5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    بنك الخرطوم يعدد مزايا التحديث الاخير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    شاهد بالفيديو.. حسناء الإعلام السوداني إسراء سليمان تبهر المتابعين بإطلالة جديدة بعد عام من الغياب والجمهور يتغزل: (ملكة جمال الإعلام وقطعة سكر)    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية المتابعين.. الصحفي إبراهيم بقال يتجول رفقة بعض أفراد الدعم السريع داخل مكاتب الولاية وهو يحمل رتبة "فريق" وينصب نفسه والي لولاية الخرطوم    الكشف عن سلامةكافة بيانات ومعلومات صندوق الإسكان    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تظهر في لقطات رومانسية مع زوجها "الخواجة" وتصف زواجها منه بالصدفة الجميلة: (أجمل صدفة وأروع منها تاني ما أظن القى)    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تظهر في لقطات رومانسية مع زوجها "الخواجة" وتصف زواجها منه بالصدفة الجميلة: (أجمل صدفة وأروع منها تاني ما أظن القى)    المريخ يوقِع عقداً مع شركة (Sport makers)    مفاوضات الجنرالين كباشي – الحلو!    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    محمد وداعة يكتب:    عالم «حافة الهاوية»    مستشفي الشرطة بدنقلا تحتفل باليوم العالمي للتمريض ونظافة الأيدي    مليشيا الدعم السريع تجتاح قرية البابنوسة شرق مدني وتقتل وتصيب 8 أشخاص    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    تعرف علي أين رسم دافنشي «الموناليزا»    عقار يلتقي وفد مبادرة أبناء البجا بالخدمة المدنية    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    كوكو يوقع رسمياً للمريخ    برقو لماذا لايعود مديراً للمنتخبات؟؟    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    باريس يسقط بثلاثية في ليلة وداع مبابي وحفل التتويج    جماهير الريال تحتفل باللقب ال 36    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    نتنياهو مستمر فى رفح .. إلا إذا...!    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    السيسي: لدينا خطة كبيرة لتطوير مساجد آل البيت    ترامب شبه المهاجرين بثعبان    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صورة شعوب القرن الإفريقي في المخيلة العربية
نشر في سودانيات يوم 04 - 08 - 2013


[b][size=4][b]
صورة شعوب القرن الإفريقي في المخيلة العربية
عبدالله الفكي البشير:
قراءة في صورة شعوب القرن الإفريقي في كتابات الرحالة والجغرافيين العرب والمسلمين وتأثيراتها الممتدة:
مدخل:
تسعى هذه الورقة إلى الوقوف على ملامح صورة شعوب منطقة القرن الإفريقي في كتابات الرحالة والجغرافيين العرب والمسلمين، في العصر الوسيط. درست الورقة ثلاثة عشر كتاباً لاثني عشر مؤلفاً، امتدت مساحتها الزمنية من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي حتى القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي.
تلتزم الورقة بالمنهج التوثيقي حيث تثبت النصوص الواردة عن شعوب القرن الإفريقي من تلك الكتب، باعتبارها المصادر الأولية، وتقف على مدى التشابه بين النصوص، عن شعوب القرن الإفريقي، في تلك الكتب. ثم تقارن بين النصوص الواردة في تلك الكتب، مع مراعاة الفارق الزمني، لتقف مجيبة على السؤال التالي: هل نقل البعض من البعض الآخر؟ وإلى مدى كان حجم النقل؟. ثم تقدم الورقة بعض التحليل والتعليقات حول النصوص، وحول خصائص التدوين، والخصائص العامة لكتابات الجغرافيين والرحالة عن المنطقة[1] وشعوبها. تؤكد الورقة بأن الرحالة والجغرافيين العرب والمسلمين رفدوا مجلد الحضارة الإنسانية، بمساهمات معرفية أصيلة وعظيمة. فقد وصفوا باكراً بلدان العالم وأقوامه، لاسيما منطقة القرن الإفريقي. مثلت كتاباتهم عن منطقة القرن الإفريقي، ولا تزال مصدراً علمياً مهماً، ولا غنى عنها في دراسة المنطقة في مختلف المجالات. اتسمت كتابة بعضهم عن المنطقة بالجدة والأصالة، بينما نسخ البعض الآخر من كتابات الآخرين. جاء الوصف والتسجيل للانطباعات والمشاهدات عند بعضهم دقيقاً وواقعياً، في حين جنح البعض الآخر إلى المبالغات والخرافات. تزعم الورقة بأن ملامح صورة شعوب المنطقة[2] في كتابات الرحالة والجغرافيين[3] تأثرت بالموروث من الأمم الأخرى كاليونانيين وغيرهم، كما تأثرت، خاصة عند الرحالة، بنزعة الإخبار والإبهار والتشويق، والإنشغال بإمتاع السامعين وإدهاشهم بالغريب من المشاهد، فأمتزج الواقعي والحقيقي بالخيال والخرافة. تزعم الورقة أيضاً، أن بعض النصوص والوصوف الواردة عن المنطقة في كتابات الرحالة والجغرافيين، تتشابه أحياناً، إلى حد التطابق. ترجح الورقة أن ملامح الصورة التي وردت في كتابات الجغرافيين عن شعوب المنطقة، رسخت في المخيلة العربية، بما فيها من سمات وخصائص ووصوف سالبة، لا يزال تأثيرها حياً وممتداً حتى اليوم. تخلص الورقة إلى أن بناء المستقبل للعلاقات بين العرب وشعوب القرن الإفريقي، على أسس التعاون والتكامل، يتطلب أول ما يتطلب مواجهة الماضي، وقراءته، قراءة جديدة. إن القراءة الجديدة للماضي وللتاريخ تشترط إِعمال النقد واستمرار البحث والتنقيب لتصحيح صورة شعوب المنطقتين في مخيلة كل منهما. ولهذا، فإن الحاجة ماسة لتأسيس المزيد من المنابر الحوارية، واستمرار الحوار النقدي الحر، والتوسع في الانفتاح بين نخب وشعوب المنطقتين. تتهيكل هذه الورقة في خمسة محاور وخاتمة هي:
المحور الأول: الرحالة والجغرافيون ومنطقة القرن الإفريقي.
المحور الثاني: دوافع الرحالة والجغرافيين لزيارة منطقة القرن الإفريقي
المحور الثالث: التشابه في كتابات الرحالة والجغرافيين عن منطقة القرن الإفريقي
النموذج الأول: الإصطخري وابن حوقل
النموذج الثاني: المقدسي والإصطخري/ ابن حوقل
النموذج الثالث: الإدريسي والحميري
النموذج الرابع: القزويني والإصطخري/ ابن حوقل
النموذج الخامس: الحميري وابن جبير
المحور الرابع: ملاحظات حول الخصائص العامة لصورة المنطقة عند الرحالة والجغرافيين
المحور الخامس: بعض ملامح صورة شعوب المنطقة في كتابات الرحالة والجغرافيين:
1. وصف الأقوام.
2. وصف النساء.
3. وصف الأماكن (المدن والقرى).
