حق الشعوب في تقرير مصيرها من أهم حقوق الإنسان الطبيعية التي أقرتها الشرائع السماوية والمواثيق الدولية، بحيث أصبح هذا الحق مبدأ مهماً من مبادئ القانون الدولي، ولكن الدول الكبرى هي التي تحدد مَن المستفيد بهذا الحق. فقد فرح البعض عندما اعتبرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1969م أن الفلسطينيين شعب، مادام حق تقرير المصير مخصصاً للشعوب، وهو من الحقوق الجماعية، مثلما فرح هؤلاء بقرار مجلس الأمن الذي أكد أن تسوية الصراع في فلسطين يقوم على حل الدولتين، مع أن الحل على دولتين أو دولة واحدة ظل يراوح مكانه ويتأرجح الحل بين الصيغتين حتى تمكنت «إسرائيل» بأن الحل هو إخراج الفلسطينيين من دائرة التسوية لكي تخلص فلسطين لها كدولة يهودية خالصة وليرحل الفلسطينيون إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن، وأظن أن هذا الجدل العقيم لا يزال يستهوي الكثير من الكتّاب الحالمين والمولعين بالرياضات العقلية. وقد تلاعبت واشنطن صاحبة الاختراع بحق تقرير المصير؛ حيث كان «د. وودرو ويلسون» الرئيس الأمريكي عام 1918م هو الذي اخترع المصطلح لكي تطبقه واشنطن على من تشاء وتنكره على من لا تريد. في البداية، كان هدف هذا الحق هو تفتيت الإمبراطورية العثمانية بإتاحة الحق للأقليات في الخروج من إسار الإمبراطورية العجوز، وفي الوقت نفسه كانت الثورة البلشفية تعيد السيطرة على مكونات الإمبراطورية الروسية برباط جديد وهو الرابطة الشيوعية، التي منحت موسكو شرعية أيديولوجية على جمع شتات الإمبراطورية بل زادت عليها، وفي عام 1939م ضمت دول البلطيق الثلاث بالقوة وأخضعتها أيضاً للحكم الشيوعي المركزي في «الكرملين». وفي فلسطين، تنكرت واشنطن لحق الفلسطينيين في أرضهم، بينما دافعت عن حق اليهود في تقرير مصيرهم على أرض أجدادهم، ودعمت الحركة الصهيونية التي بدأت تقدم نفسها منذ عدة عقود على أنها حركة تحرر وطني من الغصب الفلسطيني والبريطاني آنذاك، واعتبرت الإرهابيين في عصاباتها شهداء قضوا طلباً لحق الشعب اليهودي في تقرير مصيره، ومارست واشنطن أعلى درجات الخداع والمناورة باعترافها بأن فلسطين لشعبين، ولدولتين، بينما أخلصت العمل لإحباط تنفيذ وعودها الزائفة، وأجزلت العطاء المادي والغطاء الدبلوماسي والإعلامي والمعنوي لجرائم «إسرائيل». ويطول المقام للحديث عن المبادئ التي ردّدتها واشنطن في القضية الفلسطينية، وأهمها أن للشعبين الحق في تقرير المصير، رغم أن هذا الحق يتقرر للشعوب على أرضها، ومع ذلك سعت واشنطن إلى إنشاء الحق المطلق لليهود في فلسطين دون سواهم. وقد أيّدت واشنطن حق تقرير المصير لأكراد العراق حتى تفتت العالم العربي، وتلوّح بنفس الحق لأكراد تركيا عقاباً لها على تصديها لتجاوزات «إسرائيل»، ولا تمانع في منح هذا الحق لأكراد سورية وإيران مادام ذلك يشكل ضغطاً على الدولتين «المارقتين»، ومادام استخدام الحق أداة في الصراع من أجل رسم خريطة تخدم مصالحها كما تقررها «إسرائيل». وفي إسبانيا، اعتبرت واشنطن منظمة «إيتا» منظمة انفصالية إرهابية مجاملة للحكومة الإسبانية، بينما اعتبرت الجيش الجمهوري الأيرلندي - لأسباب خاصة - من حركات التحرر الوطني، أما في السودان، فقد دعمت التمرد في دارفور والحركة الشعبية لتحرير السودان من العرب والمسلمين، وشددت على حق كل منهما في تقرير المصير، مادامت الحركتان نشأتا على يد «إسرائيل» ومستعدتان للاعتراف بها، وهذا يحقق لواشنطن عدة أهداف، أولها توسيع رقعة المشروع الصهيوني واحتلاله لرئة مصر، حتى إذا ظهر نظام يريد استرداد مكانة مصر ومصالحها الحيوية؛ واجه الأمر الواقع المعقّد في السودان. وفي الصحراء الغربية، وبسبب الصداقة الأمريكية المغربية والمرونة المغربية الرسمية مع اليهود خاصة من مواطنيها، تميل واشنطن إلى دعم الحق الوطني المغربي في الصحراء، وهذا الموقف لا علاقة له بمبدأ تقرير المصير الذي أيّدته الأممالمتحدة، ولكنه مرتبط بعلاقات واشنطن بكل من المغرب والجزائر، ونذكر أن واشنطن قادت الحملة ضد مساعي تركيا للاعتراف باستقلال قبرص التركية الإسلامية، واستصدرت قراراً بعدم الاعتراف بالإعلان الانفرادى للاستقلال، ولم يكن ذلك بسبب المبدأ، ولكن في إطار أزمة العلاقات التركية الأمريكية في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. إن موقف واشنطن من حق تقرير المصير واستخدامه يماثل نفس الموقف من مبادئ نبيلة كثيرة، ولكن تطبيقاتها تخضع للمصلحة الأمريكية في مجالات مهمة كحقوق الإنسان والعدالة الدولية. وفي القارة الأوروبية، أيّدت واشنطن استقلال كوسوفا، وأيدت قرار محكمة العدل الدولية مشروعية الإعلان المنفرد بالاستقلال، بل أكدت أن الإقليم يمكن أن يستقل عن دولته، مؤكدة أن حق تقرير المصير يعلو على مبدأ الوحدة والسلامة الإقليمية للدولة، وهذا منطق معيب ويقلب القانون الدولي رأساً على عقب، خاصة المبادئ الحاسمة فيه، وأبرزها مبدأ بقاء الدولة وسيادتها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وإذا تكرس سوف يشكل رِدة قاسية للقانون الدولي الحديث الذي استقرت قواعده طوال القرون الخمسة الأخيرة منذ صلح «واستفاليا». لابد أن ننبّه إلى أن واشنطن تستخدم حق تقرير المصير حتى تجد أساساً قانونياً لإستراتيجية تفتيت العالم العربي وفق الخطة الصهيونية التي أبرزتها كتاباتهم، خاصة الخطة الشهيرة المنشورة عام 1982م.