وقعت تحت يديَّ خلال هذا الشهر، ديسمبر 2011، رواية من نوع أدب المذكرات للصومالية واريس ديري "Waris Dirie "، والتي ذاع صيتها كعارضة أزياء، وناشطة في قضايا المرأة في الصومال، وفي محاربة العادات والتقاليد الضارة، كالخفاض وامتهان كرامة البنات. فجر الصحراء "Desert Dawn"، هذا هو عنوان الكتاب أو الرواية موضوع حديثي هذا، وأنا هنا أتحدث عن نسختها الإنجليزية، وهي اللغة التي كتبت بها في 226 صفحة من القطع الصغير. وهي ككثير من كتب السيرة الذاتية تمت صياغتها بواسطة كاتب آخر غير شخص الراوي، إذ يبدو أن واريس روت الرواية شفاهةً على الكاتبة "جين دهايم"، التي يظهر اسمها على غلاف الكتاب جنباً إلى جنب مع اسم واريس ديري، وأتوقع أن تكون جين على دراية كذلك بالثقافة الصومالية. وأود أن أشير إلى أن ما أكتبه هنا ليس ترجمة ولا دراسة نقدية لهذا العمل، فالترجمة والنقد لهما أدواتهما وأساليبهما، والتي بأي حال لا أدعي شرف الإحاطة بهما. المباشرة والبساطة الرواية على الرغم من بساطتها ومباشرتها إلا أنها شدتني بشكل ما، ويمكن أن يكون مردُّ ذلك يرجع إلى الخلفية الثقافية المتشابهة بين السوداني المنحدر من شرق السودان، وبين الصومالي أو الأريتري أو الأثيوبي، وهي تحكي عن جوانب وتفاصيل شبه خاصة ومشتركة بين البادية في الصومال والبادية في السودان. والبدوي في ظني يعيش بيئته بطريقته الخاصة أينما وُجِد، يخاطب تفاصيلها، يرعى ماشيتها وغزلانها، يتتبع حركة السحاب والنجوم، ويقتفي أثر السيول والوديان والآبار ومنابع المياه، وأماكن العشب، فيعبر حدود الدول من دون أن يكون في حاجة لخريطة أو جواز سفر، وتلك حرية وبراح لا حدود لهما، كما تغنى في ذات المعنى فناننا المتفرِّد، مصطفى سيد أحمد، من كلمات حافظ عباس: "والله نحن مع الطيور الما بتعرف ليها خرطة ولا في إيدها جواز سفر نمشي في كل المدائن نبني عشنا بالغناوي وننثر الأفراح درر" السماء أكثر رحابة بذاكرة ثرية، تحكي واريس لواعج الشوق والحنين لمراتع الصبا، والحنين إلى الديار، وحضن العشيرة. وترسم صورة إنسانية متكاملة بقدر استطاعتها لوطن حملته في جوانحها في كل مكان، مما جعلها تعتقد أن دموع أهلها كانت أكثر ملوحةً، وأن السماء في باديتها كانت أكثر اتساعاً من السماء في نيويورك. لم تنسها الشهرة وأضواء الكاميرات وبريق مكاتب الأممالمتحدة، لم تنس أنها ذات يوم كانت تلك الفتاة الفقيرة التي كانت ترعى الماعز وتحلب اللبن، وتلعب بالعيدان والصخور لتصنع ماعزاً وإبلاً، وتبني أكواخاً من الرمال. لم تنس واريس المشلعيب وهز اللبن الرايب والحليب، والنوم تحت النجوم، وصمت الصحراء في سكون الليل، كانت تصوِّر حنينها لبلدها الذي يئن تحت حرب القبائل والتطرف والمجاعات. وللجوع صوتٌ عالٍ في حكايتها، ربما كانت تستصرخُ به الضمير العالمي ليلتفت إلى الصومال