راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    حقائق كاشفة عن السلوك الإيراني!    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقدمة كتاب " الخندق " للأستاذ فتحي الضو
نشر في سودانيات يوم 13 - 03 - 2012

__________________________________________________________
___________________________________________________________
[b]توطئة
اُدخُلوها بسلامٍ آمنين!
يقول المفكر الفرنسي الذائع الصيت، غوستاف لوبون (1841- 1931) في أحد مؤلفاته الرائعة والمتميزة:1 «إن رجالات الدولة الكبار في كل العصور، وفي كل البلدان بما فيها الأكثر استبداداً، قد اعتبروا الخيال الشعبي بمثابة أكبر داعم لسلطتهم، فهم لم يحاولوا أبداً أن يحكُّموا ضده». ثم ضرب لوبون مثلاً باستعراض حديث نابليون بونابرت في مجلس الدولة الفرنسي، عقب انتصاراته الباهرة في شتى بقاع العالم: «لم استطع إنهاء حرب الفاندي، إلاَّ بعد أن تظاهرت بأنني كاثوليكي حقيقي. ولم استطع الاستقرار في مصر، إلاَّ بعد أن تظاهرتُ بأنني مسلم تقي. وعندما تظاهرتُ بأنني بابوي متطرِّف، استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا. ولو أتيح لي أن أحكم شعباً من اليهود، لأعدت من جديد معبد سليمان»... ومن المفارقات، إن قوماً جاءوا من بعده، لم يكتفوا بفعل الشيء نفسه في التظاهرPretence ، بل الأنكى وأمرْ إنهم قاموا بتسييس الدين وتديين السياسة بصورة سافرة، أسقطت كل بواعث الحياء والقيم الأخلاقيَّة النبيلة. ولم يكن ثمة هدف يُذكرُ من وراء ذلك، سوى الإمساك بتلابيب السلطة حتى لا ينازعنهم فيها أحد. أي استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.. وهم الخاسرون!
سيُدركُ القرَّاء الكرام حال الفراغ من قراءة هذا السِّفْر، إن هدفنا ابتداءً فضح هيبة مصطنعة وقوة زائفة. ولم يتطلب الأمر شيئاً سوى هز منسأة سليمان التي يستند عليها النظام. فالمادة التي بين أيديكم تتضمَّن وقائع مثيرة، وقد انطوت على وثائق خطيرة. شئنا أن تكون دليلاً دامغاً في فضح الأجندة الباطنيَّة للدولة السلطويَّة التي قامت بتأسيسها العُصبة الحاكمة في السُّودان منذ العام 1989، أي عقب الانقلاب العسكري الذي أجهض النظام البرلماني المنتخب. وفي إطار الحيثيات التي بات يعرفها القاصي والداني، كانت الغرابة سيِّدة الموقف آنذاك، والتي تمثلت في أن تنظيم الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة، الذي خرج الانقلاب من عباءته، كان مشاركاً في ذات النظام الموءود، وذلك ضمن منظومة ما سُمِّي ب"حكومة الوفاق الوطني“ (1987- 1988)، فبغضِّ النظر عن الدوافع السياسيَّة، فإن المشاركة المذكورة لم تعصمه أخلاقياً من تدبير الانقلاب بمكيدة لا يقوى على صنعها إلاَّ الذين بلغوا شأواً عظيماً في المُكر والدَّهاء. وحتى الآن لم يستطع أي من دهاقنة التنظيم أن يأتي بتبرير، لا نقول أخلاقياً بل منطقياً، ونتأمَّل العكس فيما ذهب إليه الدكتور حسن التُرابي في ندوة أقيمت بجامعة الخرطوم يوم 31/12/2003 حيث قال: «إن الحركة الإسلاميَّة لا تستطيع الوصول للحكم عبر الديمقراطيَّة، لأن الاتجاه العالمي كان لا يقبل الإسلام في الحكم»،2 وهو التبرير الذي لم يستنكف الآخرون تكراره كلما سُئلوا أو لم يسألوا عن ذات الأسباب!
بالرغم من كل ذلك، لم يكن عصياً على السودانيين المُغرَمين بالحديث في شئون وشجون السياسة، أن يكتشفوا منذ الوهلة الأولى بحصافتهم الفطريَّة المعهودة، أن العُصبة التي جلست على سُدة الحكم، اتَّخذت الدين الإسلامي غطاءً لتمرير أجندتها السياسيَّة. ليس هذا فحسب، بل جعلته وسيلة لتبرير أفعالها الإجرامية. علماً بأن التجاوُزات التي ابتغوا تبريرها، ليست عن حُرمة دم البعوض، أو حكم من تبوَّل واقفاً، وإنما عن فظائع بلغت حد القتل والبطش والتنكيل والتعذيب وقطع الأرزاق. ولم يكن ذلك نهجاً عشوائياً، وإنما منهج وأسلوب حياة، أسَّسوا له في المسيرة القاصدة بما اصطلح على تسميته ب"فقه الضرورة“، وهو المصطلح الذي دخل القاموس السياسي والأيديولوجي للنظام عنوةً. ولم يكن ذلك تغوُّلاً على المذهب الشيعي كما يتراءى لبعض العارفين، وإنما كان استدعاءً ابتزازياً لسدنة المذهب القابعين في مدينة "قُم“، وعندما تمَّ لهم ما أرادوا يومذاك، أنتجت
1 سايكلوجية الجماهير - دار الساقي - ترجمة هاشم صالح.
2 صحيفة الشرق الأوسط 2/1/2004.
العلاقة حلفاً عقيماً، مضى وهناً على وهن، لأن الخادع والمخدوع يعلمان تماماً أنه محض خواء، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى!
