المريخ يستانف تدريباته بعد راحة سلبية وتألق لافت للجدد    هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    تعادل سلبي بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا في تونس    تعادل باهت بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    تقرير مسرب ل "تقدم" يوجه بتطوير العلاقات مع البرهان وكباشي    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    بعد الدولار والذهب والدواجن.. ضربة ل 8 من كبار الحيتان الجدد بمصر    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    زلزال في إثيوبيا.. انهيار سد النهضة سيكون بمثابة طوفان علي السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التفسير الإسلامي للتاريخ: الحلقة الثانية

هذه الحلقة الثانية لهذا البحث الذي يناقش المسوِّغات الفكرية التي أفضت إلى ظهور التفسير الإسلامي للتاريخ (أو أسلمة علم التاريخ) في النصف الأخير من القرن العشرين للميلاد، ويحلل الأطروحات الإسلامية التي قُدِّمت في هذا الشأن كبدائل للأطروحات الغربية الخاصة بتفسير التاريخ البشري، ثم يستعرض الإشكالات المنهجية التي تواجه هذه الأطروحات، وكيفية تقويمها لتكون أجدر استيعاباً لمفردات التاريخ البشري وحركته، وأكثر تثاقفاً مع المناهج البحثية التاريخية المعاصرة.
ثالثاً: موقف الأسلمة من إعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية
يوجد داخل منظومة التفسير الإسلامي للتاريخ اهتمام خاص بإعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية، وفق ضوابط معرفية تهدف إلى تنقية المدونات التاريخية من الشوائب والإسرائيليات العالقة بها، وتسعى في الوقت نفسه إلى تأسيس منهج تأصيلي لإعادة قراءة هذه المدونات في ضوء جملة من الموجهات القرآنية والسنن الكونية الفاعلة والمتفاعلة مع مفردات الفعل التاريخي البشري. فإعادة كتابة التاريخ الإسلامي بهذه الكيفية تستمد مشروعيتها من المسوِّغات التالية:
أولاً: يجمع منظِّرو أسلمة علم التاريخ على أن مدوَّنات التاريخ الإسلامي العربية القديمة تعج بكثير من القضايا الخلافية، التي تتعارض في كلياتها مع بعض ثوابت الدين الإسلامي وتراث المسلمين الحضاري. فمثلاً سيد قطب يصف هذه المدونات التاريخية بأنها "نثار من الحوادث والوقائع والحكايات والأحاديث والنتف والمُلَح والخرافات والأساطير والروايات المتضاربة والأقوال المتعارضة على كل حال"، لذا فلا يجوز تسميتها تاريخاً.
ويؤيد هذا الموقف محمد خليل رشاد، عندما يعضد نقده للمدونات التاريخية بقول أبي بكر بن العربي، الذي يصف المفسرين، والمؤرخين، وأهل الآداب، بأنهم:
"أهل جهالة بحرمات الدين، أو على بدعة مصرِّين، فلا تبالوا بما رووا، ولا تقبلوا رواية إلا عن أئمة الحديث، ولا تسمعوا لمؤرخ كلاماً إلا للطبري، وغير ذلك هو الموت الأحمر، والداء الأكبر، فإنهم ينشئون أحاديث استحقار الصحابة والسلف، والاستخفاف بهم، واختراع الاسترسال في الأقوال والأفعال عنهم، وخروج مقاصدهم عن الدين إلى الدنيا، وعن الحق إلى الهوى، فإذا قاطعتم أهل الباطل واقتصرتم على رواية العدول، سلمتم من هذه الحبائل، ولم تطووا كشحاً عن هذه الغوائل. ومن أشد شيء على الناس جاهل عاقل، أو مبتدع محتال. فأما الجاهل فهو ابن قتيبة [...] وأما المبتدع المحتال فالمسعودي، فإنه بما يأتي منه متاخمة الإلحاد فيما روى من ذلك، وأما البدعة فلا شك فيه...".
