لم يعد سراً أن مليشيا التمرد السريع قد استشعرت الهزيمة النكراء علي المدي الطويل    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    عائشة الماجدي: (الحساب ولد)    تحرير الجزيرة (فك شفرة المليشيا!!)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    تحديد زمان ومكان مباراتي صقور الجديان في تصفيات كاس العالم    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منظمات المجتمع المدني في السودان: خلفية تاريخية (1-2)

د. بهاء الدين مكاوي – أستاذ العلوم السياسية بجامعة النيلين
يسعى الباحث في هذه الورقة إلى الوقوف علي مفهوم المجتمع المدني بشكل عام، بالإضافة إلى تسليط الضوء علي ظروف نشأة وتطور بعض منظمات المجتمع المدني في السودان، ورغم الاختلاف البين حول المنظمات التي تنضوي في اطار المجتمع المدني فان الورقة ستركز علي الأحزاب السياسية والتنظيمات المهنية والفئوية باعتبار أنها الأكثر تأثيراً علي الأوضاع السياسية من ناحية والأسبق من حيث التكوين من ناحية ثانية.
مقدمة
شهدت السنوات الأخيرة استخداماً واسعاً لمصطلح المجتمع المدني، حيث أعدت البحوث، وعقدت المؤتمرات، وأقيمت السمنارات والحلقات النقاشية للتعريف بالمجتمع المدني والدور الذي يمكن أن تلعبه منظماته في سياسات الدول، وفي التحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان وحماية البيئة وغير ذلك.
ورغم أن هذا المصطلح ليس جديداً إذ يعود تاريخه إلى عهد أرسطو 384-322 ق.م والذي أشار إلى المجتمع المدني كمرادف للمجتمع السياسي أو باعتباره يمثل مجموعة سياسية خاضعة للقوانين، إلا أن هذا المصطلح عاد إلى السطح بقوة مع نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين بعد أن غاب لفترة لا تقل عن القرن حتى سقط من القواميس السياسية والاجتماعية.
فما المقصود بالمجتمع المدني ؟ وما هي المنظمات التي تدخل في إطاره ؟ وكيف نشأ المجتمع في السودان ذلك أن الفرضية الأساسية لهذه الورقة هي أن هذه المنظمات تعاني من ضعف وقصور واضحين، وان هذا الضعف الذي يميز منظمات المجتمع المدني في السودان يرجع إلى ظروف نشأتها ابتداءً والي تطورها تبعاً للتطور السياسي العام للبلاد.
يعتقد الباحث أن منظمات المجتمع المدني السودانية قد نشأت ابتداءً كأذرع وواجهات لبعض الأحزاب السياسية السودانية في إطار صراع الأخيرة مع الحكومة الاستعمارية، وبالتالي فقد نشأت مسيسة ابتداءً بسبب ارتباطها الوثيق بالأحزاب السياسية. وكان من المفترض أن تعمل هذه التنظيمات بعد الاستقلال علي أن تكون مستقلة عن الأحزاب السياسية ولكن ذلك لم يحدث الأمر الذي باعد بينها وبين قواعدها من ناحية، وقاد إلى احتكاكات وصراعات فيما بينها علي أساس سياسي محض مما أضعفها جميعاً، وجعلها تدور في فلك الأحزاب السياسية.
مفهوم المجتمع المدني
يستخدم مفهوم المجتمع المدني اليوم في السوسيولوجيا السياسية بمعان تتجاوز ارثه الليبرالي الكلاسيكي كما تتجاوز استعمالاته الماركسية العقائدية. فمن التعريفات الرائجة للمجتمع المدني اليوم انه يمثل " كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات والمنافع العامة دون تدخل أو توسط الحكومة". ومنها كذلك أن المجتمع المدني هو "النسق السياسي المتطور الذي تتيح صيرورة تمأسسه (تمفصله في مؤسسات) مراقبة المشاركة السياسية"(1).
ولا يستطيع المرء أن يحصي التعريفات التي وردت بشأن المجتمع المدني، الا ان اشهر التعريفات انتشاراً في الوطن العربي هو أن المجتمع المدني عبارة عن "مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح، أفرادها ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والخلاف".(2)
وطبقاً لهذا التعريف، ينطوي مفهوم المجتمع المدني علي ثلاثة مقومات رئيسية هي:
الفعل الإرادي الحر: حيث يتكون المجتمع المدني نتيجة للإرادة الحرة للإفراد بخلاف الجماعات القرابية كالأسرة والعشيرة والقبيلة والتي يجد الفرد نفسه منتمياً لها بحكم المولد ودون أن يكون له خيار في ذلك.