تستند مادة هذا الكتاب على ساقَيِّ الفساد والاستبداد. وبالرغم من أنهما أصبحتا لا تحتاجان لدليل أو برهان، إلا أنه درءً لأية شبهات ودحضاً لأي توجُّسات، سوف نعضِّدهما بوثائق هامة، ومصدر الأهميَّة يكمُنُ في أنها خرجت من دهاليز النظام وغُرفه المغلقة. وبالطبع سوف يثور سؤالٌ يتوخى البحث عن إجابة للكيفيَّة التي اجتازت بها هذه الوثائق الليل والأستار حتى وصلت مرابعنا، لا سيَّما، وأنها من لدُن نظامٍ ظلَّ الأمن هاجسه الأساسي، وفي سبيل هذا الهدف صرف من أجله بلايين الدولارات لدعم سلطات النظام وتثبيت أركانه! الإجابة ببساطة تقول: صحيحٌ أن هذا النظام بنهجه الديكتاتوري البغيض استبقى أسراره في بُروجٍ مشيَّدة، لكن العرب العاربة تقول في إحدى حكمها الخالدة "مِن مأمنه يُؤتى الحذر“، وعليه يمكن القول إن هذه الوثائق وجدت طريقها إلينا وهي تتهادى تيهاً وخيلاء. ولأن حاملها هو ابن سرحتها - أي العُصبة - الموصوف بالوفاء والإخلاص والتجرُّد، نَحْسَبُ أن ذلك يمكن أن يُعقِّد اجتهادات العُصبة الحاكمة، ويزيد من دوائر دهشتها إن قيَّض الله لها معرفته. وسواءٌ نجحت العُصبة في مسعاها أو أخفقت في طموحها، يمكن القول إن أهمية هذه الوثائق لا تنحصر في كونها تُعَدُّ اقتحاماً جريئاً لحصون منيعة، ولكن في مضمونها الذي سيزلزل الأرض تحت أقدامها. بل لربما عجَّل برحيل دولة الظلم وإن طالت سلامتها. فهي بكل المقاييس تُعَدُّ الأحلك ظلمة، والأسوأ غُمَّة في حياة السودانيين، فلم يجنوا منها شيئاً، سوى الجهل والمرض، ونقص في الأنفس والثمرات!
بغضِّ النظر عن رأينا الذي يحتمل الخطأ والصواب بقدرٍ سواء، فإن المصدر المذكور من الذين قيل عنهم إنهم تربوا في عرصات الحركة الإسلاميَّة، وتدرَّجوا في مراقيها ينظر للقمَّة دون أن يطمح لبلوغها. وإن وصفوه بالإخلاص والوفاء فهو مثله مثل أبناء عُصبته، يمكنه أن يُشنف آذانك بادِّعاء التجرُّد ويردِّد على مسامعك أهزوجة "هي لله، لا للسلطة ولا للجاه“ في الوقت الذي يكون فيه قد أنشب فيها أظافره كالمنيَّة. ويمكنه أن يمعن في الزُهد بقوله "لا لدنيا قد عملنا“ وهو من أخذ نصيبه منها مثني وثلاث ورُباع. ولا تستعجب إن زايد عليك بالدين وزاد بالوطنية وقال لك: "نحن للدين فداء“... أما أنتم يا أعزائي القرَّاء، فمن قبل أن تنداح عليكم أمواج الدهشة وتُغرقكم في لُججها، ما عليكم سوى أن تستصحبوا الشعارات البراقة التي ردَّدتها هذه العُصبة، افتراءً على الله سبحانه وتعالى، وازدراءً لعباده من السودانيين الصابرين على المكاره. أما الذي نحن بصدده، فهو الدليل الساطع والبرهان القاطع الذي يؤكد ذلك ويكشف ادِّعاءات الزُهد والتديُّن والتجرُّد والوطنية، حتى ندرك بالفعل إنها محض زعيق وصريخ وذرُّ رمادٍ في العيون!
طالما أنه لا يُضيرُ الشاة ذبحها بعد سلخها، حريٌ بنا القول: إن المصدر، أو إن شئت فقُل المصادر التي سرَّبت لنا هذه الوثائق، بأيدٍ راعشة وقلوب واجفة.. "هم“ من أبناء الحركة الإسلاموية، بل إن شئت فقل "هو“ من الذين تربوا في كنفها، وترقوا في مدارجها كما ذكرنا آنفاً. وواقع الأمر فأنا مثلك يا عزيزي القارئ، لم أعرف ليلي من ضُحاي حينما طالعتُ تلك الوثائق للمرَّة الأولى، إذ ساورتني ذات الشكوك التي ساورت سيِّدنا إبراهيم من قبل، أثناء رحلته المثيرة من الكُفر إلى الإيمان. ولأننا نحن معشر السودانيين معروفين بِقلّة الحيلة ونفاد الصبر حينما يتعلق الأمر بصيدٍ ثمينٍ، حسبته بادئ الأمر فرداً ولكن من خلال ركام الوثائق - كماً ونوعاً - أيقنتُ أنه ربما ليس وحده. وأدركتُ أن ثمة عُصبة صغيرة تقف من خلفه، وقد اتخذتُ من قصة أبناء سيِّدنا يعقوب نموذجاً في التآمُر، أقول قولي هذا برغم نفيه الذي أردفه بقسم غموس. ولكن رُبَّ متوجس يُذر على مسامعنا قول الله تبارك وتعالى في محكم تنزيله: {هل في ذلك قسم لذي حجر} (سورة الفجر) وقد يتساءل مثلما تساءل غيره خلق كثير: منذ متى بربك برَّت العُصبة بقسمٍ ذاع بين الناس أو حتى خفي سره.. بدءً بالانقلاب على الشرعية الدستورية، ومروراً بهويته المزيفة، وانتهاءً بالقوات الأجنبية التي ناءت بكلكلها على صدر الوطن؟
سواءٌ هذا أو ذاك، أجد نفسي ملزماً بإيراد حوار قصير بيني وبين المصدر الذي أصبح في فم المدفع، حدث ذلك بعد فترة استوثق فيها من قولي له: إن أخلاقي المهنيَّة تحتم عليَّ ألا أفصح عن مصدري حتى لو وُضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي. كان ذلك في بداية عهده في الاتصال والتواصُل حينما وعدني مؤكداً إنه سيبرَّني بمعلومات تعينني في رسالتي الوطنية، على حدِّ تعبيره. وعندما قلت له: لماذا؟ قال إن ذلك لسببين، الأول: إعجابه بما نكتب، والثاني "تأكدهم“ من أننا نكتب دون إملاء من جهة، أي على عكس ما كانوا يظنون. ولا أدري إن كانت صيغة "الجمع“ التي خرجت من بين صدغيه، هي للتأكيد أم التضخيم، أم زلة لسان اقتضاها المقال وفرضها المقام. قلتُ له، الأولى: ذلك شرفٌ لا أدَّعيه ولم انتظر منه مكافأة من أحد. أما الثانية، فالحمد لله الذي جعلكم تستبينون الخيط الأبيض من الأسود في خضم الاتهامات وترمون بالقول على عواهنه تخويناً وتشكيكاً وتسفيهاً لكل من خالفكم الرأي.