فإن هذا القصور حسب منطلقات أسلمة علم التاريخ يعزى إلى سببين رئيسيين: أحدهما يرتبط بالواقع السياسي الذي كُتبت فيه أهم المدونات التاريخية، أي بمعنى آخر أن معظم كُتَّاب هذه المدونات التاريخية قد تأثروا في كتاباتهم بهاجس الخوف من أو محاباة السلطة السياسية. ومن ثم فإن معظم رواياتهم التي نقلوها إلينا عن تاريخ خصوم السلطة السياسية قد اتسمت بنوع من فجور الرواة أو الإخباريين الذين نقل عنهم الرواة، وعلى سبيل المثال قد انعكست إسقاطات ذلك الواقع السياسي على تاريخ الأمويين، الذي دُوِّن في العهد العباسي، علماً بأن العباسيين كانوا في خصومة سياسية مع الأمويين، ألقت بظلالها السالبة على تاريخ الخصوم الذي دُوِّن في تلك الحقبة. وثانيهما يرتبط بطول الفترة الزمنية الفاصلة بين تأريخ حدوث كثير من الوقائع التاريخية وتأريخ تدوينها، فلا شك أن هذا الفاصل الزمني قد خلق نوعاً من الاضطراب والارتباك في كثير من الروايات التاريخية، التي تأثرت بالخلط والتحريف والنسيان. وبذلك يصبح لزاماً على الباحثين في مجال الدراسات التاريخية الإسلامية أن يناقشوا هذه الروايات ومثيلاتها، مناقشة منطقية جريئة قائمة على التمحيص والاستقراء، لكي يستبعدوا غثها ويستفيدوا من ثمينها في إعادة كتابة مفردات تاريخ الأمة الإسلامية.
ثانياً: إن منظِّري الأسلمة قد شككوا أيضاً في مصداقية كثير من الأطروحات والدراسات الحديثة التي تناولت تاريخ الأمة الإسلامية، وعلى سبيل الحصر ما كتبه المستشرقون وبعض المسلمين الذين تأثروا بمناهجهم الاستشراقية. وفي هذا الشأن يرى عماد الدين خليل أن معظم الذي كُتِبَ عن تاريخ الأمة الإسلامية:
لا يعدو أن يكون غثاءً كمياً -إذا صح التعبير- لا يضيف جديداً، إن على مستوى المنهج أو على مستوى الموضوع، فضلاً عن أنه يكشف عن خواء محزن في القدرة على التحليل والتركيب، وفي الخلفية الثقافية وقوة الخيال، وفي الأسلوب وطرائق التعبير. ثم، وهو الأدهى والأمر، أن معظم الأطروحات هذه تجرى وفق ما تريده "السياسيات التعليمية" للمؤسسات الأكاديمية التي أُنجزت بها. ومن ثم فإن تاريخ الأمة الإسلامية يغدو "أمريكيا في جامعة برنستون.. ماركسياً في جامعة موسكو.. إنكليزياً في جامعة أكسفورد أو لندن أو سانت أندروز.. مع هوى بني إسرائيل في الجامعة العبرية.
ثالثاً: إن هذه الانتقادات المرتبطة بموثوقية مدونات تاريخ الأمة الإسلامية ومناهج البحث الاستشراقية قد دفعت سيد قطب، بصفته واحد من رواد أسلمة علم التاريخ، إلى القول: بأن "تعاد كتابة التاريخ الإسلامي على أسس جديدة ومنهج آخر.[...] وأن يُنظر إلى الحياة الإسلامية من زاوية جديدة، وتحت أضواء جديدة لكي تعطي كل أسرارها وإشعاعاتها، وتنكشف بكل عناصرها ومقوماتها". وانطلاقاً من هذه الرؤية التجديدية لإعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية يدعو منظِّرو الأسلمة إلى تبني الموجهات البحثية التالية:
تقويم مدونات تاريخ الأمة الإسلامية وفق موجهات منهج الجرح والتعديل، الذي يمثل المرحلة الأولى في فحص الوثيقة التاريخية من خلال النظر في شخصية الراوي أو الناقل قبل الالتفات إلى معنى النص التاريخي، الذي تحمله الوثيقة. ويقضي هذا المنهج أن يكون الراوي أو الناقل عدلاً ضابطاً لما يرويه، مع توفر شروط الإسلام، والبلوغ، والعقل، والتيقظ، والحفظ، والإدراك السليم.