خاتمة: العرب وشعوب القرن الإفريقي: مواجهة الماضي وبناء المستقبل
الإطار الجغرافي للدراسة
إن مصطلح القرن الإفريقي الذي يُمثل الإطار المكاني لهذه الدراسة، لم يرد ذكره في كتابات الرحالة والجغرافيين؛ وإنما وردت الإشارات إلى شعوبه وديارهم وبلدانهم مثل: بلاد الحبشة، ديار البجة، وبلاد النوبة، والبجة، والزغاوة... إلخ، وإلى بعض المدن والقرى مثل: مقديشو، عيذاب، زيلع، باضع، دهلَك، قرية سمهر الحبشية، دنقلا، سوبا، علوة، وسواكن... إلخ. كما ورد ذكر ممالكهم وبعض ملوكهم مثل: ملك النوبة كابيل/ كاسل، وملك الحبشة النجاشي، ...إلخ. فمصطلح القرن الإفريقي، كما هو معلوم، مصطلح حديث، وتم نحته مؤخراً. كما أن اسم إفريقيا نفسه، كما هو معلوم أيضاً، لم يطلق على القارة بأثرها، إلا في العصر الحديث. كانت إفريقيا عند الرحالة والجغرافيين، وسماً لضاحية قرطاج[4]، فمدينة على نهر فاس[5] ثم الإقليم الممتد من برقة إلى طنجة[6]، فبلاد تونس الحالية. كانت مساحة إفريقية تزيد وتنقص وفقاً للمعطيات السياسية والإدارية في المنطقة. كان الإفريقي[7] من ينسب إلى ذلك الإقليم بغض النظر عن أصوله العرقية. وكانت الكلمة أو المصطلح الجغرافي السياسي "إفريقية" حتى عصر ابن خلدون (732ه/ 1332م- 808ه/ 1406م) وبعده، لا تعني القارة، بل ولا تعني المغرب كله[8]. ولما دوَّن الحسن بن محمد الوزان الفاسي المعروف ب "ليون الإفريقي"[9] (888ه/ 1483م- 957ه/ 1550م "تقريباً")، رحلاته التسع[10]، التي قام بها في الربع الأول من القرن السادس عشر الميلادي، في كتابه الموسوم ب: وصف إفريقيا[11]، نجد أن حدود إفريقيا عنده قد توسعت[12]، عما كانت عليه. فشملت بلاد البربر ونوميديا والصحراء الكبرى وبلاد السودان.
الشاهد، أن الإغريق والعرب كانت عندهم النظرة الاقليمية لا القارية للمعمورة هي السائدة[13]، أما في العصر الحديث، ومع ظهور الدويلات المتعاصرة والمتتابعة غربي مصر ومع التوسع الاوربي وغلبة مصطلحات الجغرافية الحديثة، أصبح اسم "إفريقيا" اصطلاحاً قارياً. واليوم اصبحت كلمة "إفريقيا" تعني القارة بأسرها. أما كلمة "إفريقي" فقد اصبحت ذات مدلولات عرقية وحضارية وسياسية[14]، غير تلك المدلولات التي كانت عليها في السابق.
ففي تعاطيهم مع إفريقيا، القارة اليوم، وشعوبها، أطلق الرحالة والجغرافيون تعبير بلاد السودان على البلاد الواقعة جنوب الصحراء الكبرى من القارة الإفريقية[15]. كما استخدموا أيضاً، اسم بلاد الحبشة وبلاد البجة وبلاد النوبة وبلاد الزنج وبلاد التبر، وكلها تقع ضمن التسمية المتزامنة لهذه التسميات، وهي بلاد السودان، التي سادت لاحقاً حتى فترة الاستعمار الأوروبي في العصر الحديث. كان الإغريق وقدماء المصريين قد سبقوا العرب في تسمية هذه المنطقة، وفقاً للون بشرتهم. فقد استعمل الاغريق كلمة إثيوبي (الأسود أو محرق الوجه) لسكان إثيوبيا القديمة وسكان مدغشقر وسكان جنوب جزيرة العرب أيضاً[16]. الشاهد، أن تعبير بلاد السودان، ظل قائماً حتى فترة الاستعمار الأوروبي. ففي حوالي عام 1870م شاع استخدام اسم السودان في المكاتبات الرسمية، فشمل كل الأقاليم الواقعة شمال البحيرات العظمى وحتى القرن الأفريقي والسواحل الصومالية[17]. يقول عثمان سيد أحمد إسماعيل البيلي (1930م- 2011م): السودان هم كل سكان إفريقيا... والإشارة أصلاً لبلاد السودان... وفي فترة الاستعمار الأوروبي كان هناك السودان الفرنسي، والسودان الإنجليزي المصري. سقطت كلمة بلاد. وبعد الاستقلال عادت بلاد السودان الفرنسي لأسمائها القديمة، بينما أبقى سودان وادي النيل اسم السودان لجمهوريتهم بعد الاستقلال[18].
الشاهد، أن مصطلح القرن الإفريقي، الذي يمثل الاطار المكاني لهذه الدراسة، يخلتف مفهومه اليوم عند الجغرافيين عن الأنثروبولوجيين وعلماء اللسانيات، كما يختلف عن مفهوم الساسة وتقسيمات السياسية الدولية. فالمصطلح لا يشكل مفهوماً أصيلاً نابعاً من التطور التاريخي والحضاري لسكان المنطقة، وإنما هو مدرك جغرافي يرتبط بالموقع على الخريطة[19]. فالموقع يتسم بأهمية إستراتيجية بالغة، إلى جانب أنه يطل على ممرات مائية حيوية: المحيط الهندي وخليج عدن والبحر الأحمر ومضيق باب المندب. هذه الأهمية الإستراتيجية جعلت منه ميداناً للمنافسة والصراع الإقليمي والدولي. الأمر الذي جعل المنطقة في حالة تشكل وإعادة تشكيل مستمر. ولهذا نجد الوحدات السياسية التي تحت مظلته في حالة توسع وتغيير. ففي حين يرى البعض أن منطقة القرن الإفريقي تضم تحت لوائها: إثيوبيا، الصومال، جيبوتي، وإرتريا، يضيف البعض الآخر السودان وكينيا، وكذلك جمهوية جنوب السودان، الدولة الوليدة في يوليو 2011م. بل في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001م، دفعت الاعتبارات الأمنية ببعض أدبيات التفكير الإستراتيجي الغربية إلى التوسع في استخدام مفهوم القرن الإفريقي ليشمل اليمن وربما بعض بلدان الخليج العربية[20]. ولا تزال المنطقة، بسبب أهميتها، وحدة الصراع والمنافسة الإقليمية والدولية حولها، تشهد محاولات لإعادة التسمية، وربما طرح بدائل لتسمية القرن الإفريقي. فقد رشح في الفضاء السياسي مفهوم القرن الإفريقي الكبير، وكذلك أطروحة الدول المتشاطئة أو المطلة على البحر الأحمر، وهناك أيضاً، أطروحة دول الإخدود الإفريقي العظيم، وهكذا.
إن المقصود بمصطلح القرن الإفريقي لغرض هذه الدراسة، هو تلك المنطقة التي تضم الدول التالية: إثيوبيا، الصومال، جيبوتي، إرتريا، والسودان. وهي دول متداخلة جغرافياً وتاريخياً، وسياسياً، وكذلك مجموعاتها السكانية. عُرف إقليمها بأسماء عديدة كما ورد سابقاً. ولم يستخدم الرحالة والجغرافيون من بين هذه الاسماء الخمسة سوى اسم السودان والحبشة، ولكنهم أشاروا، كما ورد آنفاً، إلى المنطقة وشعوبها من خلال الأقوام والأماكن.