ثمَّ دارت دورة الأيام بصرير أشبه بصرير الساقية، إلى أن فاجأني بهذه "الغنيمة“، التي بين يديك يا عزيزي القارئ. وحينها، وبعد الاستيثاق الدقيق، قلتُ له: أسمح لي بأن أعيد على مسامعك قولاً ثقيلاً، بالرغم من أنني سبق وقلته من قبل. قال: تفضَّل. قلتُ: لماذا تعطيني هذه المعلومات التي من شأنها أن تزلزل أرضاً تقف عليها أنت وعُصبتك؟ فقال لي كمن يستعجل حتفه: الأرض بك أو بسواك تزلزلت تحت أقدامنا، ولكن أعطيك لها من أجل تشهد لي يوم الموقف العظيم. قلت له: أيُّهم.. فالذي أعرفه إن هناك موقفين عظيمين، الأول في الدنيا وإن اختصَّ به أهل السودان، أما الثاني ففي الآخرة وهذا ما بشَّرنا به خالق أهل السودان والبشر أجمعين. فأيُّهم تريدني أن أشهد به يا ترى؟ قال خالطاً بين الجد والهزل: دع الآخرة حتى نصلها، واتركنا في الدنيا!
بُهِتَ الذي سَدَرَ في تخيُّلاته وسيناريوهاته، ولكن بالرغم من كل ذلك، يجدُرُ بك يا عزيزي القارئ أن تسألني: ما الذي دعاني لأن أشك في أن من ورائه تقف عُصبة؟ الإجابة باختصار شديد، تكشف عنها طبيعة المادة نفسها، فالرجل الذي أفني عُمراً في دروب الحركة الإسلاموية، لا أعتقد أنه ملمٌ بتقنية العصر، والتي جعلت من العالم "شاشة كمبيوتر“ كما يقولون، فبعض الذي ستقرأه لا يستطيع فعله إلا من امتلك قدراً من الإلمام بالتقنية الحديثة... ليس هذا فحسب، بل يجدر به أن يكون ممَّن حباهم الله بعقل فذ وموهبة متميِّزة، تستشف ما وراء أكمة تكنولوجيا العصر. وعليه، قطعاً لدابر هذه المتاهة، وحتى لا نُرهق العُصبة بطلاسم تزيد من عذابها النفسي، نعيد من باب المقاربة مع لغة اليوم، ما قاله معاوية بن أبي سفيان بالأمس بتحوير يحتمه المقام: "إن لله جنود من تقّانة!“ ولكن كلنا يعلم أنه أمرٌ لن يتأتى، إلاَّ إذا سخَّر الله لهؤلاء الجنود، عباداً اختصهم بقضاء حوائج أهل السودان، لا سيَّما وهم من صبروا في الدنيا ولم يستبقوا شيئاً يكسبون من وراءه أجراً في الآخرة!
تأسيساً على ذلك، ثمة رسالة غاية في التواضع، نوجِّهها لمن اعتقد أن التكنولوجيا دانت له وصارت طوع بنانه، وتوهَّم أنه ظِلُّ الله في الأرض وبيده مقاليد الكون، يُحيي ويُميت بما اسماه "الكتيبة الإستراتيجية“ أو "الكتيبة الإلكترونية“ أي الذين وصفهم السيد محمد المهدي مندور، نائب رئيس المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم بأنهم: «الجنود الذين يقودون عمليات الدفاع الإلكتروني» وبشَّر أولئك الجنود في يوم تخرُّجهم بقوله: «لن تؤتى البلاد وأعيننا ترمش»، وزاد متوعداً: «أنتم مجاهدون ولن تستطيع قوة في وجه الأرض أن تقف أمامنا»، وأضاف بفم ولغ من دماء خصومه: «من يقف أمامنا سنسحقه سحقاً وننتهي منه في هذه الأرض»، وخصَّ منهم بالذكر جنوداً مجهولين سمَّاهُم ب«بشباب الفيس بوك»3 وذلك في إشارة للموقع الإسفيري الشهير. وبعد الوعد والوعيد، لم ينس أن يُعضِّد قوله بقسم غليظ، شأنه في ذلك شأن عُصبته الذين استهانوا بالقسم مراراً وتكراراً وهُم حانثون!
لا أدري ما الذي يمكن يقوله مندور المهدي عندما يستذكر قوله أعلاه بما اعتوْره من استعلاءٍ وعنجهيَّة واحتقار لمخالفيه في الرأي والتوجُّه، إن قيَّضت الظروف له أن يطالع مؤامرات عُصبته هذه؟! فالذين حاولوا التقليل من شأنهم هُم شباب هذا الوطن، وطائفة من الوطنيين ممن آلمهم الإقصاء وأوجعهم المآل الذي لحق ببلادهم. ذلك بغض النظر عن الاختلاف الطبيعي في الآراء، فهم طائفة من المخلصين تشهد لهم أنهم ظلّوا وما انفكوا يبحثون عن وسائل يهزون بها عرش الطاغوت، ولن يجرِّمنهم شنآن قوم عملوا على تخذيل جهودهم حتى كادوا أن يجرِّدونهم من وطنيتهم. علماً بأنه إذا ما كانت المسائل تقاس بمنطق القول السائد: "لولا اختلاف السلع
3 استناداً على موقع سودانيز أون لاين نقلاً عن الصحف المحلية 23/3/2011.