التنظيم الاجتماعي: حيث يقصد بالمجتمع المدني، عادة، الأجزاء المنظمة من المجتمع العام. والتنظيم هو الفرق بين المجتمع المدني والمجتمع عموماً.
قبول الاختلاف والتنوع والالتزام بالإدارة السلمية للصراع سواء كان ذلك مع الحكومة أو منظمات المجتمع المدني الأخرى. والالتزام التام بقيم التسامح وانتهاج أسلوب الحوار في التعامل مع الطرف الآخر.
نشأة وتطور المجتمع المدني بالسودان
كما أوضحنا أنفاً، فان هناك اختلافاً كبيراً حول مفهوم المجتمع المدني بصورة عامة والمنظمات التي تنطوي تحته. هذا الاختلاف (العام) حول المجتمع المدني ومؤسساته يظهر جلياً في الحالة السودانية حيث لم تستطع القوي السياسية السودانية الاتفاق علي مفهوم المجتمع المدني والمنظمات التي تشكله حتى تلك تنادي بدور اكبر للمجتمع المدني.
ونسبة لتفوق الأحزاب التي يطلق عليها اسم الأحزاب الطائفية، حيث ظلت تحصل علي غالبية أصوات الناخبين في كل الانتخابات التي جرت بالسودان، فان منظمات المجتمع المدني يطلق عليها أحياناً اسم "القوي الحديثة" في مقابلة القوي الطائفية "التقليدية".
ومنذ البداية فقد تم تخصيص خمس دوائر في أول انتخابات جرت بالبلاد للخريجين والطبقة المتعلمة وكان ذلك تقديراً لدورهم الكبير في الصراع ضد الاستعمار وعملاً بتقليد بريطاني حيث كانت تخصص في بريطانيا بعض الدوائر لخريجي أوكسفورد وكمبردج.
وفي أعقاب ثورة أكتوبر 1954م خصصت 10 مقاعد للخريجين اكتسحها الحزب الشيوعي، وفي إطار الصراع بين الأخوان المسلمين والأحزاب الطائفية من جانب، والحزب الشيوعي من جانب آخر، تم طرد النواب الشيوعيين من البرلمان بعد إجراء تعديل دستوري حرم الشيوعية ومنع قيام أحزاب شيوعية بالبلاد. وبعد حادثة حل الحزب الشيوعي السوداني الشهيرة ألغيت دوائر الخريجين في انتخابات 1968م حتى لا يتسلل الشيوعيون إلى الجمعية التأسيسية مرة أخرى من خلال دوائر الخريجين بعد أن أسسوا "الحزب الاشتراكي الجديد" كبديل للحزب الشيوعي المحلول واحتشدت داخله كل عضوية الحزب الشيوعي السوداني المحظور قانوناً.
وبعد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بحكومة النميري، كثر الحديث عن "القوي الحديثة" وضرورة تمثيلها. إلا أن الاقتراح القاضي بتمثيل القوي الحديثة فشل لعدم الاتفاق علي ماهية القوي الحديثة حيث فشلت الجماعات التي تنادي بتمثيل القوي الحديثة وتصر علي ذلك في تقديم تعريف واضح لماهية هذه القوي التي تريد تمثيلها في البرلمان وقد رفعت "اللجنة الوزارية لاستطلاع أراء القوي السياسية حول قانون الانتخابات" تقريرها إلى مجلس الوزراء خلصت فيه إلى أن غالبية القوي السياسية تؤيد تمثيل القوي الحديثة في البرلمان المقبل .. علي الرغم من صعوبة تعريفها بصفة قاطعة أو علمية". ونسبة للاختلافات حول تفسير معني القوي الحديثة وكيفية تمثيلها في الاجتماع المشترك (بين مجلس الوزراء والمجلس العسكري الانتقالي) فقد أجاز الاجتماع الاقتراح القاضي بالتمثيل عبر دوائر الخريجين كما كان الحال في السابق. وقد أوضح مقرر اللجنة الوزارية المذكورة أعلاه "أن القوي السياسية السودانية تصر وتحرص علي تمثيل القوي الحديثة دون تعريف واضح لهويتها أو نسبة تمثيلها. وأضاف موضحاً انه في أكتوبر 1989م قامت 51 نقابة بالتوقيع علي ميثاق مع الأحزاب السياسية وقد خلص هذا الميثاق في تحديد مهام الفترة الانتقالية إلى ضرورة" إصدار قانون ديمقراطي ينص علي تمثيل القوي الحديثة والمرأة تمثيلاً عادلاً". وقد أوضح الكاتب أن هذه الفقرة تعتبر دليلاً آخر علي غموض مفهوم القوي الحديثة في أذهان هذه القوي ذلك "إن المرأة جزء أصيل من القوي الحديثة"(3).
