلا ذلك بالنسبة له غيب . والغيب درجات فهي غيوب لا يحيط بعلمها إلا الله علام الغيوب . ومن هذه الغيوب الغيب المطلق المعرف بالألف واللام ، الذي ينفرد الله عز وجل بعلمه ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ... ) [النمل : 65] ، فهو وحده ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول ... ) [الجن :26] . وهناك غيب نسبي يعلمه البعض ويجهله البعض الآخر ، لاختلاف المكان والزمان أو تفاوت الحواس والعقول في القدرة على الانفعال بالأحداث .
وأنبياء الله المرسلون من جنس البشر ، ولكن الله حباهم باكتمال الحواس وكمال العقل وخصهم – فوق ذلك – بخاصية النبوة ، وهذه الخصوصية تجعل للأنبياء قدرة أعظم من قدرة البشر وعلما أوسع آفاقا مما لغيرهم بفضل ما أوتوا من الوحي . وهذا ما نفهمه من قوله تعالى ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ... ) [الكهف : 110] . هذه الصفة التي خص الله بها أنبياءه جعلت للنبي محمد سلطانا نفذ به من أقطار السماوات والأرض دون سائر خلقه تعالى من الجن والإنس الذين تحداهم ربهم بقوله ( يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) [الرحمن : 33] . كان هذا النفوذ ليلة أسرى وعرج به إلى السماوات العلى . ولم يكن نفوذا في المكان والزمان على نحو ما نألف من فهم لما يحدث في عالمنا الطبيعي : هذا العالم المحدود بقدرة حواسنا القاصر بقصور عقولنا .
هذه العقول لا تستقصي أبعاد السماء الدنيا المتمثلة بهذا الكون المشهود الذي يجسد أدنى مراتب الوجود ، ناهيك عن أن تدرك ما وراءه من ملكوت الله غير المحدود . ونعني بالسماء الدنيا كل ما يزخر به الكون حول الأرض من كواكب ونجوم ومجرات وسدم . أما مراتب الوجود الأخرى الستة – كما يفهم من القرآن – ذات الطبيعة الغيبية تشكل مع هذا الكون المادي سبع سماوات طباقا ، ليست وراءه أو فوقه بمعنى الأبعاد . المكانية والزمانية بل من حيث طبيعتها التي لا يستطيع النفاذ من خلالها إلا من أوتي سلطانا خاصا مثل النبي محمد – كما أسلفنا – حين أسرى وعرج به . وفي هذا العالم الغيبي يسود ناموس الوجود الأعلى . وتنتفي قوانين الطبيعة المحكومة بمفاهيم المكان والزمان والمادة . فبهذه القوانين التي تصف سلوك الأشياء أو الأحياء يعبر عن انتقال المادة من مكان إلى آخر عبر الزمن بمفهوم الحركة والتي تقاس بمفهوم السرعة ، وهذه السرعة محدودة بقدر نهائي يساوي سرعة انتقال التأثير في الأثير (الخواء) أي سرعة الضوء في الفراغ الحر . وهذا يعني أن الأجسام المادية – وفق القانون الطبيعي – لا يمكن أن تتجاوز هذه السرعة . ولكن إذا تصورنا جسما يتحرك بسرعة أعلى من هذه السرعة النهائية فإن هذا الجسم لا يمكن التعامل معه بوساطة حواسنا أوحتى بمساعدة أجهزة تزيد قدرة هذه الحواس ، كما لا يمكن وصف سلوكه وفق القانون الطبيعي الذي توصف به حركة الأجسام المادية . وعندئذ تكون حركة أي جسم من مكان إلى آخر أو بالأحرى انتقاله من حال إلى حال آخر قابلا لأن يوصف فقط من خلال تصور ذهني تخيلي تختلف فيه الفكرة عن ما ألفت عقولنا من معايير لفوارق المكان والزمان وتتابع السبب والنتيجة . ولا يكون انتقال من مكان ما بالضرورة ابتعادا عنه ، ولذا تصير خطوط هذا الانتقال منحنيات منعرجة لا خطوط مستقيمة ، أي يصير المسار معراجا . وهذا يحدث عند النفاذ من السماء الدنيا إلى السماوات العلا ، كما يفيد في فهم هذا المعنى قوله تعالى { ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون } [الحجر : 14] .
والانتقال من سمائنا الدنيا إلى سماوات أعلى لا يعني بالضرورة انتقالا مكانيا عن الأرض أو اجتيازا للمسافات الهائلة غير المتناهية عبر حشود المجرات التي يعج بها الكون ، ولكنه انتقال مغاير لحركة الأجسام المادية المحسوسة . فهو سلوك في عالم غيبي لا يطاق ما تكيفت على إدراكه حواسنا . إلا أنه يمكن تقريب ذلك بمفاهيم ومسميات ألفناها في اللغة والتفكير مثل التعبير عن العلو بالسماء وفي القرآن أمثلة كثيرة لهذا التقريب كما في التعبير عن المتعة والعذاب أو المثوبة والعقاب بمفهومي الجنة والنار مع ما نقل لنا – مثلا – عن حال الجنة ، بأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وفي سبيل تقريب وصف الجنة شبه الله حالها بما يمكن أن يستوعبه العقل البشري في قوله تعالى { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى . . . } [محمد : 15] . وإذا فهم حال الجنة يمكن فهم حال نقيضها النار ، وإيمانا بحقيقة الشهادة يجب أن يؤكد إيماننا بالغيب ، وإيقاننا بالدنيا يجب أن يجعلنا موقنين بالآخرة ، وإلا فلن نكون من المتقين ونهتدي بكتاب الله ، ولن نكون على هدى من ربنا ، ولن نكون من المفلحين الذين عنتهم فواتح سورة البقرة في قوله تعالى { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } [البقرة : 1-5] .