لبارت الأسواق“، فليكن بمنطق: "دع ألف زهرة تتفتح“، على حد تعبير المثل الصيني الشائع، لا سيِّما وأن الصين لم يدخلونها ضمن الدول التي دنا عذابها. فالطبيعي أن توفر الدولة المناخ الذي يحفز على تلاقُح الأفكار وتمازُج الآراء وصولاً لهدف نبيل يرتقي بالبشر وفق ما أكدت الديانات السماويَّة وأقرَّت الأعراف الإنسانيَّة. وهو أمرٌ لن يتحقق إلا في ظلِّ دولة تقدِّر إمكاناتهم، وتطوِّر قُدراتهم وتصقل مواهبهم، وفي ذلك حقٌ مشروع للسائل والمحروم كما تعلمون. أي في إطار حقوق وواجبات المواطنة، وفي ظلِّ دولة ديمقراطية حقيقية تبتغي رفاهية المواطن وازدهار الوطن.
بَيْدَ أنه لن يخفي على قارئ السطور هذه أمراً في غاية الوضوح، فلا مناص بعدئذ من القول إن قيمة هذا الصيد الثمين، أو السمين - سيَّان- تكمُنُ في جسارة الدخول إلى عش الدبابير، وشاهدنا في ذلك أياً كانت وسائله فهو أمر غير محمود العواقب. أما نحن الذين لا نطمع إلا في أجر المناولة، نقول بكل صدق إن كل ما من شأنه بث الرعب في نفوس العُصبة يجد منَّا قطعاً كل تقدير وترحيب واحترام، وذلك تأسيساً على يدٍ سلفت في مناهضة مشروعها الظلامي من جهة، وتوخياً لنبل المقصد من جهة أخرى، لا سيَّما وأنه يهدف إلى تعرية مشروع ثيوقراطي لسلطة غاصبة، في دولة تميَّزت بالتنوُّع الإثني والتعدُّد الديني والتبايُن الثقافي كما أسلفنا الذكر. وتبعاً لهذه المعطيات نكرِّر ما قلناه أيضاً إنها سلطة افترت على الله كذباً وعلى عباده قهراً وعملت عكس ما هو مفترض وطبيعي. إذ دخلت في حروب مستمرَّة مع شعبها.. عملت على تقتيله وتدميره وسلبه إرادته وإهدار كرامته بشتى الوسائل والسُبُل.. فما الذي يمكن أن يفعله المرء حيال كل ذلك؟ فالمُكر السيئ لا يحيق إلا بأهله.
حريٌ بنا القول إن هذا الاقتحام يمثل حالة نادرة في تاريخ الديكتاتوريات السودانيَّة الثلاثة، وإن كان أمراً مألوفاً في تاريخ الشعوب وبصورة نسبيَّة. وشاهدنا في ذلك نموذجاً اتَّخذ منحنىً عالمياً وهو ماثل بين أيدينا في منشورات الموقع الشهير المسمى ب"ويكيليكس“ Wikileaks، أي "تسريبات ويكي“، وهو موقع أثار ضجة مؤخراً رغم أنه تمَّ تدشينه في العام 2006 وخرج على الملأ باستحياء شديد، ورويداً رويدا عمَّ القُرى والحضر بتسريباتٍ تناولت نحو ما يُقاربُ المائتي دولة، وعلى وجه الخصوص "العالمثالثية“. والمعروف أنها قد أثارت ضجَّة دوليَّة بموجات جبَّت كل واحدة ما قبلها، أي تصنع الوثيقة دوائر من الجدل الممزوج بالدهشة، ثم تغوص في زوايا الذاكرة، ريثما تظهر واحدة أخرى بذات الوصف، وتنداح دوائر كما الماء في البركة الراكدة، كلما اتسع مداها تلاشت. بما يعني أن ثمَّة إثارة أصبحت ملازمة للمسألة أيضاً. وفي التقدير أن إحساس الإنسان - أياً كانت جنسيَّته - في كونه أصبح ملماً بأسرار الكواليس ومناخات الغرف المغلقة لأصحاب القرار أو النُّخب الفاعلة في المجتمع لأمر يدغدغ المشاعر ويبعث المتعة. فلكل جديد دهشة كما تقول العرب العاربة أيضاً.
انطلاقاً من هذه الزاوية، يجدُرُ بنا تسليط الضوء قليلاً على هذا الموقع الذي أقام الدُّنيا ولم يُقعدها بعد. فاجأ الناشط الأسترالي "جوليان أسانج“ العالم باقتحام عرين الأسد، واستطاع الدخول لمعقل من معاقل الإدارة الأمريكيَّة الحصينة. بغضِّ النظر عن الجدل الذي أثاره أسانج وما زال بين كثرة غالبة ترى في ما فعله عملاً مشروعاً وبين قلّة قليلة استنكفت فعله، يمكن النظر للمسألة من زاوية أنه لا يمكن الادِّعاء بالقوة المطلقة بعد أن اتضح أن إصبعاً واحداً يمكن أن يضغط على مفتاح صغير في جهاز كمبيوتر "حاسوب“، يستطيع أن يدُكَّ حصون إمبراطوريَّة عتيدة. لم يكن الرجل يمتطي دبابة، ولا يحمل صاروخاً، أو حتى بندقية كلاشنكوف. فقط كان يحمل جمجمة بداخلها عقل متقد الذكاء. دخل لعرين الأسد وخرج محمَّلاً بصيدٍ وفير. وبالطبع لم يستأثر به ويعالجه وراء غرف مغلقة كما حال الوثائق نفسها، ولكن شاء أن ينشرها على الملأ حتى يعلم الخلق ما الذي كان يجري خلف الجُدران المؤمَّنة. مع العلم أنه كان بمقدوره أن يجني مالاً كثيراً إن أراد ابتزاز الإدارة الأمريكية، وآخرين ممَّن تناولتهم الوثائق وضاعت على إثر نشرها هيبتهم!