وإلى الإنسان المقهور هناك، فكانت كتابتها بالإنجليزية عن سبق إصرار وترصد للقارئ الأوروبي أو الأميركي أو الغربي على وجه الخصوص. الصخور المدببة والأشواك تشعرك واريس بوخذ الألم في رجليك حين تحكي عن الصخور المدببة والأشواك التي كانت تنغرس في قدميها الحافيتين وهي بعد طفلةٌ صغيرة ترعى الماعز، أو تجمع الحطب والأغصان اليابسة لصنع حظائر وزرائب للماشية. أو حين كانت تسير أياماً ولمسافات ساشعة تحت هجير الشمس، إذ لم تكن عائلتها تمكث في مكان واحد أكثر من ثلاثة أو أربعة أسابيع، لتتحرك بعد أن ترعى الحيوانات العشب الموجود لتبحث لها عن مرعىً آخر، وهم يسيرون راجلين وحفاة، وللحذاء أيضاً حضور قوي في حكاية واريس في "فجر الصحراء"، حيث نجدها تتحدث عنه باشتهاء يشبه الغزل. وتعطينا شحنة روحية عالية حين تحدثنا عن قومها وهم يعيشون الفاقة ويكثرون من ذكر الله وشكره على ما أسبغه عليهم من نعم. فتحكي عن أمها التي تؤمن بالله بكل جوارحها، ولا تقدم على فعل شيء دون أن تذكر الله، فلا تحلب الماعز من دون ذكر الله، ولا تأكل أو تشرب إلا وتذكر الله، وتحمده عند الشبع، وعند نزول المطر. تعلم أن الموت والحياة بيد الله، كل من مات فقد مات لأن الله أراد له ذلك ولأن أيامه قد انقضت، ويعتقدون أن في الجنة شجرة للحياة ولكل إنسان ورقة فإن ذبلت مات. الأم هي الوطن عاشت واريس سنين كثيرة تحلم بأمها، بكت كثيراً وهي في أرقى مستشفيات نيويورك ولا شك عندما أنجبت طفلها، وذلك لأن أمها لم تره، كم حلمت ومن قبل أن يولد لها طفل أن ترضعه من صدرها، كما رأت أمها ونساء الصومال يفعلن، تريده أن يكون قريباً منها، لا تريد أن تحمله على عربة الأطفال، كما تصر جدته لأبيه، وإنما تريد أن تربطه على ظهرها كما تفعل النساء في بلدها لتسمع أنفاسه وذلك أكثر حميميةً. لا تريد أن تستعمل الحفاظات لأن النساء في الصومال لا يفعلن ذلك، فالأمهات قريبات جداً من أطفالهن ويعرفن متى يكون الطفل بحاجة لقضاء حاجته. ألا يذكرك ذلك بهذه الأبيات لشاعرنا الكبير، محجوب شريف، أو ربما تذكرك بشيء آخر لم تسعفن ذاكرتي أو حصيلتي من إيراده: عارف حنانك لي... راجلا تلوليني دايماً تقيليني وفي العين تشيليني ألقاهو عز الليل... قلبك يدفيني ضلك علي مشرور... قيلت في سنيني أنا لو تعرفي الفيني أنا كم بحبك كم" عالم أكثر قسوة تريد لابنها أن يحيى حياة الصومالي الحقيقي كما ينبغي للصومالي أن يكون، لا كما تكون الحياة في نيويورك باردة ومملوءة بالوحشة والوحدة، تحن إلى حميمية عائلتها فتحكي أنه على الرغم من قسوة والدها، وقسوة الحياة في الصومال لكن عالم الغرب يظل أكثر قسوةً، وأن صفعة الأب كانت أكثر دفئاً من الليالي الباردة والموحشة في الغرب. وتحكي بثراء عن الترابط الأسري في باديتها، وتقول إن علاقات الأقارب والانتماء للقبيلة مثل الماء