وعلي كل، فان الرأي الغالب هو ان منظمات المجتمع المدني تشمل تنظمات المجتمع غير الحكومية من أحزاب ونقابات وإتحادات وأندية وروابط وخلافه وفي الحالة السودانية يمكن اعتبار الجماعات الصوفية والمنظمات الدينية بشكل عام كجزء من المجتمع المدني وذلك للدور البارز الذي تلعبه في تشكيل سلوك المنتمين إليها وتوجيههم في اتجاه معين، لكن هذه الورقة، ولاعتبارات تتعلق بضيق الحيز المتاح، ستعمل علي تسليط الضوء، بصورة مختصرة، علي بعض المنظمات التي يرجى أن تشكل نواة للمجتمع المدني السوداني الحديث وستركز بصورة خاصة علي الأحزاب السياسية والمنظمات المهنية والفئوية.
أولاً: الأحزاب السياسية
علي الرغم من أن بعض المنظرين يستبعد الأحزاب السياسية من قائمة منظمات المجتمع المدني، لكن البعض يري انه لا يمكن إقصاء الأحزاب السياسية من هذا الإطار في العالم الثالث والدول غير الديمقراطية لان هناك فرق كبير بين المجتمع المدني كمفهوم بعد تأسيس الديمقراطية كنظام حكم، والمجتمع المدني كمفهوم في مرحلة ما قبل تأسيس الديمقراطية. وفي حالة السعي نحو الديمقراطية "فأن الاحزاب هي الطليعة الاكثر اهمية في عملية "الدمقرطة" وحيث ان السودان هو جزء من منظومة العالم الثالث التي تسعي بخطي مثقلة نحو الديمقراطية تصبح الأحزاب جزءاً اصيلاً من المجتمع المدني السوداني. لذلك ستسلط الورقة الضوء علي الأحزاب السياسية باعتبارها جزء من منظمات المجتمع المدني بالبلاد.
شهدت فترة الاربعينات نشاطاً سياسياً مكثفاً في السودان ذلك ان ميثاق الأطلنطي الذي أكد علي حق الشعوب في الحرية والديمقراطية قد هيأ الظروف للعمل السياسي، وبدأت الجماعات الوطنية التي وحدتها ظروف النضال الوطني، في تنظيم انفسها في اطار احزاب سياسية استعداداً للتنافس علي المكاسب والفرص السياسية التي سيخلفها رحيل المستعمر. وكشأن كل الحركات الوطنية انقسم الوطنيون في السودان الي احزاب وجماعات متعددة فالصراع ضد الاستعمار كان مظلة عريضة احتشدت في داخلها كل القوي الوطنية، اما وقد بدأت البلاد تخطو نحو الاستقلال فلكل من هذه القوي رؤاها وبرنامجها. لذلك انقسم السودانيون الي احزاب شتي نذكر منهم:
الاحزاب الطائفية
يوجد بالسودان حزبان هما: حزب الأمة ويستند علي الأنصار، والحزب الاتحادي الذي يعتمد علي الختمية. ومن خلال السرد التاريخي، ستتضح العلاقة بين الحزب والطائفة.
بدأت مجموعة من الشباب المتعلمين بالسودان في أوائل العشرينات تدعو إلى تطوير القومية السودانية متأثرين في ذلك بما يجري في مصر منذ عام 1919م. وقد تبلور هذا التيار في ثورة 1924م بقيادة علي عبد اللطيف ورفاقه. هدفت الثورة الي اجلاء الاستعمار لكنها فشلت واعدم قادتها.