أوردنا ذلك حتى لا يلتبس الأمر في أذهان البعض، فالوقائع والشواهد تقتضي التوضيح والإنصاف فيما نحن فيه غارقون، أي هذا الكتاب ومقارنة طبيعته بطبيعة الموقع الشهير "ويكليليكس“، فالواقع أن مصادرنا كانت سبَّاقة من الناحية الزمنيَّة. إذ أن الموقع المذكور، برغم ظهوره المُبكِّر كما أوردنا، لكنه لم يبدأ تسريب ما
يخص السُّودان إلا في العام الماضي، وعلى وجه الدقة يمكن القول أثناء إعدادنا هذا الكتاب. علماً بأن صيدنا الوفير استقرَّ بين أيدينا من قبل عام ونصف العام تقريباً، وهي فترة وإن تأخرنا في إنجازنا هذا الكتاب، ولا عُذر لنا سوى شواغل الدهر التي حالت دون الانتهاء منه في زمن قياسي. هذا إلى جانب أن الاستغراق في معالجة وثائقه بحثاً وتمحيصاً واستقراءً استوجب وقتاً ليس بالقصير. إذ تطلب الأمر كثيرٌ من البحث والتنقيب والتحرِّي والتحليل، وربط الأحداث بعضها ببعض، ومن ثمَّ فكَّ شفراتها "الأمنيَّة“ وتزويدها ببعض المعلومات والتوضيحات اللازمة، وهذه كلها أشياء سيلمسها القارئ بنفسه وهو يتابع صفحاته.
وبالرغم من أن كل ما ذُكر أعلاه لا ينبغي أن يكون عذراً، ولكن نقول ربَّما التثبُّت والدقة والأمانة تشفع لنا عند القارئ. وبالقدر نفسه يمكن القول لو أننا شئنا نشر هذه الوثائق بصورة مجرَّدة، أي دون معالجتها بما ورد ذكره، لكان ضررها أكثر من نفعها، وذلك نظراً للتشويش الذي سيحدُث جرَّاء ذلك، إضافة إلى أنها ستكون محض إثارة، وبالتالي ستنتهي بمجرَّد انتهاء مفعولها، أي سيبقي الزَّبَدُ ويذهب ما ينفع الناس جفاء. وبناءً على ذلك فقد فكرنا وقدَّرنا أن تكون هذه الوثائق بمثابة "مذكرة اتهام“، مُحْكَمَة، بما يصعُبُ نفيه أو دحضه أو التبرُّؤ منه!
على الرغم من كل ذلك، لو جاز لنا أن نقارن بين الحدثين، فيمكننا القول إن الوثائق التي نشرها ويمضي في نشرها موقع ويكيليكس، تركَّزت بشكل أساسي في التقارير المتبادلة بين السفارات الأمريكيَّة Homework المختلفة، وبعض الإدارات ذات الصلة. ولعلَّ الغاية من ذلك واضحة جداً، فالدبلوماسيون الذين يقومون بذلك النشاط يهدفون إلى الإلمام بالظروف السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة في البلد المعيَّن، لكي تُعين أصحاب القرار في حكومة بلادهم على اتخاذ الموقف الملائم تبعاً لذلك. وهو أمرٌ مشروعٌ بلا شك في إطار العمل السياسي والدبلوماسي المعروف، بغضِّ النظر عن الوسائل التي استُخدمت في الحصول على تلك المعلومات. وبغضِّ النظر أيضاً عن الآثار التي خلفها أو سيخلفها نشر الوثائق على الدوائر أو الأشخاص ذوي الصلة، وكذلك بغضِّ النظر عن نوايا الشخص المستخلصة منه. علماً بأن البراءة أو حُسن النوايا أو اللامبالاة أو السذاجة حتى، كلها أمور لا تبرِّر، بل لا تشفع طالما أن الحديث المعني جرى وراء حُجُبٍ وأستار وجُدران يصعُبُ اختراقها. في حين ما نحن بصدده الآن لمختلف جداً، ذلك ما يمكن تسميته بوثائق الظلام، فبالنظر لطبيعة النظام الشمولي الديكتاتوري القائم في السودان، هذه الوثائق تتحدَّث عن فساد سياسي وإداري وأخلاقي ومؤامرات ودسائس وأمور أخرى تتسق وطبيعة النظام نفسه.. وبالتالي، وفق تقديراتنا، يصبح أمر نشرها واجباً وطنياً حتى يكون الناس على علم بما يجري في الغرف المظلمة ومن وراء الكواليس!
انطلاقاً من هذه الزاوية، لا نود الدخول في جدل بيزنطي كمثل الذي صاحب منشورات ويكيليكس في بداية عهدها، ولا غُرُوَّ أن خفَّت وتائره رويداً رويدا، وحلت محلها غرائز حب الاستطلاع والاستمتاع والشغف الطبيعي، لدرجة أصبح الناس فيها أكثر نهماً، كلما طالعوا وثيقة، قالوا هل من مزيد. وطالما أن لكل فعلٍ ردُّ فعلٍ وفق قوانين الطبيعة المعروفة، يمكن القول إن وثائق ويكيليكيس كان لها مردوداً إيجابياً كبيراً. ظهر سريعاً في بعض البلدان وتباطأ نسبياً في بلدان أخر. وطبقاً لهذا يمكن القول أن التغييرات الراديكالية التي اجتاحت العالم العربي فيما سُمِّي اصطلاحاً ب"ربيع الثورات“ ليست بعيدة من هذا المساق، سواء جاء الأمر متزامناً دونما ترتيب مسبق، أو قصداً مع سبق الإصرار. على الأقل لا يستطيع أحد أن ينفي العامل النفسي المُحفِّز الذي دفع الثورات العربية - التي اختلفت وتباينت فيها طرق التعبير- في تسليط الضوء على الفساد والاستبداد في أقطار بعينها. وعليه من هذا المنطلق، ثمة أمل مرتجى في أن يفضي نشر وثائق العصبة ذوي البأس الحاكمة في الخرطوم هذه، إلى نتائج مماثلة، تحرض المغلوب على أمرهم على الفعل والتغيير والإصلاح!