الرحالة والجغرافيون ومنطقة القرن الإفريقي
من المعروف أن الأدب والتدوين الجغرافي العربي والإسلامي بلغ أوج تطوره في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. ففي القرون الثلاثة الأولى للإسلام، لم تكن معرفة العرب والمسلمين بأفريقية السوداء، وبالطبع منطقة القرن الإفريقي، على محدوديتها، لم تكن تلك المعرفة تعتمد على معاينات الرحالة والجغرافيين ومشاهداتهم بقدر اعتمادها على الأخبار والمرويات التي تدور على ألسنة التجار والمسافرين وسواهم من الأسرى والرقيق المجلوبين من تلك الأصقاع المترامية الأطراف[21]. تحدث عبد الرحمن حميدة عن بدايات ظهور الجغرافية عند العرب قائلاً:
فبينما كان لدى العرب بعض مؤرخي عصورهم Historiographers ، لم نجد لديهم أي مؤلف انصرف لوصف مشهد الأرض الطبيعي. وكان علينا أن ننتظر حتى مطلع القرن الثالث الهجري، كي نجد لدى بعض التأريخيين Chroniqueurs كالواقدي مثلاً (.... -208ه/823م) بعض أوصاف جزيرة العرب وهي أولى المحاولات الأدبية المطبقة على وصف العالم. وهكذا ظهرت الجغرافيا في بداياتها، عند العرب مثلما ظهرت عند القدامى، شديدة الارتباط بالتاريخ وأحياناً تابعاً له[22].
لم يستخدم العرب والمسلمون حتى القرن السادس عشر تعبير جغرافية. فقد استخدموا مصطلحات عديدة منها: علم الأطوال والعروض، علم تقويم البلدان، علم المسالك والممالك، وعلم عجائب البلدان[23]. ارتبط الأدب الجغرافي عند العرب والمسلمين في المشرق والمغرب، بنمط كتب المسالك والممالك. كان ابن خُردَاذَبَة قد دشَّن هذا النمط بكتاب عنوانه: كتاب المسالك والممالك، وهو العنوان الذي اعتمده الكثيرون فيما بعد. وقد ظهر هذا النمط في كتاب البلدان لليعقوبي، قبل نهاية القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي[24]. ثم ظهر الوزير أحمد بن سهل البلخي (236ه/850م- 322ه/ 934م) صاحب كتاب: صورة الأقاليم، أشكال البلاد، أو تقويم الأرض[25]. ثم جاء الإصطخري وألف كتاباً عن العالم الإسلامي والأقطار المتاخمة عنوانه: المسالك والممالك، استند فيه على كتاب البلخي. ثم ظهر ابن حوقل ب كتاب صورة الأرض. أشار ابن حوقل إلى أنه التقى أبا إسحاق الفارسي الاصطخري، الذي طلب منه اصلاح كتابه: المسالك والممالك، قائلاً: (ولقيت أبا إسحاق الفارسي... وقال: قد نظرتُ في مولدك وأثرك، وأنا أسألك إصلاح كتابي هذا حيث ضللت فأصلحتُ منه غير شكل وعزوتُه إليه، ثم رأيت أن أنفرد بهذا الكتاب وإصلاحه وتصويره أجمعه وإيضاحه...)[26]. يرى البعض بأن ابن حوقل انتحل كتاب الإصطخري[27]. وفي الربع الأخير من القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي ظهر المقدسي بكتاب: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، الذي اعتبره عبدالرحمن حمودة نموذجاً لنمط المسالك والممالك[28]. وهكذا استمر ظهور الكتب ومن ثم ظهرت المعاجم الجغرافية واللغوية مثل: معجم ياقوت الحموي (575ه/ 1179م- 627ه/ 1227م) معجم البلدان، ولاحقاً ظهرت الموسوعات التاريخية والجغرافية مثل صبح الأعشى للقلشقندي (...- 821ه/ 1418م) وغيرها. كما كان هناك المؤرخون مثل اليعقوبي (وهو جغرافي أيضاً) والطبري وغيرهما. وكانت كذلك كتب الرحلات مثل: سفر نامه، لناصر خسرو، ورحلة ابن جبير، التي عرفت ب رحلة ابن جبير، ورحلة ابن بطوطه، المسماة ب: تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار وغيرها. وتختلف "كتب الرحلة" عن كتب المسالك بأنها قد دوِّنت على شكل "مذكرات يومية" أو ما يقارب ذلك في الالتزام بالتدوين اليومي[29].
الشاهد أن جل مؤلفات الرحالة والجغرافيين، تضمنت إفادات ووصف وإشارات، متفاوتة في حجمها ونوعها وزمانها، عن شعوب منطقة القرن الإفريقي وبلدانها. فالمنطقة تقع مجاورة للجزيرة العربية، وتربط بين المنطقتين روابط وصلات منذ فجر التاريخ. إذ تشير الدراسات التاريخية الجيولوجية إلى أن الجزيرة العربية كانت ملتصقة أرضاً بإفريقيا. وأن التكوين الجيولوجي في "حقبة البلايستوسين" حَدث التصدع الأفريقي الذي أحدثه الأخدود وأدى إلى تكوين البحر الأحمر وخليج عدن[30]. وبعد ذلك (ولصغر حجم الفاصل البحري... كانت السواحل المواجهة لليمن بشرق إفريقيا تعيش بيئة عربية واحدة ما بين القرنين العاشر والسابع قبل الميلاد. ومع نشاط الطريق البحري للتجارة منذ القرن الثاني قبل الميلاد... بدأت الهجرات وتصاعدت ما بين 3000 إلى 1500 ق. م.، ...، وفي القرنين السابقين للميلاد عَبْر الحميريون وبعض الحضارمة البحر الأحمر واستقروا في الحبشة وتوغل بعضهم حتى بلاد النوبة وصاهروا قبائل البجة)[31]. ومع ظهور الإسلام زادت تلك الهجرات، وسلك العرب المسلمون إلى القارة الأفريقية نفس الطرق التي سار عليها أجدادهم من قبل، من أجل التجارة أو الهجرة[32]. فمن الخليج العربي عن طريق مضيق باب المندب، وكل طرق البحر الأحمر إلى الحبشة وأعالي النيل الأزرق وأرتيريا وسودان وادي النيل (السودان الشرقي)،... وعبر المحيط الهندي إلى الساحل الشرقي لإفريقيا، ومن ثم إلى وسطها[33]. لقد أوجد الإسلام أبعاداً جديدة لدوافع الهجرة والاستقرار، وقدم لها المبرر الديني والغطاء السياسي، فضلاً عن أن الإسلام زاد لاحقاً، من الهجرات العكسية بسبب التوجّه إلى الأراضي المقدسة لآداء فريضة الحج والعمرة[34]. وقد لعبت موانىء منطقة القرن الإفريقي دوراً عظيماً في عبور الحجاج من وإلى الأراضي المقدسة. عبَر ضمن هؤلاء ممن وصلتنا كتاباتهم، من الذين سجلوا ملاحظاتهم ودونوا مشاهداتهم، وكان فيهم المؤرخ والجغرافي والتاجر والسائح والفقيه وعالم الدين والشاعر وموظف البلاط والديوان، وبعضهم يجمع أكثر من صفة من بين هذه الأوصاف.
تتناول هذه الدراسة مجموعة من مؤلفات الرحالة والجغرافيين، وقفت على شهاداتهم وإشاراتهم وملاحظاتهم التي سجلوها عن منطقة القرن الإفريقي. وتشمل المجموعة التي تناولتها هذه الدراسة، قائمة الكتب أدناه، وفقاً لتسلسلها الزمني:
كتاب البلدان، لليعقوبي[35](حوالي[36] 225ه/839م- 294ه/907م).
تاريخ اليعقوبي، لليعقوبي.
كتاب المسالك والممالك، لابن خُردَاذَبَة[37] (...- 272ه/ 885م).
أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، للمقدسي[38] (336ه/ 947م- 380ه/ 990م).
المسالك والممالك، للإصطخري[39] (... 340ه/ 951م).
كتاب صورة الأرض، ابن حوقل[40] (... 367ه/ 977م).
أخبار النوبة والمقرة وعلوة والبجة والنيل، لعبدالله بن أحمد بن سليم الأسواني[41] (...-386ه/ 996م). ضمن المقريزي (...-386ه/ 996م)، المواعظ والاعتبار.
سفر نامه، لناصر خسرو[42] (394ه/ 1003م- 481ه/ 1088م).
نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، للإدريسي[43] (493ه/ 1100- 560ه/ 1166م).
رحلة ابن جبير، ابن جبير[44] (539ه/ 1144م-614ه/1217م).
آثار البلاد وأخبار العباد، للقزويني[45] (600ه/ 1203م- 682ه/ 1283م).
الروض المعطار في خبر الأقطار، لمحمد بن عبد المنعم الحميري[46] (...-27ه/1336م)
تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، ابن بطوطة[47](704م/1304م-779ه/1377م)
تتضمن هذه المجموعة مؤرخين، وجوابي آفاق، وجغرافيين من مؤلفي الكتب على نمط كتب المسالك والممالك، ومنهم واضعو المعاجم الجغرافية. ومنهم الرحالة الذين زاروا المنطقة، وسجلوا مشاهداتهم ووصفوا البلدان والأقوام وحيواتهم. غطت كتاباتهم الفترة من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي حتى القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي.
دوافع الرحالة والجغرافيين لزيارة منطقة القرن الإفريقي
عدَّد الدكتور عبدالرحمن حميدة[48]، ثلاثة عشر سبباً من الأسباب التي دعت العرب والمسلمين وحثتهم إلى جوب الأرض والترحال فيها. كانت الأسباب، كما أشار، أكثر تعقيداً وتنوعاً من تلك التي حملت الأمم القديمة كالفنيقين واليونان والروم على التوسع في معرفة الأرض والتنقل في البلدان بقصد التجارة والاستيلاء على البلاد والسياحة في الأمصار. وفصل عبدالرحمن حميدة هذه الأسباب في نحو عشرين صفحة من كتابه آنف الذكر. والأسباب هي بدون تفصيل: الدين الإسلامي الذي حث على السير في الأرض، وأقوال العرب المأثورة التي تحث أيضاً، على السفر، والعوامل السياسية حيث الفتح والاستيلاء على الممالك في إفريقيا وآسيا وأوروبا. ثم التجارة وكسب العيش التي سلك الناس فيها الطرق البرية والبحرية، والسياحة وميل العرب الغريزي للبحث والاطلاع. وكذلك الحج إلى بيت الله الحرام، وهو فرض من فروض الإسلام الخمسة لمن استطاع إليه سبيلا، والاستكشاف وحب الاطلاع لمعرفة الأرض، لاسيما البعثات التي أرسلت لاكتشاف السواحل والبحار. طلب العلم الذي يحث الإسلام عليه، إذ رحل الناس من أجل العلم من الأندلس إلى بخاري ومن بغداد إلى قرطبة، وهكذا. وأيضاً، الرغبة في معرفة الطرق والمسالك وتقدير الأبعاد بالفراسخ والأميال للتخطيط للأسفار البعيدة والرحلات النائية، وكذلك الرغبة في معرفة مدهشات العجائب ومكنونات الغرائب. إلى جانب معرفة ما جاء ذكره في القرآن وكتب الحديث وأشعار العرب وأخبارهم، من الأماكن والجبال والمياه والقفار والرمال والبلاد...إلخ، وكذلك المعرفة الفقهية فيما يتعلق بأحكام الجزية والخراج والفىء. وكذلك تخفيف الدين الإسلامي على المسافرين فيما يتعلق بالصوم والصلاة مما سهل الرحلات وشجع على القيام بها.
كان من أشهر الرحالة والجغرافيين الذين، ربما، زاروا منطقة القرن الإفريقي: ابن خرداذبه، والإصطخري، وابن حوقل، وابن سليم الأسواني، وناصر خسرو، والإدريسي، وابن جبير، وابن بطوطه. كان منهم العرب والفرس، وكان بعضهم من المشرق، وبعضهم الآخر من المغرب والأندلس. ويرى البعض أن الرحالة المغاربة كان لهم الفضل الأكبر في كشف مجاهل تلك المنطقة ومناطق بلاد السودان الأخرى. أرجع البعض إهتمام الرحالة المغاربة ببلاد السودان، وتقع ضمنها بالطبع منطقة القرن الإفريقي، إلى الأسباب الآتية[49]:
1. لأنهم أقرب إلى أواسط إفريقية من المشارقة.
2. ولأن علماء الدين والفقهاء المالكية من المغاربة كانوا ينزلون تلك البلاد لنشر الدين والمذهب.
3. ولأن التجارة متصلة بين الشمال الإفريقي ووسطه.
أشار الدكتور نقولا زيَادَة في كتابه: الجغرافية والرحلات عند العرب، إلى أن رحلات المغاربة إلى المشرق كانت، على العموم، أكثر من رحلة المشارقة إلى المغرب. فمركز الحج في المشرق، ومدن العالم الأولى فيه، فكان من الطبيعي أن يزور المغاربة الشرق أكثر من زيارة المشارقة لبلادهم[50]. ويرى المؤرخ السوداني يوسف فضل حسن أن الجزء الشمالي من سودان وادي النيل، خاصة بلاد النوبة وديار البجة، كان يدور في فلك الدولة الإسلامية اقتصادياً وسياسياً وذا علاقة خاصة بمصر. وكانت مصر مركز تجمع مهم للحجيج الوافد من الأندلس وبلاد المغرب، وبلاد السودان وسودان وادي النيل، وقد سلك هؤلاء الحجاج طريق عيذاب الذي يمر بسودان وادي النيل والذي ازدهر مع انتعاش مصر الاقتصادي والعلمي، ولظروف المجاعات وسنوات الشدة التي أدت إلى خراب طريق سيناء، هذا اضافة لاستشراء الخطر الصليبي عبر ذلك الطريق[51].
الشاهد أن الرحالة زاروا بعض نواحي المنطقة، وسجلوا ملاحظاتهم، ودونوا مشاهداتهم. كانت دوافعهم لزيارة المنطقة مختلفة، أهمها الدافع الديني حيث قصد الأراضي المقدسة. وهناك دوافع تعود إلى السياحة والرغبة في الاكتشاف كما هو الحال في رحلات ابن جبير وابن بطوطة. وهناك رحلات تمت لدوافع أخرى كما هو الحال بالنسبة لرحلة ابن سليم الأسواني، الذي أرسله القائد الفاطمي جوهر الصقلي إلى قيرقي ملك المقرة في نحو 365ه/ 975م ليدعوه إلى الدخول في الإسلام، ويطلب منه أن يفي النوبيون ما عليهم من متأخرات البقط، الذي توقف الالتزام به منذ عهد الأخشيديين[52]. وربما انطبق سبب رحلة ابن سليم الأسواني على رحلة ابن حوقل.