الا ان ثورة 1924م كانت لها دلالتها علي مجموعة الشباب. فالثورة كانت ترفع شعار "وحدة وادي النيل" وكان من المقرر ان يشترك الجنود المصريون في هذه الثورة لكنهم لم يفعلوا، وكان ذلك احد اهم الاسباب التي أدت إلى فشل الثورة.
هذا الموقف جعل مجموعة من هؤلاء الشباب يفقدون الثقة في المصريين ويتشككون في جدوى التعامل معهم. وقد انضمت هذه الفئة إلى جانب السيد/ عبد الرحمن المهدي ورفعت شعار "السودان للسودانيين"، وكان ذلك رداً علي شعار "وحدة وادي النيل" الذي رفعته المجموعة التي كانت لا تزال تتمسك بالوحدة مع مصر وتعمل تحت رعاية السيد علي الميرغني. وهكذا تم استقطاب الحركة الوطنية في معسكرين تحت رعاية السيدين. وبقيت فئة صغيرة من هؤلاء المثقفين ترفض فكرة التعاون مع السيدين وتدعو الي تحطيم نفوذ الطائفة وسط الشباب "وقد كلفها ذلك الموقف التخلي عن الطموح السياسي والاشتغال بالآداب والفنون والشعر"(4).
في سنة 1944م اسس السيد/ اسماعيل الازهري حزب الاشقاء من العناصر التي تدعو للوحدة مع مصر تحت رعاية السيد/ علي الميرغني، وفي سنة 1945م اسس الاستقلاليون حزب الامة تحت رعاية السيد/ عبد الرحمن المهدي.
كما ظهرت خلال هذه الفترة بعص الاحزاب الصغيرة مثل حزب الاتحاديين وحزب الأحرار الاتحاديين وحزب وادي النيل. وبمبادرة من قادة ثورة يوليو 1952م المصرية توحدت هذه الأحزاب لتكون الحزب الوطني الاتحادي بزعامة السيد/ إسماعيل الازهري. كذلك فقد ظهر في تلك الفترة "حزب الوطن" وقد انضم أعضاؤه إلى حزب الأمة عام 1946م. وهكذا قام الارتباط بين الطائفية والمثقفين "فالطائفية تقدم السند الشعبي والقيادة الروحية والمتعلمون يمارسون النشاط السياسي تحت مظلتها، فكلاهما مقتدر في مجالات معينة وقاصر في مجالات أخري"(5).
الجماعات الراديكالية
يعتبر اليسار الماركسي والحركة الاسلامية اهم الجماعات الراديكالية في السودان.
1- التيار الماركسي
وجد الفكر الماركسي طريقه الي السودان عن طريق الطلاب الذين كانوا يدرسون بمصر حيث اعتنقت مجموعة من هؤلاء الطلاب المبادئ الماركسية وأسسوا اول خلية شيوعية بين الطلاب السودانين بمصر عام 1944م. ونتيجة لمجهودات هؤلاء الطلاب خلال العطلات الصيفية تاسست اول خلية شيوعية بالسودان سنة 1945م وقد اطلق عليها اسم الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) تأسياً بالحركة الشيوعية في مصر والتي كان يطلق عليها اسم الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو). وفي 1946م تكونت اول خلايا الحركة بجامعة الخرطوم، وفي نفس العام تم تكوين اول خلايا الحركة وسط عمال عطبرة. وبتغلغل الحركة وسط العمال، برزت الي الوجود خاصة بعد تكوين نقابة السكة الحديد ووصول عدد من الشيوعيين الي قيادة النقابة من امثال: قاسم امين والحاج عبد الرحمن وغيرهم. وقد استطاعت هذه العناصر –في وقت لاحق- ان تسيطر علي الاتحاد العام لنقابات عمال السودان الذي تكون عام 1949م مما هيأ للشيوعيين منبراً جيداً برزوا من خلاله بقوة لا تتناسب وحجم عضويتهم وكما لوحظ فقد "كان الحزب الشيوعي بأكمله .. خاصة في الأربعينيات.. قيادات لمنظمات نقابية وشعبية شتي، فهم في داخل تنظيمهم مجموعة من القيادات"(6).