ثمَّة سؤال ظلَّ يراود مخيِّلتي طيلة كتابة سطور هذا الكتاب: كيف ساس شُذاذ الآفاق أناساً لم ينتخبونهم وظلوا جاثمين على صدرهم لأكثر من عقدين من الزمن، في حين أن أفعال وأقوال يوم واحد كانت كافية لقذفهم في مزابل التاريخ؟! نحن لا نريد أن ننكأ جراح مرارات طاف عليها الزمن في الانقلاب وملابساته، ومن ثمَّ مسار الحُكم وتوقعاته... لقد عبثت عُصبة الإنقاذ بمُقدَّرات السودان ومصائر أهله، سلطت سدنتها وهم متعطشون
للدماء، فكانت الحروب هوايتهم ومآسي الناس متعتهم. من أجل هذا لم يعبأوا برؤية البلاد تُبترُ من أطرافها حتى وصل البتر حد انفصال ثلثها، مساحة وسكاناً وموارد. ولم تحرِّك معاناة أهلها ساكناً في ضمائرهم النائمة بعد أن عطَّلوا أحاسيسهم ومشاعرهم. اتخذوا الحُكم مطيَّة لتلبية نداء شهواتهم المريضة، فاكتنزوا المال والذهب وتمتعوا بالنساء مثني وثلاث ورباع.. أوهموا وتوهَّموا أنهم الحاكمون بأمر الله، والقائمون على ملكوته في الأرض، ولذا لن يطالهم حساب أو عقاب. عِوَضاً أن يكونوا في خدمة السلطة، صارت السلطة في خدمتهم، وبدلاً من أن يعملوا لرفاهية الإنسان سخَّروا الإنسان لرفاهيتهم!
لقد حادت العُصبة الحاكمة في السودان عن جادَّة الطريق، والذي كان يمكن أن يختصر سنوات من المعاناة على أهل السودان. المفارقة أنها ما زالت تطمع في المزيد، رغم الأزمات التي استحكمت وضاقت حلقاتها، بل وأصبحت تنذر بعواقب وخيمة. ليس على مصائرهم فحسب، ولكن على مصير البلاد والعباد الذين سيدفعون ثمنها غالياً بلا شك. فكلنا يعلم أن النار حينما تندلع لا تتخير أهدافها، ولهذا يخشى الناس أن تخرج سيناريوهات العنف من قمقمها فتضع البلاد في صفوف الدول التي سلكت طريق الآلام نفسه وما زالت تتنكب خُطاها. فرغم دروس الإنسان لأخيه الإنسان، يأبى "النيرونيون“، الجُدُد أن يتخلوا عن ساديَّتهم الوالغة في دماء البشر، فثمَّة إصرار غريب على رؤية الخرطوم تحترق بنار لن تترك حجراً ولا بشراً. كأنَّ بينهم وبينها ثأر لا يدري أحد كنهه.
في الكفة الثانية، نقول إن كان الناس يؤمنون بالديمقراطيَّة خياراً حضارياً، وأنها وسيلة، غايتها تقدُّمهم ورفاهيَّتهم وازدهارهم، وأنهم في سبيل ذلك هُم مدركون للمتاعب والمخاطر التي تحُف طريقها. وأنهم على استعداد لبذل التضحيَّات الجسام بتقديم الأرواح رخيصة في سبيلها.. نقول، سترتفع بلا مناص وتائر التكلفة دون سقف في حدودها، ولا يظنن أحداً أن الخداع الذي ظلت تمارسه العُصبة ذوي البأس بمنجيهم، لأن شمس الحقيقة ستكون عندئذ قد كشفت الأكاذيب البلقاء والادِّعاءات الجوفاء، فلن يكُن ثمَّة مكانٍ للذين يُسبِّحون بحمد الديمقراطيَّة نهاراً ويُزهقوا روحها ليلاً!
بالطبع لن نأتي بجديد إن قلنا إنه عصر الشفافيَّة وزمن التقنية.. إنها الحقبة التي تغيَّرت فيها آليات الحرب والسلام. فكلنا يعلم أن ثمة حروب صارت تندلع وتنطفئ دونما أن تراق فيها نقطة دم واحدة، وثمة حروب تتصدع لها عقول وجدران، ويُراقُ فيها ما هو أكثر مأساويَّة من تخيُّل الجحيم في العالم الآخر. تأسيساً على ذلك، ولفائدة القارئ، ينبغي أن نمعن النظر كثيراً في النقاط التي سلطنا فيها بعض الضوء على ذلك الموقع الشهير "ويكيلكيس“ بما يمكن أن يُعين في تفهم القضايا بواقعية ووضع الأمور في إطارها الصحيح، لا سيَّما، وقد لاحظنا أنه بين الفينة والأخرى يُطلَّ أحد مؤتكفة السياسة أو خفافيش الظلام، ليستنكفوا النشر متعللين بأسباب ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. وإنني على يقين بأن الكلمة الصادقة تظل متوهِّجة دوماً، أصلها ثابت وفرعها في السماء. وما أصدق تلك العبارة في القول المأثور المنسوب لأحد حواريي السيد المسيح عليه السلام «كلمتي لا تُردُّ إليَّ فارغة»!