التثبت من صحة المرويات الواردة في المدونات التاريخية، وذلك وفق منهج ثوثيقي يستأنس بموجهات القرآن والسنة، والسنن الكونية التي تكون في حالة تناغم مع الفعل التاريخي.
أن يتحلى المؤرخ الذي يتعامل مع مدونات تاريخ الأمة الإسلامية بنوع من الإخلاص والتجرد، والخبرة بفقه اللغة العربية، والعلم الصحيح بالإسلام وعلومه الضرورية، والإلمام الواسع بتاريخ العرب في الجاهلية، ومعرفة الحالة التي كانت عليها الأمم الأخرى قبل دخولها في دين الله أفواجاً.
أما في ما يخص المنهج الذي يجب أن يُوظف في إعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية يقترح منظّرو الأسلمة الموجهات الفكرية التالية:
إقرار المرتكزات الفكرية العامة المتعلقة بأطروحات أسلمة علم التاريخ (انظر أعلاه)، واعتبارها موجهات كلية للمنهج البحثي الخاص بإعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية.
أن يوثق تاريخ الأمة الإسلامية باعتباره تاريخاً يهدف إلى تحقيق المشيئة الإلهية من خلال الفاعلية المتاحة للإنسان في هذا الكون بقدر من الله، وبحسب سنن معينة يجري الله بها قدره في الحياة الدنيا. علماً بأنه تاريخ تتجلى فيه مفردات تاريخ الفرد والجماعة المسلمة اللذان يتحركان في إطار تشكابهما المدني وتفاعلهما النسبي مع شرائع الذات الإلهية المطلقة والسنن الكونية المسخرة لخدمة البشرية.
يجب أن تُعاد كتابة تاريخ الأمة الإسلامية في إطار مفهوم خلافة الإنسان لله سبحانه وتعالى، وتتبلور الماهية الوظيفة لهذا المفهوم في "إقامة مجتمع إنساني سليم، وإشادة حضارة إنسانية شاملة ليكون الإنسان بذلك مظهراً لعدالة الله تعالى وحكمة في الأرض، ولكن لا بالقسر والإجبار، بل بالتعليم والاختبار". ولا شك أن تنفيذ هذا التكليف على مستوى الفرد والجماعة، حسب وجهة نظرهم، مرهون بمبدأي الثواب (الوعد) والعقاب (الوعيد) في الآخرة، اللذين يمثلان البُعد النفسي، القائم على جملة من المعانى القصدية الذاتية، التي تتكامل تكاملاً طردياً مع متطلبات البُعد الميتافيزيقي الخارجي.