وفي واقع الأمر كان الحزب الشيوعي مدفوعاً بايديولوجيته للتغلغل وسط العمال ذلك ان الماركسية اللينينية تنادي بتدخل الحزب في النقابات لاستخدامها وتثويرها يقول لينين:
"ان مهمتنا تنحصر في محاربة التلقائية، وفي حمل الحركة العمالية بنقابييها التلقائيين الذين يناضلون تحت مظلة البرجوازية، لتصبح تحت مظلة الاشتراكية الثورية"(7).
وعلي هدي الأفكار التي نادي بها لينين ازاء النقابات العمالية، جاء برنامج الحزب الشيوعي السوداني ليؤكد "ان الحزب يوجه معظم اهتمامه للطبقة العاملة، لأنها أكثر الطبقات التصاقاً بوسائل الانتاج حيث يمارس الاستغلال في اشكاله الحديثة بصورة مفرطة، وحيث يتركز الاف العمال في مختلف الصناعات، مما يجعل هذه الطبقة أكثر وعياً، وأدق تنظيماً في المجتمع"(8). وسنتطرق لاحقاً الي العلاقة بين الحزب الشيوعي والتنظيمات العمالية بالسودان ذلك ان تدخل الحزب الشيوعي في الحركة العمالية قد افقدها استقلالها تماماً لفترة طويلة من الزمن، وحول النقابات من منظمات مجتمع مدني الي مجرد واجهات للحزب الشيوعي السوداني.
2- الحركة الإسلامية السودانية
نشأت الحركة الاسلامية كرد فعل لكثافة التيار الشيوعي بكلية غردون في اواخر الاربعينات حيث تمكن الشيوعيون من السيطرة علي اتحاد طلاب الكلية فقامت مجموعة من الطلاب بقيادة بابكر كرار ومحمد يوسف محمد وغيرهم بتكوين "حركة التحرير الاسلامي" والتي تعتبر نواة للحركة الاسلامية الحديثة بالسودان وكان ذلك في اواخر عام 1949م. في ذات الوقت كان عدد من الطلاب السودانيين الذين يدرسون بمصر قد انضموا الي جماعة الاخوان المسلمين هناك وعلي رأس هؤلاء الطلاب: صادق عبد الله عبد الماجد وجمال الدين السنهوري وغيرهم. وقد أدت مسألة العلاقة بين حركة التحرير الاسلامي السودانية وجماعة الأخوان المسلمين في مصر الي انشقاق في صفوف الحركة الاسلامية تعمق بالاختلاف حول ما إذا كان الأجدي ان تركز الحركة علي التربية الروحية فقط ام تخوض المعترك السياسي. وقد تم حسم هذه الموضوعات الخلافية في مؤتمر جامع عقد عام 1954م.
تحالف الاخوان المسلمون (وهو الاسم الذي اقره مؤتمر 1954م) مع عدد من الهيئات والجماعات الاسلامية وأسسوا (الجبهة الاسلامية للدستور) وكان ذلك في اواخر 1955م، وقد عملت جماعة الاخوان المسلمين في اطار هذه الجبهة حتي قيام الحكم العسكري الاول.
وبعد ثورة اكتوبر التي اطاحت بالحكم العسكري الاول، برزت الحركة الاسلامية باسم "جبهة الميثاق الاسلامي" والتي تحولت الي حزب سياسي فاعل بعد ان كانت جبهة الدستور مجرد جماعة ضغط. وقد استمرت جبهة الميثاق منذ أواخر 1964م وحتي قيام النظام المايوي في 25/5/1969م.
وبعد الانقلاب المايوي، شاركت الحركة الاسلامية مع الاحزاب الوطنية الاخري (حزب الامة والحزب الاتحادي) في تكوين الجبهة الوطنية المعارضة لنظام نميري. وعقب المصالحة الوطنية عام 1977م شارك الاخوان بفاعلية في مؤسسات مايو الي ان تمت المفاصلة بين الطرفين والتي حدثت قبل شهر واحد من سقوط النظام المايوي.
وبعد سقوط النظام المايوي ظهرت الجبهة الإسلامية القومية (وهو الاسم الجديد للأخوان بعد الانتفاضة) بقوة هائلة شكلت معارضة قوية للحكومة الائتلافية بين (حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي)، واشتركت في حكومة ائتلافية مع حزب الأمة لبعض الوقت. وفي 30 يونيو 1989م قاد الإسلاميون انقلاباً أطاح بالسلطة الديمقراطية الحاكمة واستولوا علي السلطة في السودان بقيادة الرئيس عمر حسن احمد البشير الذي لازال يحكم السودان منذ ذلك الوقت.