تلك أمة ولود، لابدَّ وأن يخرج من صُلبها المُخلِّص الذي سيخرج للملأ شاهراً عقله قبل سيفه. المُخلِّص الذي سيفتح أبواباً ظنها الكهنوتيون الجُدُد أنه لن يقرُبها أنس ولا جان. المُخلِّص الذي سيجعل الأرض تهتز تحت أقدامهم من بعد أن اعتقدوا إنها لن تميد أبداً. سيحتفي به هذا الشعب العظيم، وسيكرِّمه وفاءً وإخلاصاً وعرفاناً بشرفٍ لم يدَّعه، ومجدٍ سعى إليه وهو من الزاهدين. كنا قد ذكرنا تأكيداً بأن هذه من المرَّات النادرة التي تتراخي فيها مفاصل نظام ديكتاتوري حتى تصبح بضاعته الكاسدة على قارعة الطريق، مبذولة للسابلة من كل فجٍ عميق. إنها المرَّة الأولى التي يُستخدَمُ فيها سلاح التكنولوجيا في فضح أفعال وممارسات ديكتاتورية عتيدة. هي الديكتاتوريَّة الثيوقراطيَّة التي دخلنا دهاليز جهازها الذي سامنا سوء العذاب.
عندما نصل الكهف الذي كان يلوذ به رئيسه السابق، الفريق أول مهندس صلاح عبدالله قوش، فنحن في حقيقة الأمر نود الاقتصاص للمظلومين والمقهورين الذين طالتهم يد المذكور. ولكن بما أن الشيء بالشيء يُذكر، فكثيراً ما حيَّرتني العُصبة ذوي البأس، بل ربما حيَّرت غيري أيضاً في الألقاب التي تتكرَّم بها وتقدِّمها بأريحية
يحسدها عليها حاتم الطائي. ف"قوش“ مُنِحَ أو مَنَحَ نفسه - سيَّان - رتبة "فريق“، ولا يعرف الناس في أي معركة نال تلك الدرجة الرفيعة، اللهُمَّ إلاَّ إن كانت هذه المعركة مع مواطنين عُزَّل لا حول لهم ولا قوَّة. ولو جاز لنا التذكير ببعض حاملي تلك الرُتب الرفيعة، أنظر مثلاً في القرن الماضي، عرف الناس القائد العسكري الألماني إيرفين روميل، والذي لُقب ب"ثعلب الصحراء“، وقد نال لقب "مارشال“ بعد انتصارات كبيرة جاب فيها العالم طولاً وعرضاً. وفي العصر الحديث، قاد جنرال آخر أسمه نورمان شوارزكوف تحالف 28 دولة في حرب تحرير الكويت، أو حرب الخليج الثانية التي سُمِّيت ب"عاصفة الصحراء“.. ففي أي معركة نال الجنرال ورئيسه "المُشير“ تلك الرُّتب الرفيعة؟! صَدَقَ أبو البقاء الرندي حين قال: «ألقاب مملكة في غير موضعها: كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد»، فهل كان يعني هذه العُصبة؟!
لكن لن نذهب أبعد ونسبر أغواراً تجلب الهَمَّ والتعاسة وإن اغتمَّت جرَّاءها العُصبة ذوي البأس. إذ يعلم الذي رفع السماء بلا عَمَدٍ، ودحا الأرض بلا مَدَدٍ، أن القصد الأساسي من نشر هذه المادة هو الإذلال، أي فضح الكبرياء الزائف الذي يتدثر به هذا الجهاز، وكشف القوَّة الوهميَّة التي يختبئ من وراءها جلاوزته، لا سيَّما، وقد ظنُّوا أنهم يقفون بمأمن من أي يدٍ تتجرَّأ للوصول لكهفهم. فالقصة باختصار تقول إنه بعد هذا الفضح المُبين، سيكتشف السُّودانيون إنهم يقفون في مواجهة نمر من وَرَقْ. فالقائمون على أمر هذا الجهاز اختبأوا وراء جبروت القوَّة ضد أفراد شعبٍ أعزل. لكن واقع الأمر أنه جهازٌ لا حول له ولا قوة. وإن أفراده، وعلى رأسهم رئيسه السابق صلاح قوش، ورئيسه الحالي محمد عطا المولي، لا يمكن الجزم بأنهم أشخاص طبيعيون كشأن سائر البشر، وذلك ليس افتراءً على شخصياتهم بقدر ما هو واقع يلتصق بكل من انخرط في هذه المهنة التعيسة!
يجنح علماء النفس "السايكولوجيون“ إلى أن الأشخاص الذين يعملون في هذه المهنة، ويجنحون نحو ممارسة العنف بكافة أشكاله القميئة مع خُصومهم، أو ضحاياهم على وجه الدقة، هُم شخصيات غالباً ما تكون غير سويَّة، كأن يكون بعضهم قد تعرَّض إلى مواقف معيَّنة في طفولتهم أو صباهم واستقرَّت في عقولهم الباطنة، وبالتالي يصبح أمر استدعائها ميسوراً، كلما شعروا بالحاجة للاقتصاص من ذلك الماضي اللئيم. فالذي لا مراء فيه، أن العاملين في الأجهزة الأمنيَّة والذين عُرفوا بممارسة التعذيب على ضحاياهم، يحملون في دواخلهم تراكُمات ضخمة من العُقد النفسيَّة. ولهذا نجد هذه الفئة عندما تمارس هوايتها في التعذيب والإذلال فهي في الواقع تنفس عن مكبوتاتها، أو تفعل ذلك بحثاً عن إيجاد مبرِّر لأفعال شيطانيَّة، أو أنها تثأر من الظروف التي صنعت ذلك الماضي اللئيم، أو يريدون بها مواراة تعاسة ذلك الماضي، أو أنها تنتقم من ضحاياها لتُوهمها بأنها ضالعة في ما يشعرون به من ذنوب. وأياً كانت الأسباب، فهم يجدون فيما يفعلون عزاءً تتسرَّى به نفوسهم المريضة!