ومن المهم الإشارة، إلى أن الرحالة والجغرافيين لم يغطوا في زياراتهم وكتاباتهم كل منطقة القرن الإفريقي؛ وإنما زاروا بعضها، مع تفاوت فيما بينهم، وكتبوا عن بعض نواحيها، مع تفاوت أيضاً، في حجم كتاباتهم عنها، كما هو حالهم مع أقاليم المعمورة الأخرى، لا سيما "بلاد السودان". ومن المهم الإشارة أيضاً، إلى الفواصل الزمنية في زيارتهم لها أو كتابتهم عنها. فالمنطقة في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي لم تكن كما كانت في الرابع الهجري/ العاشر الميلادي أو ما بعده.
تشابه كتابات الرحالة والجغرافيين عن منطقة القرن الإفريقي
أشار العديد من العلماء والباحثين إلى التشابه بين كتب الرحالة والجغرافيين العرب والمسلمين. يقول عبدالرحمن حميدة[53]: إننا نجد المؤلفات المنتسبة لزمرة المسالك والممالك حاوية على شبه كبير فيما بينها. فهي تتشابه في طريقة العرض... وفي طريقة معالجة التاريخ والمعلومات حوله... وتتماثل هذه المؤلفات أيضاً في الثغرات التي نجدها فيها، خاصة تلك الناتجة من نقص معارف مؤلفيها عن بعض الأقطار، إذ نجدهم يجمعون معلوماتهم عن تلك الأقطار من المسافرين وبعض الرحالة. فقد لاحظت أن التشابه بين هذه الكتب فيما ورد عن منطقة القرن الإفريقي، تشابه كبير وكثير وواضح جداً. لقد رصدت بعض نماذج التشابه لدى الرحالة والجغرافيين فيما يتعلق بوصف منطقة القرن الإفريقي. لقد وجدت بعض النصوص تتطابق تماماً، ليس في الفقرات وإنما في الصفحات أحياناً. ويبدو لي أن بعضهم نسخ كتابة البعض الآخر، ربما صفحات وربما فصلاً من كتاب أو أكثر من الفصل. هذا إلى جانب النقل للمعلومات والوصوف في حدود الجمل، والفقرات، وهذا كثير جداً. ويمكن الوقوف على هذا التشابه من خلال النماذج التالية:
النموذج الأول: الإصطخري وابن حوقل:
أوضح ما يكون التشابه في كتاب ابن حوقل مقارنة بكتاب الإصطخري، وقد أوردت آنفاً، بأن البعض يرى أن ابن حوقل قد انتحل كتاب الإصطخري. لقد وقفت على التماثل بين الكتابين، فيما ورد عن منطقة القرن الإفريقي. فوجدت التشابه يكاد يكون متطابقاً تماماً. مع ملاحظة أن ابن حوقل كان يتحدث بتوسع أحياناً. ففي حديثيهما عن بادية البجة ووصفها، يقول الإصطخري[54]:
وإذا أخذت من القلزم غربي هذا البحر، فإنه ينتهي إلى برية قفرة، لا شيء فيها إلا أن يتصل ببادية البجة، والبجة قوم أصحاب أخبية شعر، أشد سوادا من الحبشة في زي العرب، لا قرى لهم ولا مدن ولا زرع، إلا ما ينقل لهم من مدن الحبشة واليمن ومصر والنوبة، وينتهي حدهم إلى ما بين الحبشة وأرض النوبة وأرض مصر، وينتهي إلى معادن الذهب، ويأخذ هذا المعدن من قرب أسوان مصر على نحو من عشر مراحل، حتى ينتهي إلى حصن على البحر يسمى عيذاب،... .
ويقول ابن حوقل[55]:
وإذا أخذت من القلزم غربي هذا البحر، فإنه ينتهي إلى برية قفرة، لا شيء فيها إلا ما قدمت ذكره من الجزائر والبجة في أعراض تلك البرية، وهم أصحاب أخبية شعرٍ وألوانهم أشد سوادا من الحبشة في زي العرب لا قرى لهم ولا مدن ولا زرع، إلا ما ينقل إليهم من مدن الحبشة واليمن ومصر والنوبة. وينتهي في حدهم إلى ما بين الحبشة وأرض مصر وأرض النوبة معدن الزمرد والذهب، ويأخذ هذا المعدن من قرب أسوان على أرض مصر نحو عشر مراحل، حتى ينتهي على البحر إلى حصن يسمى عيذاب،... .
وكذلك في حديثيهما عن ديانات البجة، وألوانهم، وتصنيف ديارهم بالنسبة ل "دار الإسلام"، نجد التماثل بين النصوص واضحاً يقول الإصطخري:
البجة قوم يعبدون الأصنام وما استحسنوه، ثم يتصل ذلك بأرض الحبشة وهم نصارى، وتقرب ألوانهم من ألوان العرب بين السواد والبياض، وهم متفرقون في ساحل هذا البحر إلى أن يحاذي عدن، وما كان من النمور والجلود الملمعة وأكثر جلود اليمن "التي تدبغ للنعال" تقع منها إلى عدوة اليمن، وهم أهل سلم ليسوا بدار حرب، ولهم على الشط موضع يقال له زيلع،...[56].
ويقول ابن حوقل:
البجة أمة تعبد الأصنام بهذه الناحية وما استحسنوه...وتتصل بلادهم ببلاد النوبة والحبشة وهم نصارى، وتقرب ألوانهم من ألوان العرب بين السواد والبياض، وهم متفرقون مجتمعون إلى أن يحاذوا عدن، وما كان من جلود النمور والجلود البقرية الملمعة، وأكثر جلود اليمن التي تدبغ للنعال فيقع من ناحيتهم إلى عدن وعدوة اليمن. والجميع أهل سلم وليست دارهم بدار حرب، وعلى شط البحر بنواحيهم منهلٌ يقال له زيلع...[57].
نجد كذلك هناك تشابه بينهما، فيما يتعلق بالإشارة إلى مصادر المعلومات والروايات السماعية أثناء جمع الأخبار، كما أن الاختلاف في نصينهما طفيف: يقول الإصطخري عن ما سمعه: (وبلغني أن في بعض أطراف الزنج صرودا فيها زنج بيض، وبلد الزنج هذا بلد قشف قليل العمارة وقليل الزروع، إلا ما اتصل بها من مستقر الملك)[58]. بينما يقول ابن حوقل: (وقد ذكر قوم أن في أطراف الزنج صرودا فيها زنج بيض، وقد قدمت أن بلدهم قشف قليل العمارة قشف تافه الزرع، إلا ما اتصل منه بمستقر الملك)[59].
وهكذا الحال بين ابن حوقل والإصطخري، تكاد النصوص تتطابق. ومعلوم أن التشابه والتماثل في الكتب الأخرى يوجد ولكن بشكل أقل.
النموذج الثاني: المقدسي والإصطخري/ ابن حوقل:
من نماذج التشابه في المعلومات، التشابه بين المقدسي والإصطخري، وكذلك ابن حوقل. من المعروف أن ثلاثتهم تعاصروا، حيث عاشوا في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. ويصعب تحديد من هو الناقل، هل نقل المقدسي من أحد الاثنين؟، أم العكس هو الصحيح. الشاهد أن التشابه ورد في نصوص عديدة بين ثلاثتهم، ولم يكن حرفياً كما هو الحال في بعض النماذج التي ورد ذكرها آنفاً. ومن بين نماذج التشابه، مثلاً حديث ثلاثتهم عن أرض (بلدان) السودان، يقول الإصطخري:
(وبلدان السودان بلدان عريضة إلا أنها قفرة قشفة جدا، ولهم في جبال لهم عامة ما يكون في بلاد الإسلام من الفواكه، إلا أنهم لا يطعمونه، ولهم أطعمة يتغذون بها من فواكه ونبات، وغير ذلك مما لا يعرف في بلدان الإسلام...)[60].