مما أسلفنا شرحه يمكن الخلوص إلى نموذج علمي يجعل الكون المادي الذي ندركه بحواسنا جزءا من حقيقة كلية تتمثل في وجود كلي . وإن إدراكنا لما يعتمل في هذا الوجود الكلي محدود بحدود هذا الكون المادي ، وبقدرة ما نمتلك من حواس للتفاعل معه والتأثر بما يحدث فيه . من أجل ذلك فإن حادثة الإسراء والمعراج يمكن تكييفها بأنها حقيقة جرت مشاهدها خارج نطاق القانون الطبيعي والإدراك المحدود لحواس البشر ، سوى ما أظهر الله تعالى على غيبه الرسول محمدا وما أتاح له من سلطان النبوة والوحي فنفذ من أقطار السماوات والأرض إلى الملأ الأعلى ورأى من آيات ربه الكبرى ، ما يعجز العقل البشري عن الإحاطة به . وهنا نشير إلى أن الذين يرون أن هذه الحادثة رؤيا منامية بحسب أن رؤيا الأنبياء وحي وحق ، أو الذين رأوها انتقالا جسديا روحيا للنبي كليهما على درجة من الصواب . إلا أن الرؤيا المنامية لا تكون مدعاة لتكذيب الناس ، أما انتقال النبي فلم يكن كانتقال الأجسام المادية في المكان والزمان الذي يألفه العقل البشري . بل هو انتقال يشذ فهمه عن المألوف ، إلا أن يتخيله الذهن . فهو انتقال إلى لامكان وفي لازمان . والانتقال إلى لامكان يتضح في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ( لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم بآياته وأنا أنظر إليه ) [رواه الشيخان] . أما الانتقال في لازمان فواضح من كثرة ما شاهد النبي أثناء هذه الرحلة السماوية في زمن وجيز من مشاهد الماضي والمستقبل .
وإزاء هذه الغرابة قد يلجأ البعض لرفض ما صح من أحاديث تغليبا لرأي على آخر أو قد يلجأ آخرون إلى محاولات توفيقية متناقضة . وكل هؤلاء جانب الصواب . وأحيانا بطريقة ساذجة لاضفاء نكهة علمية ، يحاول البعض أن يقحموا نظريات كونية إزاء الإسراء والمعراج ، فيما يتعلق بالسرعة التي انطلق بها البراق أو تفسير السماوات السبع بمعالم كوننا المادي ، وذلك بغرض تعقيل ما تقصر عقولهم عن استساغته .
أما ما يمكن أن نستفيده من العلم الطبيعي فينحصر في إقرارأنه جزء من معرفة كلية ، مثلما أن العالم الطبيعي جزء من وجود كلي . كما نستفيد منه في قبول مفاهيم قد ينكرها الناس ابتداء لغرابتها عن المألوف في حياتهم ، ولكن لها تفسيرا رياضيا يقبله العقل ، مثل نسبية الزمن . فإذا كان ممكنا عقلا في عالمنا المادي أن يختلف طول فترة زمنية حسب ما يراه المراقب لحدث ما ، سيكون هذا ممكنا عقلا في غير عالمنا هذا ولن نستغرب قصر الزمن المفعم بالأحداث في رحلة الإسراء والمعراج حسب معاييرنا الأرضية ( . . . وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) [الحج : 47] . وإن كنا نقبل من خلال دراستنا لعلم الهندسة أن الفراغ الكوني منحن ، وأن المسارات فيه متعرجة ، يكون مفهوما دقة المعنى في مدلول المعراج ، ويكون مفهوما دلالة هذه الكلمة في قوله تعالى ( . . . يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ومتا ينزل من السماء وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم . . . ) [الحديد : 4] . وفي قوله تعالى ( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) [المعارج : 4] .
وفي العلم الطبيعي تكيف الأحداث من خلال نسق تتكامل فيع الأبعاد الزمانية مع المكانية ، ولذا يمكن – على سبيل المقابلة – النظر للإسراء بأبعاده المكانية ليكون مكملا للمعراج بأبعاده الزمانية .
وأخيرا بما أن مدخلنا لفهم معجزة الإسراء والمعراج هو إعمال العقل من خلال إدراكنا لسية الله الكونية وقانونها الطبيعي القاصر على تفسير سلوك الماديات من حيث علاقة هذا السلوك بالمكان والزمان ، فإننا بإعمال العقل ذاته نفهم سر الاختلاف في تكييف هذه الحادثة بانتفاء صحة هذه العلاقة في تفسير ما هو غيبي . لهذا فإن ما صح عن النبي نقلا يصير مقبولا عقلا . أو كما قال الصديق ( لئن قال ذلك لقد صدق ) .
(1) القرآن الكريم .
(2) تفسير ابن كثير .
(3) في ظلال القرآن ، سيد قطب .
(4) سيرة ابن هشام .
(5) الروض الانف ، للسهيلي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.