الصراع بين الأخوان والشيوعيين
ظل العداء مستحكماً بين الاخوان والشيوعيين منذ ظهورهما علي الساحة السياسية السودانية. ويرجع ذلك لكونهما حزبين راديكاليين علي طرفي نقيض، فالأخوان يرون ان الشيوعيين دعاة للماركسية التي تقوم علي الالحاد ومعاداة الدين وانهم مجرد جواسيس وادوات تستخدمها الدول الاشتراكية في بث هذه الأفكار والمبادئ المعادية للدين بين أبناء المسلمين. في ذات الوقت كان الشيوعيون يقولون بان تنظيم الأخوان المسلمين تنظيم رجعي يخدم مصالح البرجوازية والطفيلية ويقف حائلاً دون انتشار الماركسية لذلك فقد كان الصراع محتدماً بين الطرفين. يقول د. الترابي:
"يكاد يكون الشطر الاول من عمر الحركة- نحو ربع قرن- مشغولاً بالمنافسة مع الشيوعيين. فلا تعرف البغض في الله ولا المجاهدة الا ضدهم، ولا تتحرك بدعوتها الي قضية عامة أو قطاع اجتماعي الا استجابة لهم، ولا تكاد تعرف نفسها للراي العام الا مقابلة لهم ... (فكانوا) يناصبونها العداء تشنيعاً عليها، وارهاباً لعناصرها وحملة متصلة لوأدها في الوسط الطلابي والنقابي"(9).
ولعل أكثر ما أدي إلى الاحتكاك والتصادم بين الحزبين هو ان كليهما كان يسعى إلى التغلغل وسط القوي الحديثة خاصة العمال والطلاب. وكما أوضحنا سابقاً فقد كان الحزب الشيوعي يسعى للتغلغل وسط العمال باعتباره (حزب الطبقة العاملة) كذلك فقد تنافس الحزب الشيوعي الاخوان في اوساط الطلاب وان لم يكن له بينهم ذلك النفوذ الذي كان يتمتع به وسط العمال وقد استعان الحزب الشيوعي بعدد من الواجهات السياسية مثل اتحاد الشباب السوداني والاتحاد النسائي. وفي المقابل فقد اقامت جبهة الميثاق "اتحاد العمال الوطني" في مقابلة "الاتحاد العام لنقابات عمال السودان" الذي سيطرت عليه العناصر الشيوعية كما قامت بتأسيس "منظمة الشباب الوطني" في مقابلة "الشباب السوداني" و"الجبهة النسائية الوطنية" في مقابلة "الاتحاد النسائي السوداني". وكان كل طرف يسعى للقضاء علي خصمه إلى ان وجد الاخوان فرصتهم عقب حاثة معهد المعلمين الشهيرة والتي انتهت بحل الحزب الشيوعي السوداني وكانت هذه الحادثة معلماً بارزاً في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني وجبهة الميثاق علي السواء. يقول د. الترابي:
"وفضلاً عما أثمرته تلك الحملة من تجربة الاتصال السياسي وتعبئة الشعور الديني، فقد عبرت بالحركة الي مرحلة تجاوز الحزب الشيوعي. فحتي ذلك العهد كان هاجس الحركة الاول والأساسي منافسة الشيوعيين. ومنذئذ تخلصت من ان تحتكرها عقدة منافسة الشيوعيين وخلفتهم وراءها. واصبحوا مشغولين هم بالحركة ولم تعد هي مشغولة بهم. بل اصبح همها هو تطوير علاقتها مع الاحزاب الوطنية أو منافستها علي الشعب"(10).
وبالفعل أضعفت هذه الحادثة موقف الحزب الشيوعي السوداني الي ان انهت احداث يوليو 1971م ما تبقي للحزب من قوة حيث أدت إلى اعدام قيادته التاريخية ومن ثم تراجع دوره في الساحة السياسية.