ويقول المقدسي:
(أما أرض السودان فإنها تتاخم هذا الإقليم ومصر من قبل الجنوب وهي بلدان مقفرة واسعة شاقة، وهم أجناس كثيرة، وفي جبالهم عامة ما يكون في جبال المسلمين من الفواكه، غير أن أكثرهم لا يذوقونه ولهم فواكه أخر وأغذية وأطعمة وحشائش لا توجد عندنا...)[61].
أيضاً، من نماذج التشابه بينهم، حديث ثلاثتهم عن التمساح، وكيف أن السلاح لا يعمل إلا تحت ابطيه.
يقول الإصطخري: (وفي هذا النهر يكون التمساح... لا يعمل السلاح فيه إلا تحت يديه ورجليه ومكان إبط) [62].
ويقول المقدسي: (وفي النيل دابة تسمى التمساح...لا يعمل فيه السلاح الا تحت ابطيه)[63]. وقال بذلك ابن حوقل كما وردت الإشارة آنفاً.
النموذج الثالث: الإدريسي والحميري:
من نماذج التشابه الواردة عن منطقة القرن الإفريقي، التشابه بين الحميري والإدريسي[64]. وهو تشابه يصل في بعض النصوص إلى حد التطابق. وفي الغالب أن الحميري نقل عن الإدريسي[65]، لأن الإدريسي سابق له. ومن الملاحظات المهمة أن الحميري نقد الإدريسي بشدة، ومع ذلك نقل منه. ففي حديثيهما عن النوبة ووصف جمال نسائهم، يكاد النص يكون متطابقاً.
تحدث الحميري عن مدينة نوابية، وعن نساء النوبة ووصف جمالهن قائلاً:
إليها ينسب النوبة وبها عرفوا، وهي مدينة صغيرة وأهلها مياسير، ولباسهم الجلود المدبوغة وأزر الصوف ومنها إلى النيل أربعة أيام، وشرب أهلها من الآبار، وطعامهم الذرة والشعير، ويجلب إليهم التمر، والألبان عندهم كثيرة، وفي نسائهم جمال فائق ولهن أعراق طيبة ليست من أعراق السودان في شيء. وجميع بلاد النوبة في نسائهم جمال وكمال وشفاههم رقاق وأفواههم صغار ومباسمهم بيض وشعورهم سبطة، وليس في جميع السودان والزنوج والحبشة والبجاة وغيرهم من شعور نسائهم كشعور نساء النوبة فإنها سبطة مرسلة، ولا أحسن للجماع منهن ويبلغ ثمن الجارية منهن ثلثمائة دينار، ولهذه الخلال التي فيهن يرغب فيهن ملوك مصر، فيتنافسون في أثمانهن ويتخذونهن أمهات أولاد لحسنهن وطيب مباضعتهن[66].
وتحدث الإدريسي عن مدينة نوابة، وعن نساء النوبة ووصف جمالهن قائلاً:
وإليها تنسب النوبة وبها عرفوا وهي مدينة صغيرة وأهلها مياسير ولباسهم الجلود المدبوغة وأزر الصوف ومنها إلى النيل أربعة أيام وشرب أهلها من الآبار وطعامهم الذرة والشعير ويجلب إليهم التمر والألبان عندهم كثيرة وفي نسائهم جمال فائق وهن مختتنات ولهن أعراق طيبة ليست من أعراق السودان في شيء وجميع بلاد أرض النوبة في نسائهم الجمال وكمال المحاسن وشفاههم رقاق وأفواههم صغار ومباسمهم بيض وشعورهم سبطة وليس في جميع أرض السودان من المقازرة ولا من الغانيين ولا من الكانميين ولا من البجاة ولا من الحبشة والزنج قبيل شعور نسائهم سبطة مرسلة إلا من كان منهن من نساء النوبة ولا أحسن أيضاً للجماع منهن وإن الجارية ، منهن ليبلغ ثمنها ثلاث مائة دينار وأقل من ذلك ولهذه الخلال التي فيهن يرغب ملوك أرض مصر فيهن ويتنافسون في أثمانهن ويتخذونهن أمهات أولاد لطيب متعتهن ونفاسة حسنهن[67].
النموذج الرابع: القزويني والإصطخري/ ابن حوقل:
في الغالب أن القزويني نقل من الإصطخري أو ربما ابن حوقل، فهو لاحق لهما. فقد عاش القزويني في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي. لقد رصدت التشابه في نصوص كثيره بين القزويني والاثنين. وهو تشابه في الفكرة الأساسية أما النصوص فهي في الغالب مختلفة. أي أن التشابه في الفكرة وليس في الصياغة. يقول الإصطخري: (ويقال إن عيذاب ليست من أرض البجة، وإنما هي من مدن الحبشة)[68]. بينما وصف القزويني أهل عيذاب: (...أهلها صنف من الحبش، ...)[69]. هذا مع ملاحظة أن العدد الأكبر من الجغرافيين والرحالة تحدث عن أهل عيذاب بأنهم من البجة.
النموذج الخامس: الحميري وابن جبير:
ومن نماذج التطابق شبه الحرفي أيضاً، ذلك ما نجده بكثرة، عند الحميري مع ابن جبير، وفي الغالب أن الحميري[70] نقل من ابن جبير، لأن ابن جبير سابق للحميري، وليس هناك أدنى شك في زيارة ابن جبير لمنطقة القرن الإفريقي. والأمثلة التي رصدتها في تماثل النصوص وتطابقها بين الاثنين كثيرة.
ومن نماذج التشابه بينهما، ما ورد بشأن أهل عيذاب عندهما:
يقول ابن جبير:
(ولأهل عيذاب في الحجاج أحكام الطواغيت وذلك انهم يشحنون بهم الجلاب حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج المملوءة، يحمل أهلها على ذلك الحرص والرغبة في الكراء حتى يستوفي صاحب الجلبة منهم ثمنها في طريق واحدة ولا يبالي بما يصنع البحر بها بعد ذلك، ويقولون: علينا بالألواح، وعلى الحجاج بالأرواح... والأولى بمن يمكنه ذلك أن لا يراها وأن يكون طريقه على الشام العراق،...)[71].
ويقول الحميري:
(ولأهل عيذاب في الحجاج ظلم الطواغيت فإنهم يشحنون مراكبهم حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج، يحمل أهلها على ذلك الحرص والرغبة في الكراء حتى يستوفي صاحب المركب حقه في طريق واحد، ولا يبالي بما يصنع البحر بهم ويقولون: علينا بالألواح وعلى الحجاج بالأرواح، وهذا مثل متعارف عندهم. قالوا: والأولى لمن يمكنه ألا يراها، وأن يكون طريقه على الشام إلى العراق...)[72].
الشاهد أن هذه النماذج تكشف العديد من النتائج. من أهمها أن التشابه في كتابات الرحالة والجغرافيين، جرى حسب انتماءاتهم الإقليمية. فالتشابه عند الرحالة والجغرافيين المغاربة فيما بينهم، كما هو الحال بالنسبة للرحالة والجغرافيين المشارقة. فالتشابه كان بين الحميري وابن جبير، وكذلك بين الإدريسي والحميري وجميعهم من المغاربة ومن الأندلس. أما التشابه بين المشارقة فقد تجلى في ما بين المقدسي والإصطخري وابن حوقل. ولما كان بعض الوصف والتسجيل للمشاهدات عند ممن نُقل عنهم، يجنح نحو الخيال والخرافة والشطح والتشويق، شاعت بعض تلك الوصوف، وأصبحت تمثل بعضاً من ملامح صورة شعوب المنطقة.