يجب أيضاً وضع نظام تحقيب جديد لدراسة تاريخ الأمة الإسلامية، ويشترط في هذا التحقيب أن يتوافق في كلياته مع تحقيب التاريخ العالمي العام الذي أشرنا إليه أعلاه، وأن يحتفظ بخصوصياته في حالة مناقشة بعض القضايا الإسلامية ذات الصبغة المحلية أو الإقليمية. وانطلاقاً من هذه الخليفة اقترح منظِّرو الأسلمة التحقيب التالي:
مالك بن نبي
مرحلة الإسلام الأولى مرحلة المدنية الإسلامية حتى عهد الموحدين مرحلة الجمود والانحطاط
سيد قطب
عهد الرسول صلى الله عليه وسلم المد الإسلامي إعمار المد الإسلامي العالم الإسلامي اليوم
محمد قطب
البعثة وصدر الإسلام المد الإسلامي فترة الانحسار الصحوة الإسلامية خيوط المستقبل
سيد على أشرف
حقبة الأنبياء حتى محمد حقبة الخلفاء الراشدين حتى عودة النبي عيسى حقبة الانحدار الإنساني
محمد باقر الصدر
مرحلة الحضانة مرحلة الوحدة مرحلة التشتت إلى ظهور المهدي المنتظر
أحمد إلياس
العصر الجاهلي عصر الرسول صلى الله عليه وسلم تاريخ الأمة الإسلامية الأمة الإسلامية المعاصرة
ويتّضح من هذا الجدول التحقيبي أن منظِّري الأسلمة قد عمدوا إلى تجاوز النظرة الشعوبية الخاصة بتقسيم تاريخ الأمة الإسلامية إلى تاريخ أموي، وعباسي، وفاطمي، وأيوبي، ومملوكي، وعثماني، وإلى تجاوز الجهوية الخاصة بتحقيبه إلى تاريخ الأندلس، وتاريخ بلاد الشام، وتاريخ الحجاز، وتاريخ الهند. وحسب وجهة نظرهم أن مثل هذه التحقيبات التجزيئية ذات السحنة الشعوبية والجهوية ستؤدي إلى تفتت وحدة تاريخ الأمة الإسلامية، وعرضه في شكل قراءات ضبابية مهزوزة لا تتفق مع وحدة نسيجه الأممي، وطبيعة العوامل التي كانت تحكم مسار حركته خارج إطار المسألة "التاريخانية"، أي وفق ثوابت الشرع الإسلامي، وقيم المجتمع المسلم. إلا أن الإشكالية المنهجية التي تواجه هذا المقترح أن منظِّري الأسلمة أنفسهم فشلوا في التوصل إلى نظام تحقيب جامع مانع، يمكن أن يكون بمثابة أساس مرجعي، يعينهم في تنفيذ هدفهم المنشود الذي يتبلور في إعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية من خلال قراءة جديدة للمدونات التاريخية، وعرض تحليلي للمعلومات الموثقة في هذه المدونات، وفق منهج شمولي قادر على استيعاب منجزات الأمة الإسلامية.
رابعاً: محاولة لتقويم أطروحات التفسير الإسلامي للتاريخ
بعد هذا الاستعراض المفصل لأطروحات التفسير الإسلامي للتاريخ ومرتكزاته الفكرية، يمكننا أن نضع هذه الأطروحات قيد النقد والتقويم، ونبين الإضافة المنهجية التي قدمتها لفلسفة التاريخ، ثم نستعرض الإشكالات المنهجية التي تواجهها، وكيفية إصلاحها ليستقيم الميسم ويثقف المنهج في جزئياته.
1. على المستوي العام يمكننا التصريح بأن أطروحات التفسير الإسلامي للتاريخ قد أفلحت في تفنيد بعض فرضيات المدارس الليبرالية والماركسية الغربية الخاصة بتفسير الواقعة التاريخية تفسيراً تاريخانياً بحتاً، لا يعير أي اهتمام لدور العناصر الميتافيزيقية في صياغة الحدث التاريخي البشري؛ ووفقت أيضاً في تأصيل قضية الخلق من منظور قرآني يحجب أهلية التفسير المادي القائم على أدبيات النشوء والارتقاء، وأخيراً نجحت في كشف سَوْآت التحقيب الثلاثي الأوروبي لتاريخ العالم العام، وشككت في صلاحيته لتحقيب تاريخ الأمة الإسلامية وبعض الشعوب الأخرى.