والحليب لإنسان البادية، وأنه إذا أراد أحد أن يدعو عليك بالشر فسيقول لك "إن شاء الله تلعب الجديان أو الغزلان في بيتك"، مما يعني أن بيتك صار خالياً من ساكنيه وموحشاً تسرح فيه الحيوانات والغزلان. والبدويُّ حميميٌّ حتى في طريقة أكله، فالناس في قبيلتها لا يستعملون الملاحق ولا يأكلون بشمالهم وحين يدنون من الطعام يذكرون اسم الله، ويجعلون للأكل طقوساً مكللة بالاحترام باعتبار أنه نعمة من الله ولا يصح أن يأكل الإنسان وهو يمشي ولا يعرفون الوجبات السريعة. العائلة والصحراء والصومال وتظل عائلتها والصحراء والصومال، وأمها بشكل خاص، لا يفارقون خيالها، وتتذكر وهي وحيدة داخل شقتها الفاخرة في نيويورك كيف أنها عندما كانت طفلة في صحراء الصومال كانوا ينامون خارج أكواخهم تحت النجوم، وذلك عندما يكون الجو حاراً، لأن الأكواخ لا توجد بها نوافذ، وأن النسيم في الخارج يكون لطيفاً بعد مغيب الشمس وظهور النجوم، وتتحسر وتتمنى (قدلة يا مولاي حافي حالق)، تتمنى أن تنام ولو مرة واحدة باستغراق تحت السماء والنجوم وبقليل من الأغطية البسيطة لتتقي لسعات البعوض. كانت تمني نفسها برؤية أمها بأي ثمن، ولكن في كل مرة كانت تهم بالسفر أو تتحدث عنه لمن حولها تأتيها التحذيرات من كل من التقتهم بأنه من الجنون التفكير في السفر إلى الصومال. كانوا يؤكدون لها على الدوام أن التقارير الإخبارية مفزعة عن الوضع الأمني في الصومال، وأن سلطان الدولة معدوم، والسلاح منتشر أكثر من أي شيء، والمرض والجوع يتهدد الجميع. وعلاوة على ذلك، فهي أصلاً لا تعرف أين يقيم أهلها، وهل لا يزالون أحياء أم أنهم ماتوا، فقد انقطعت أخبارهم عنها كل هذه السنين المليئة بالموت وأخباره. صوت من أمستردام وظلت على الرغم من ذلك تحلم بأهلها في يقظتها ومنامها، إلى أن أتاها صوت أخيها في ذاك الفجر وهو يتحدث من أمستردام التي وصل إليها لاجئاً، فتخبر أخاها على الفور برغبتها في زيارة أهلها وأنها تريد أن ترى أمها. وحين أبدى أخوها قليلاً من الموافقة لم تترد كثيراً ولم يثنها الخوف على حياتها من المخاطرة من أجل أن ترى أمها، فحزمت أمرها وتكفلت بنفقات سفرهما معاً. وفي غضون أيام قلائل، طارت إليه في هولندا ومن هناك إلى البحرين، فأبوظبي لتمكث ثلاثة أيام في مطار أبوظبي التي لم تسمح لها سلطات مطارها بدخول البلاد لأنها لا تملك تأشيرة الدخول، وتظل مرابضة بالمطار في انتظار طائرة تأخذهما إلى الصومال. وبعدها تابعت بسرد ممتع طريقاً صعباً وطويلاً، ومحفوفاً بالأهوال والمخاطر، حيث استقلا سيارة أجرة لتنطلق تنهب بهم الصحراء مخلفة وراءها الغبار والأسئلة، وبعد قرابة العشرين ساعة بالسيارة تبلغ في جنح الظلام ما قيل لها إنه قرية، وأن أمها موجودة هناك في أحد الأكواخ. كان الوقت ليلاً والظلام دامساً، والموت والخطر أقرب من حبل الوريد، ولكنها سارت مدفوعة بالحنين حتى بلغت حضن أمها، وارتمت عليها، راكعةَ هناك في ذلك السكون تمطر أمها بالقبلات ودموع الفرح، ودموع الشوق تعبث بروحها المفعمة بتلك اللحظة وجلالها. لزوجة الدموع وطعمها تحسسنا واريس بلزوجة الدموع وطعمها حين تصوِّر لنا كيف أنها وضعت خدها على خد أمها لتشعرها بدموعها وأنفاسها، والأم مشدوهة كأنها في حلم وتسأل من أنت؟ وتجيبها أنا ابنتك واريس وتشدها الأم إليها بقوة كأنها تلتقط طفلاً لتنقذه في اللحظة الأخيرة من السقوط. إنها لحظات مشحونة بالعواطف بحق، وتقول إنها لم تنم مرتاحة البال مطلقاً كما نامت تلك الليلة. تقول أحسست بحرية كبيرة حين كنت أتدحرج وأنا نائمةٌ على خرق بالية، أو حين أرفس من غير أن أخاف أن أكسر شيئاً، ففي نيويورك كانت كثيراً ما تقضي الليالي يقظة أو قلقةً على شيء ما، وتصحو على صوت المنبه، ولكن في الصحراء تشعر بأن مخاوفك تتسرب كما تتسرب المياه في الأراضي الجافة، ولا حاجة للساعة ولا المنبه، ففي البادية تأوي إلى فراشك عندما تطفئ الشمس مصابيحها، وتستيقظ عند الشروق، ويمكنك أن تعرف بالتقريب كم من الوقت بقي لغروب الشمس حسب طول الظلال. الالتصاق بالأهل قضت واريس عطلتها هذه والتي امتدت لقرابة عشرة أيام، والتي رافقها فيها أخوها محمد القادم من أمستردام، قضتها مستمتعة بكل تفاصيلها، كانت ملتصقة طول هذه المدة بأهلها، نامت معهم على الأرض، وهي تشعر بسعادة غامرة وراحة نفسية لم تشعر بها طيلة عشرين عاماً قضتها في أكثر مدن العالم رفاهية وتقدماً، لم تتأفف وهي تشرب وتأكل معهم في ظل تلك الظروف الصحية الصعبة، والتي تنعدم فيها أبسط مقومات الحياة. وبتصوير بليغ ومؤثر عشنا معها ليلة وداع أهلها وهي الليلة التي سبقت سفرها، لقد كانت لحظات مشوبةً بالعاطفة وخاصة لحظة وداعها لوالدها، الذي لم ير وجهها أبداً لأنه في الوقت الذي عادت فيه للصومال كان قد أجرى عملية بدائية لإحدى عينيه بواسطة رجل مجهول في البادية، حيث فتح عينه بسكين بدائي وضمّدها له بنفس الكيفية، أما عينه الأخرى فقد كانت قد فقدت القدرة على الإبصار منذ وقت طويل. وكانت واريس تبكي وفي داخلها تتفاعل مشاعر وأسئلة شتى عن متى ستعود؟ وهل والدها سيكون على قيد الحياة؟ وهل سيبصر مرة أخرى ليرى وجهها الذي لم يشاهده منذ أكثر من عقدين؟ وكتعويض عن ذلك أخذت يده وراحت تمررها على وجهها، بينما هو يتحسس الوجه بخجل، كما قالت. وبحركة طفولية تطلب واريس من والدتها أن ترافقها إلى نيويورك، وهي تعلم أن ذلك غير ممكن، وأمها تقول ما الذي يجعلني أسافر لتلك البلاد، مع من أحكي وأنا لا أجيد اللغة، أهلي وعنزاتي هنا، وهي تؤمن بأن الله أوجدها على هذه الأرض لتعيش وتموت عليها، لا تريد أن تكون "كنخلة أخذتها السيول والوديان بعيداً عن منبتها". هل من عودة لمراتع الصبا، هل؟ [email protected]