اما الاخوان فقد استفادوا من هامش الحرية الذي اتاحته لهم المصالحة الوطنية وتمكنوا من بناء تنظيمهم خلال هذه المرحلة، وعقب سقوط نظام النميري استطاعت الجبهة الاسلامية القومية (الاسم الجديد للاخوان بعد مايو) ان تكتسح دوائر الخريجين وان تاتي في المرتبة الثالثة بعد الحزبين الكبيرين (الامة والاتحادي). وفي يونيو 1989م قامت مجموعة من الضباط الاسلاميين المنتمين للجبهة الاسلامية بالاستيلاء علي السلطة في البلاد فيما عرف باسم حكومة الانقاذ التي لا تزال تحكم السودان.
علي أن أهم ما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام هو ان هذا الصراع بين الحزبين الراديكاليين وتنافسهما الضاري علي منظمات العمال والمزارعين والنساء والشباب قد جعل هذه المنظمات تفقد استقلالها تماماً لتصبح جزءاً من الحزب السياسي الذي تنتمي اليه. وهو الامر الذي يثير التساؤل حول وجود منظمات مجتمع مدني مستقلة بالسودان.
الأحزاب الجنوبية
لعل اهم ما يميز الاحزاب الجنوبية انها- وعبر تاريخها الطويل- لم تكن احزاباً قومية مفتوحة لكل ابناء السودان، بل كانت احزاباً مغلقة وقاصرة علي ابناء الجنوب وحدهم مثل حزب الاحرار الجنوبيين (53-1958م) والذي دعا لقيام اتحاد فدرالي بين الشمال والجنوب وحزب الاتحاد السوداني الافريقي برئاسة وليم دينق وجبهة الجنوب برئاسة كلمنت امبورو واللذان تكونا بعد ثورة اكتوبر، كما حل حزب الاتحاد السوداني الافريقي محل حزب الاحرار الجنوبيين بالاضافة الي ظهور بعض الاحزاب الصغيرة مثل حزب السلام والحزب الديمقراطي الجنوبي وحزب النيل..الخ.
إلا أن الاستثناء الوحيد عن هذه القاعدة هو الحركة الشعبية لتحرير السودان والتي دعت في مواثيقها إلى وحدة السودان، وأوضحت أنها تهدف إلى تحرير الشعب السوداني وتسعى إلى إيجاد "سودان جديد" يقوم علي أساس الحرية والمساواة والمواطنة واستطاعت الحركة بذلك كسر الحاجز بين الشمال والجنوب حيث انضم عدد من ابناء الشمال للحركة الشعبية وعملوا في صفوفها، وفي المقابل فتح المؤتمر الوطني صفوفه للجنوبيين ولم يعد الإسلام شرطاً من شروط الانضمام للحزب كما كان في الحركة الاسلامية منذ نشأتها وحتي نهاية الديمقراطية الثالثة. بل تطورت العلاقة بين الطرفين الي درجة اثمرت شراكة سياسية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية من خلال اتفاقية السلام الشامل التي وقعت مطلع العام الماضي.
الإحالات المرجعية:-
1. سعيد بنسعيد العلوي وآخرون، المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1997م، ص 79.
2. حيدر إبراهيم علي، المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في السودان، مركز إبن خلدون للتنمية ودار الأمين للنشر، القاهرة 1996م، ص 5، (من مقدمة د. سعد الدين إبراهيم).
3. حيد إبراهيم علي (تحرير)، الديمقراطية الرابعة في السودان: البعد التاريخي والوضع الراهن وآفاق المستقبل (ابحاث ندوة تقييم الديمقراطية في السودان)، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، ص 255.
4. الصادق المهدي، "مستقبل الإسلام في السودان" في كتاب: الإسلام في السودان، دار الأصالة للطباعة والنشر، الخرطوم 1982م، ص 392.
5. محمد سعيد القدال، الإسلام والسياسة في السودان (1651-1985م)، دار الجيل، بيروت 1992م، ص 126.
6. محمد أبو القاسم حاج حمد، السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل، دار الكلمة للنشر 1980م، ص 377.
7. Lenin, "what is to be done", Collected works of Lenin, NewYork ‎1929, PP 122-123‎.
8. Abdel Rahman El. Tayeb Ali Taha, The Sudanese Labour Movement : "Astudy of Labour Unionism In Developing Society", Ph.D. Thesis, Los Angeles, 1970, p 85‎.
9. حسن الترابي، الحركة الاسلامية في السودان: التطور والكسب والمنهج، الخرطوم 1990م، ص 159-160.
10. المرجع نفسه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.