2. على المستوي التفصيلي المتعلق بقراءة تاريخ العالم العام نعتقد أن منظِّري الأسلمة لم يوفقوا في تقديم منهج متكاملٍ لقراءات مفردات أحداث التاريخ البشري الواقعة داخل منظومة الفعل الإلهي غير المباشر. وتداركاً لهذه الإخفاقات نقترح أن يُعاد تأهيل الهيكل المنهجي وفق القراءتين التاليتين. تستمد القراءة الأولى بعض مفرداتها من أدبيات مالك بن نبي، وتقترح ضرورة استبدال عناصر الفعل الإلهي غير المباشر (الله، والإنسان، والطبيعة) بمفردات منظومة مالك بن نبي القائمة على ثلاثية "عالم الأفكار"، و"عالم الأشخاص"، و"عالم الأشياء". ويُقصد بعالم الأفكار في هذا المضمار الحيز الذي يمثل الإطار الخارجي للفعل التاريخي، الذي يتكون من مجموعة من الأفكار الاستخلافية المستمدة من الذات الإلهية المطلقة عبر وسائط معينة، أو الأفكار الوضعية التي تتسم بنوع من القدسية في أوساط الأفراد والجماعات المنتمين إليها. وتظل هذه الأفكار مجرد محرك داخلي يقبع في ضمير الفرد والمجتمع. ثم بعد ذلك يتحول الفكر الخارجي المطلق إلى فعل تاريخي، تنفذه على محيط الواقع وسائط ذات قدرات نسبية تعيش في إطار عالم الأشخاص، الذي يقوم سداه ولحمته على الأفراد والجماعات البشرية. وهذه الوسائط البشرية لا تعمل منعزلة عن بعضها بعضاً، بل تباشر نشاطها في حيز عالم الأشياء الذي سخره الله سبحانه وتعالى لخدمة الإنسان، وذلك وفق علاقة متبادلة بينها وبين هذه الجزئيات المسخرة. إذاً مجموعة العلاقة الضرورية التي تنشأ بين هذه العوالم الثلاثة هي عبارة عن "شبكة علاقات اجتماعية"، كما ينعتها مالك بن نبي.
ومصطلح العلاقات الاجتماعية المقصود في هذا المقام هو مصطلح مرن، يشمل كافة أشكال العلاقات الدينية والدنيوية في أي مجتمع بشري. وعليه فإن هذا الإطار المرن سيعطي مساحة أوسع لمناقشة كل القضايا التي تطرأ على ساحات المجتمع البشري المسلم وغير المسلم. وبهذه الرؤية المتواضعة نكون قد أسهمنا في إعادة هيكلة المنظومة الثلاثية للفعل الإلهي غير المباشر (الله، والإنسان، والطبيعة)، وحل بعض الإشكالية المنهجية التي تواجه أطروحات التفسير الإسلامي للتاريخ في بعض جزئياته.
أما القراءة الثانية فتتمثل في ضرورة الاستئناس بمناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى، التي ستساعد في التثبت والتحقق من صحة المرويات والوثائق التاريخية، وتعين في تحليل مفردات الواقعة التاريخية تحليلاً منطقياً داخل إطار الهيكل العام لأطروحات التفسير الإسلامي للتاريخ. فلا نحسب أن مثل هذا الاستئناس العلمي الإيجابي سيقدح في أهلية فلسفة الأسلمة ويفرغها من محتواها الوظيفي، تعللاً بأن هذه العلوم الاجتماعية، كما ينعتها بعض منظِّري أسلمة علم التاريخ، هي علوم علمانية نشأت في أحضان الغرب، وإن التعامل معها ربما يؤثر في المرتكزات الفكرية للتفسير الإسلامي للتاريخ. فلا شك في أن هذه العلوم لها إيماءاتها العَلْمَانِيَّة ومنطلقاتها الأيديولوجية، لكن يجب أن تُحرر من هذا الإرث، قبل أن تُوظف في إطار الفلسفة الكلية للتفسير الإسلامي للتاريخ. وعلمية هذا التحرر كما يصفها إبراهيم محمد