ومن الملاحظات المهمة أيضاً، أن كتب الرحالة والجغرافيون اتسمت بسمة تكاد تكون من بين القواسم المشتركة بينهم، هذه السمة هي التكرار وكثرته. تكرار المعلومات وتكرار الوصف. فهذه السمة واضحة جداً في معظم كتاباتهم.
ملاحظات حول الخصائص العامة لصورة القرن الإفريقي عند الرحالة والجغرافيين
خضعت ملامح منطقة القرن الإفريقي ووصوفها، التي وردت في كتابات الرحالة والجغرافيين العرب، لبعض العوامل والخصائص العامة التي اتسمت بها كتابات الرحالة والجغرافيين. وربما كانت هذه العوامل والخصائص مشتركه في تعاطي الرحالة والجغرافيين مع المناطق الأخرى من أقاليم الأرض. ولابد من التأكيد هنا، أن هذا الأمر لا يقرأ بمعزل عن سياقه التاريخي، والمناخ المعرفي العام. ومن بين هذه العوامل والخصائص التي اتسمت بها كتابات الرحالة والجغرافيين عن منطقة القرن الإفريقي:
أولاً: منطقة "الآخر" والإشارات للوجود العربي والإسلامي فيها
مثلت منطقة القرن الإفريقي، "الآخر"، بالنسبة للرحالة والجعرافيين، فوسموا أهل المنطقة بالأعاجم والمجوس والنصارى، وأحياناً بعابدي الأوثان، والمشركين، واللا دينيين. مع ملاحظة أن الأقوام والمجموعات التي ورد الحديث عنها في كتابات الرحالة والجغرافيين، هم سكان المنطقة الأصليين، فحتى ذلك الوقت لم يكن هناك وجوداً عربياً مكثفاً في المنطقة. فالمجىء العربي المكثف جاء لاحقاً. ففي وصفهم للبجة قال الإصطخري وكذلك ابن حوقل، كما ورد آنفاً، أن البجة (قوم يعبدون الأصنام وما استحسنوه، ثم يتصل ذلك بأرض الحبشة وهم نصارى،...). كما وصف ناصر خسرو البجة قائلاً: (...وهم قوم لا دين لهم ولا ملة لا يؤمنون بنبي أو إمام...)[73]. ويقول الإدريسي: (وبين أرض النوبة وأرض البجة قوم رحالة يقال لمم البليون ولهم صرامة وعزم وكل من حولهم من الأمم يهادنونهم ويخافون ضرهم وهم نصارى خوارج على مذهب اليعقوبية وكذلك جميع أهل بلاد النوبة والحبشة وأكثر أهل البجة نصارى خوارج على مذهب اليعاقبة)[74]. وتحدث القزويني عن بلاد النوبة قائلاً: (هي بلاد واسعة، وأهلها أمة عظيمة نصارى بعامتهم،...)[75]. الشاهد أن الرحالة والجغرافيين تعاطوا مع شعوب المنطقة على أساس أنهم آخر بالنسبة للعرب والإسلام، على الرغم من أن بعضهم شبه شعوب المنطقة بالعرب، وشبه بعض نواحي المنطقة باليمن في الجزيرة العربية. مثلاً تحدث القزويني في وصفه لمدينة دنقلة، وبلاد النوبة قائلاً: (وبلادهم أشبه شيء باليمن،...)[76]. وشبه الإصطخري البجة بالعرب قائلاً: (والبجة ...، أشد سواداً من الحبشة في زي العرب، ... وتقرب ألوانهم من ألوان العرب بين السواد والبياض،...)[77]. واستخدم ابن حوقل الوصف نفسه في نص متطابق تماماً[78]. وأشار بعضهم للوجود العربي في المنطقة، يقول ابن حوقل: (... حتى ينتهي على البحر إلى حصن يسمّى عُيّذاب، وبه مَجْمَع لربيعة تجتمع إليه يُعرف بالعَلاَّقِيَ...)[79]. وفي موقع آخر من كتابه تحدث ابن حوقل قائلاً: (ثم يتصل السيف الي سواكن، وهي ثلاث جزائر يسكنها تجار الفرس وقوم من ربيعة ويدعي فيها الصاحب المغرب، وهي محاذيه لجدة...)[80].
أيضاً، أشار بعضهم لوجود الإسلام والمسلمين في المنطقة، يقول ابن حوقل: (والنهر المعروف بالدُجْن ياتي من بلاد الحبشة... وإلى وسط هذا الوادي تفلين قريً أيضاً للبادية منهم ينتجعونها للمراعي حين المطر. ولهم ملك مسلم يتكلم بالعربية من قِبَل صاحب علوة، ويختص أهل تفلين بالإبل والبقر ولا زرع لهم. فيهم مسلمون كثيرون من غير ناحية على دينهم يتجرون ويسافرون إلى مكة وغيرها) [81]. وفي وصفه لمدينة عيذاب أشار ناصر خسرو لمسجد الجمعة قائلاً: (ومدينة عيذاب هذه تقع على شاطئ البحر وبها مسجد جمعة...)[82]. ثم أضاف قائلاً: (والناس هناك مسلمون... وحينما رآني الناس طلبوا إلي إن أكون خطيبهم فلم أردهم وخطبت لهم تلك المدة حتى أتى الموسم ثم سارت السفينة شمالاً إلى إن بلغنا جدة...)[83]. وكانت المدة التي قضاها ناصر خسرو في عيذاب هي ثلاثة أشهر. وأشار كذلك ابن بطوطة لذلك المسجد وقال أنه ينسب للقسطلاني[84]. وفي وصف جزيرة دهلَك يقول الحميري مشيراً إلى هجرة أصحاب النبي (ص) لسواحلها وتحدث عن مساجدها قائلاً: (جزيرة بينها وبين بلاد الحبشة نصف يوم في البحر، وطول هذه الجزيرة مسيرة يومين، وحواليها ثلثمائة جزيرة معمورة أهلها مسلمون، وإذا أتت الحبشة لمناجزتهم صعدوا جبلاً عالياً يقابل جزيرة دهلَك وأوقدوا فيه ناراً فيخرج المسلمون إليهم في السفن، وإلى ساحل جزيرة دهلَك هاجر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، وفي هذه الجزيرة مساجد جامعة وأحكام عادلة، وقد ولي القضاء فيها بعد الأربعمائة محمد بن يونس، مالكي من أهل الأندلس)[85]. ويشير كذلك القزويني إلى المسلمين في الحبشة، وأنهم قليل، يقول القزويني عن بلاد الحبشة: (هي أرض واسعة ...، وأكثر أهلها نصارى يعاقبة، والمسلمون بها قليل...) [86]. وتحدث الحميري عن جزيرة باضع وأهلها قائلاً: (... إلى جزيرة باضع، وهي أيضاً في ساحل البجاة والحبشة وأهلها مسلمون)[87]. وتحدث ابن بطوطة عن طائفة من العرب تعرف ب "دغيم"، وأشار إلى قبر ولي الله أبي الحسن الشاذلي في حميثرا، قائلاً: (ثم جزنا النيل من مدينة أدفو إلى مدينة العطواني، ومنها اكترينا الجمال. وسافرنا من طائفة من العرب تعرف بدغيم بالغين المعجمة في صحراء لا عمارة بها إلا أنها آمنة السيل. وفي بعض منازلها نزلنا حميثرا حيث قبر ولي الله أبي الحسن الشاذلي،...)[88]. كما أشار ابن بطوطة إلى معرفة سلطان مقديشو للغة العربية قائلاً: (وسلطان مقديشو...، إنما يقولون له الشيخ، واسمه أبو بكر ابن الشيخ عمر. وهو في الأصل من البرابرة، وكلامه بالمقدشي، ويعرف اللسان العربي)[89].