زين ب "مربط الفرس" هي المحك الأساس الذي تواجهه عملية إسلامية المعرفة بصفة عامة. ولتجاوز هذه العقدة يجب أن يفقِّه منظِّرو الأسلمة أنفسهم قليلاً بأدبيات العلوم الاجتماعية الغربية المعاصرة، دون أن يحصروا أنفسهم في معروضات سوق الحداثة البالية (المدرسة المثالية، والمادية التاريخية، والمدرسة الحضارية) التي فقدت صلاحيتها في الغرب نفسه. فمثلاً نجد أن فشل هذه المدارس قد قاد إلي ظهور عدد من المدارس التاريخية الأخرى في الغرب، أذيعها شهرة مدرسة الحوليات التي استمدت منهجها من كتابات عدد من الباحثين الذين كانوا ينشرون إصدارتهم العلمية في مجلة الحوليات الفرنسية (Annals)، ونذكر منهم لوشن فيبر (Lucien Febvre)، مارك بلوش (Marc Bloch)، وفرناند برودل (Fernand Braudel). وقد تمثلت الأفكار الرئيسة لهذه المدرسة في استبدال المنهج التاريخ الأيديولوجي بمنهج يقوم على السرد التقليدي للأحداث، وينظر إلي التاريخ البشري باعتباره انعكاساً لتجلّيات الفعل السياسي، وللربط بين هاتين الفرضيتين حاول أنصار الحوليات أن يتبنوا منهجاً بحثياً يقوم على إزالة الحواجز المنهجية بين العلوم الاجتماعية (الاقتصاد، الاجتماع، علم النفس، الأنثربولوجيا، اللغويات، ...) وأن يدعوا إلى تبني منهج شمولي تكاملي يجعل من هذه العلوم الاجتماعية علوماً مساعدة لعلم التاريخ في تحليل الوقائع التاريخية وأحداث الماضي البشري.
وفي العقدين الأخيرين من القرن العشرين حاول أنصار هذه المدرسة أن يعدلوا عن نظرتهم إلى التاريخ البشري باعتباره انعكاسات لتجلّيات الفعل السياسي ويتبنوا فرضية أخرى تقضي بأهمية التاريخ الثقافي-الاجتماعي في قراءة أحداث الماضي البشري، وبذلك حاولوا أن يتخلصوا من نقد خصومهم الذين وصفوهم بأنهم عبدة لآلة التاريخ السياسي وتاريخ التراجم والتاريخ السردي القصصي. ورغماً عن هذه الانتقادات فإننا نحسب أن أدبيات مدرسة الحوليات الفرنسية وغيرها من مدارس العلوم الاجتماعية يمكن أن توظف في إطار البنية الكلية للتفسير الإسلامي للتاريخ، وتعين في سد بعض الثغرات الموجودة في هيكل أطروحاته ومرتكزاته الفكرية.
3. على مستوى إعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية فإن النقد الذي تقدم به منظِّرو الأسلمة بشأن موثوقية المدونات التاريخية لم يكن بالأمر المستحدث، فقد سبقهم في هذا الشأن ابن خلدون صاحب المقدمة الشهيرة، لكن الشيء الذي يدعو للاستغراب هو أن الضوابط التي وضعها منظِّرو الأسلمة للتحقق من صحة المرويات الواردة في المدونات التاريخية أقصر قامة من الضوابط التي وضعها ابن خلدون. والعيب الأساس يكمن في أنهم قد حصروا أنفسهم في منهج الجرح والتعديل، دون أن يولوا اهتماماً موضوعياً للجوانب الأخرى التي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته تفصيلاً. ويبدو أن بعض منظِّري الأسلمة قد تأثروا بموقف بعض المحدثين من ابن خلدون ومقدمته التي وصفوها بأنها ترف فكري، "لا تمتاز بغير البلاغة والتلاعب بالكلام على الطريقة الجاحظية... وأن محاسنها قليلة... غير أن البلاغة تزين بزخرفها حتى يُرى حسناً ما ليس بحسن".
وفي هذا المقام لا نود الخوض في الاختلافات الفكرية بين أهل الحديث ورجال الفقه حول آليات تقويم مدونات تاريخ الأمة الإسلامية، لكن الأجدر والأجدى هو التأكيد بأن الضوابط والقواعد التي وضعها ابن خلدون قد جبَّت أدبيات منهج الجرح والتعديل بين دفتيها، وأضافت عليها ضوابط وقواعد أخرى، مثل القاعدة التي تنادي بعدم الذهول عن المقاصد التي أدت إلى وقوع الفعل التاريخي، بمعني أن يكون الراوي أو الناقل ملماً بالأسباب التي أفضت إلى وقوع الفعل التاريخي، دون أن ينقل حيثيات الفعل التاريخي مجردة من طبيعة الظروف التاريخية التي حدثت فيها، والقاعدة الرحبة الأخرى هي تلك التي تنادي بضرورة الإلمام بطبائع العمران البشري لتقييم أي حدث تاريخي، سواء كان ذلك على مستوى التثبت من صحة المصادر التاريخية أو من أجل تحليل الدور الوظيفي للحدث التاريخي وذلك في إطار الواقع الذي تشكل حوله. إذاً القراءة الفاحصة لأدبيات ابن خلدون في هذا الجانب تصلح كأساس معرفي لتثقيف أطروحات أسلمة علم التاريخ المتعلقة بقضية تقويم المدونات التاريخية.
خاتمة
من خلال هذا العرض التحليلي لأطروحات التفسير الإسلامي للتاريخ وإشكالاتها المنهجية يمكننا القول إن منظِّري أسلمة علم التاريخ يتفقون مع فلاسفة التاريخ الغربيين في ضرورة وجود تصور عامٍ مُسبقٍ لحركة التاريخ العام، تتشكل حوله رؤية المؤرخ للعلاقة الجدلية بين عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء. إلا أن نقطة الاختلاف بين المدرستين تتبلور في أن فلاسفة التاريخ الغربيين ينطلقون من تصور وضعي، فمثلاً كارل ماركس يتصور أن الصراع الجدلي بين عناصر الإنتاج سيؤدي إلى قيام مجتمع إنساني مثالي خالٍ من معوقات النظام الطبقي في مرحلة الشيوعية الكبرى، وأوغست كُونت يرى أن نهاية حركة التاريخ المثلى ستتجلى في سيادة الفكر الوضعي، وفرانسيس فوكوياما ينظر إلى نهاية التاريخ في إطار سيادة الديمقراطية الليبرالية واقتصاديات السوق الحر.
أما تصور منظِّري الأسلمة فيستمد شرعيته من مقررات ربانية مستقاة من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، لفهم طبيعة العلاقة الجدلية القائمة بين عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء. وتشكل كليات هذا التصور العام وفق قيم معرفية مستمدة من تواصل النسبي (عالم الأشخاص) مع المطلق (الله، عالم الأفكار)، وتفاعل النسبي مع المسخر (عالم الأشياء). فإن هذا التفاعل الثلاثي يؤكد أن حركة التاريخ حسب المنظور الإسلامي تستمد حيويّتَها ومعناها الحقيقي من خارج إطار النظرة التاريخانية أو النزعة التاريخية، التي تعتقد جازمةً أن التاريخ يُفسر نفسه بنفسه، ولا يحتاج لأي موجهات ميتافيزيقية صريحة أو ضمنية، أي أنه يفسر كل الظواهر المرتبطة بالتاريخ الإنساني عن طريق شروطها التاريخية. وعلى هدي هذه المقارنة العامة التي شرحنا جزئياتها أثناء نقاشنا لأطروحات التفسير الإسلامي للتاريخ في الصفحات السابقة، يجوز لنا القول بأن التفسير الإسلامي للتاريخ القائم على مقررات القرآن والسنة يقف على قاعدة صلبة، أفضل من القاعدة الوضعية التي ترتكز عليها التفاسير العلمانية الأخرى، إلا أن إشكاليته الأساسية تكمن في عجزه عن توظيف النظريات والاجتهادات الفكرية السائدة في الحضارات الأخرى توظيفاً إيجابياً مشروعاً في إطار تصوره الإسلامي العام، فلا جدال أن مثل هذا التوظيف سيُسهم في تثقيف مستوياته التفصيلية الدنيا، وفي شحذ أدواته التحليلية الخاصة بفهم الواقعة التاريخية، وربطها بشبكة العلاقة الاجتماعية التي تجمع بين عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء.
مجلة إسلامية المعرفة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.