الشاهد أن الرحالة والجغرافيين تعاطوا مع شعوب منطقة القرن الإفريقي على أنهم آخر، برغم احتفائهم بالوجود العربي والإسلامي فيها. وعلى الرغم من أن النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وضع بعض المرتكزات لتعاطي المسلمين مع الحبشة والنوبة، وجاء ذلك في أحاديث أوردها بعض هؤلاء الرحالة والجغرافيين العرب والمسلمين في كتاباتهم. مثلاً قال اليعقوبي: (ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه أصحابه من الجهد والعذاب وما هو فيه من الأمن بمنع أبي طالب عمه إياه قال لهم: ارحلوا مهاجرين إلى أرض الحبشة إلى النجاشي فإنه يحسن الجوار... وأقام المسلمون بأرض الحبشة حتى ولد لهم الأولاد. وجميع أولاد جعفر ولدوا بأرض الحبشة ولم يزالوا بها في أمن وسلامة. واسم النجاشي أصحمة...)[90]. وأورد القزويني عن بلاد النوبة قائلاً: (هي بلاد واسعة، وأهلها أمة عظيمة نصارى بعامتهم، ولهم ملك اسمه كابيل يزعمون أنه من نسل حمير؛ قال صلى الله عليه وسلم: "خير سبيكم النوبة". وقال أيضاً: "من لم يكن له أخ فليتخذ أخاً نوبياً")[91]. ووردت مثل هذه الإشارات عند الكثيرين منهم. على الرغم من ذلك، فإننا لا نلمح أن هؤلاء الرحالة والجغرافيين، وبعضهم علماء دين وفقهاء، أخذوا في كتاباتهم عن شعوب القرن الإفريقي بهذه الأحاديث كسنة نبوية.
من المعروف أن هناك العديد من المشاريع البحثية التي تسعى لدراسة رؤيا العرب والمسلمين في القرون الوسطى للآخر[92].
ثانياً: الوصوف الموروثة "شرار الناس" و"سباع الإنس":
إن ملامح صورة شعوب القرن الإفريقي التي وردت في كتابات الرحالة والجغرافيين العرب والمسلمين، بعضها لم يكن نتاج زيارة للمنطقة؛ وإنما كانت موروثه، وكانت نتاج التأثر ببعض المعتقدات عند الأمم الأخري. ومعلوم أن الرحالة العرب والمسلمين قد تفوقوا على الأمم الأخرى في مجال الجغرافية، لا سيما الرومان لأنهم دخلوا إفريقيا والصين وغيرها، كما أنهم صححوا الكثير من الأخطاء الجغرافية[93]. فقد أشار الدكتور عبدالرحمن حميدة في ملاحظاته حول نقد الأدب الجغرافي عن العرب (عن كراتشكوفسكي)، إلى أن العيب الأساسي للأدب الجغرافي العربي هو في خضوعه للنظريات العلمية الموروثة عن الأوائل وسيرهم على غرار اليونان[94]. من ملامح ذلك نقل الرحالة والجغرافيون العرب والمسلمون لبعض معتقدات الأمم الأخرى. سواد لون الشعوب، وأكل لحوم البشر، ومنابع النيل في القمر...إلخ. ونلمس تأثير جالينوس عند الإدريسي دون الإشارة إليه، يقول الإدريسي: (وأما أهل الصحارى من الزنج والحبشة والنوبة وسائر السودان الذين سبق ذكرهم فلِقِلة الرطوبة البحرية وتوالي إحراق الشمس لهم وممرها عليهم دائماً تفلفلت شعورهم واسودت ألوانهم وأنتنت أعراقهم وتقشفت جلود أقدامهم وتشوهت خلقهم وقلت معارفهم وفسدت أذهانهم فهم في نهاية الجهالة واقعون وإليها ينسبون وقلما أبصر منهم عالم أو نبيل وإنما يكتسب ملوكهم السياسة والعدل بالتعليم من أقوام يصلون إليهم من أهل الإقليم الرابع[95] أو الثالث[96] ممن قرأ السير وأخبار الملوك وقصصها)[97]. والأمر أكثر وضوحاً عند القزويني، إذ أنه أشار لجالينوس في حديثه عن بلاد الزنج ووصف أهلها، يقول القزويني عن بلاد الزنج: (شمالها اليمن وجنوبها الفيافي، وشرقها النوبة وغربها الحبشة،...[98] ومدينة مقديشو: مدينة في أول بلاد الزنج، ...[99]. ثم أضاف في وصف الزنج قائلاً: (زعم الحكماء أنهم شرار الناس ولهذا يقال لهم سباع الإنس. قال جالينوس: الزنج خصصوا بأمور عشرة: سواد اللون وفلفلة الشعر وفطس الأنف وغلظ الشفة وتشقق اليد والكعب، ونتن الرائحة وكثرة الطرب وقلة العقل وأكل بعضهم بعضاً، فإنهم في حروبهم يأكلون لحم العدو، ومن ظفر بعدو له أكله. وأكثرهم عراة لا لباس لهم،...)[100]. وهنا تبرز القصة الشائعة، قصة أكل لحوم البشر، فهي مورثة من الأمم الأخرى وقد أخذ بها بعض هؤلاء الرحالة والجغرافيون. وتحدث ابن بطوطة كثيراً عن أكلة لحوم البشر، مشيراً إلى مصادر معلوماته عن أكل لحوم البشر بقوله "ذكر لي عنهم" و "أخبرني" وهكذا. ومن الأمثلة على ما أورده ابن بطوطة، حديثه عن أكلة لحوم البشر، وإشارته إلى أن الكف والثدى من أطيب لحم البشر. يقول ابن بطوطة:
قدمت على السلطان منسى سليمان جماعة من هؤلاء السودان الذين يأكلون بني آدم، معهم أمير لهم. وعادتهم أن يجعلوا في آذانهم أقراطاً كباراً، وتكون فتحة القرط منها نصف شبر، ويلتحفون في ملاحف الحرير. وفي بلادهم يكون معدن الذهب. فأكرمهم السلطان وأعطاهم في الضيافة خادمة، فذبحوها وأكلوها، ولطخوا وجوههم وأيديهم بدمها، وأتوا السلطان شاكرين. وأخبرت أن عادتهم متى ما وفدوا عليه أن يفعلوا ذلك. وذكر لي عنهم أنهم يقولون إن أطيب ما في لحوم الآدميات الكف والثدي[101].
وأشار ابن بطوطة من بين إشاراته العديدة لأكلة لحوم بني آدم، قائلاً بأنهم لا يأكلون من كان لونه أبيض، وحكى قصة تعبر عن ذلك المعنى، قائلاً: أن رجلاً تم نفيه إلى بلاد الكفار الذين يأكلون بني آدم، فأقام عندهم أربع سنين، ثم رده إلى بلده. وإنما لم يأكله الكفار لبياضه، لأنهم يقولون: (إن أكل الأبيض مضر، لأنه لم ينضج. والأسود هو النضج بزعمهم أيضاً)[102].
يظهر التأثر بنظريات الأمم الأخرى، في ما ورد عند بعض الرحالة والجغرافيين حول منبع نهر النيل، إذ تأثروا بنظرية بطليموس ال


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.