مما لا شك فيه أن ذاك الماضي اللئيم يشكِّل قاسماً مشتركاً لكثير من منسوبي جهاز الأمن والاستخبارات، لهذا فهُم لا يشعرون بعُقدة الذنب في ممارسات فردية أو جماعية. أي تلك التي يفعلونها بطقسٍ جَمْعِي، وبتبتُّل كأنهم يؤدون صلوات في مكان عبادة. ولهذا أيضاً هم لا يرون شذوذاً فيما يفعلون، بقدر ما يعتقدون أنها ممارسات طبيعية فيها راحة للنفس تسُرُّ الناظرين. فهم قد يسمعون أنين ضحاياهم كمقطوعة موسيقية رائعة، ويتخيَّلون توسُّلاتهم وكأنها لوحة رسمتها أنامل فنان بارع. بيد أن بعضهم تشُوَّهت نفوسهم نتيجة توصيفات عرقيَّة وإثنيَّة وطبقيَّة جُبِلَ على ترديدها بعض عامة أهل السودان. وهي تندرج تحت باب مُمارسات مجتمعية توارثوها أباً عن جد. وهي ذات الممارسات التي استدعاها ممَّن سموا أنفسهم ب"منبر السلام العادل“ لمالكه وصاحبه السيد الطيِّب مصطفى، أو "الخال الرئاسي“، كما يطلقون عليه حقيقةً وتندُّراً. والمنبر المذكور لم يكن سوى كيانٌ عرقي، تأسَّس على نيران الحقد والكراهية، لينطق عن الهوى والهويَّة، وفي ذلك ادَّعى "العروبة“ الخالصة كصفة ليست مبلغ أهل السودان، ولا كهوية هي غاية همهم. فالهوية العروبويَّة الإسلامويَّة هي مَحْضُ أوهام، لن تجد لها عرقاً خالصاً في جينات أهل السُّودان، وبالقدر نفسه ليست عاراً حتى يُلزموا على التبرؤ منها. وتلك معركة حسمها أهل النهي وأصحاب العقول النيِّرة، عندما خلصوا بعد حوارات استمرَّت ردحاً من الزمن، إلى أن ما يمكن أن تُسمَّى ب"السُّودانويَّة“ هي الطريق الثالث الذي يحسم جدل الهويَّة،
ويُجنِّب أهل السودان رَهَقَ سفسطائيَّة قوم موسى. بل كان بالإمكان أن يجنبه انشطار ثلث البلاد. وهي أقسى جزية دفعها السُّودانيون عن يدٍ وهم صاغرون!4
عليه، وتبعاً لذلك، نجد أن من وراء الممارسات الشائهة لجهاز الأمن والمخابرات، تقف في كواليسه فئة منكفئة على ذواتها، تكبِّلها أحاسيس بالدونيَّة نتيجة التعقيدات المجتمعيَّة والنفسيَّة التي ذكرنا. وهو أمرٌ ليس حكرٌ على منسوبي هذا الجهاز وحدهم، بل هي في الواقع سمات وسلوكيات كل منسوبي هذه الأجهزة التي تعمل في الظلام، أي في ظلِّ نظام ديكتاتوري شمولي. للتقريب، فنضرب في ذلك مثلاً من قصص السابقين، إذ يمكن القول إنها ذات النقائص والعقد النفسية التي استغلها نظام الرئيس الروماني المخلوع نيكولاي شاوشيسكو بتجنيد ما سُمِّي ب"السكورتات الأمنية“، ويشاركه الموبقات نفسها نظام شاه إيران الإمبراطور محمد رضا بهلوي المعروف ب"السَّافاك“، أو "السَّاواك“ بالفارسيَّة، وإن كان اسمه في العربية أقرب لطبيعته في ممارسات السَّفك، ثمَّ ورثته من نظام الملالي الحالي الذين حلوا محله وسموا ب"الفافاك“ أي وزارة المخابرات، كما أن "الحرس الثوري“ نفسه يمكن أن يضرب مثلاً. تماماً مثلما هو جهاز مخابرات نظام مانغستو هيلا ماريام المُسمَّى ب"الدرق“، أما جهاز "الموساد“ الإسرائيلي فذاك كبيرهم الذين علمهم الساديَّة!
في التقدير أن منسوبي هذه الأجهزة ضحايا تماماً مثل ضحاياهم، مع اختلاف الأسباب التي أدَّت لهذا القاسم المشترك. وعليه، فغالب الظن أنهم من تلك الزاوية يتوهَّمون بأنهم يجدون في أجهزة الأمن والمخابرات، مشفى يبتغون فيه مداواة عِللهم وأمراضهم النفسية وهم لا يعلمون إنهم يزيدونها عدداً من ناحيتي الكم والكيف. لهذا لا غُرُوَّ إن كانت أحاسيس البعض نحو المبنى الذي يتخيَّلونه كمنتجعٍ راقٍ خُصِّص للرفاهية والترويح عن النفس. ولهذا لم يكن غريباً تضخم هذا الجهاز تضخماً مفزعاً بل ومقصوداً، حيث تعدَّدت أنشطته وتنوَّعت، فأصبح على سبيل المثال يدير عشرات المئات من الشركات الأمنيَّة تحت غطاءات عديدة، وكأنما في الأمر تنافُساً شريفاً. فضلاً عن ذلك، فقد أضافوا إليه الزوَّار الجُدُد الذين يعيشون في كنفهم من قيادات "أحزاب الأنابيب“، أي الذين انشقوا عن أحزابهم الأصلية لأغراض شخصيَّة وأصبحوا يعيشون في معيَّة النظام بدراهم معدودات وامتيازات تمنح لهم شراءً لولاءاتهم وعرفاناً لخدماتهم. ولهذا ليس في الأمر غرابة إن رأيتهم يتنطعون أو سمعتهم يتحدثون بلسان الملكيين أكثر من الملك. فهُم من تمدَّد خزيهم، وتطاول عارهم من أجل إرضاء السادة الجُدُد كلما وجدوا لذلك سبيلاً5!
زُبدة الحديث، يمكن التأكيد على أن جهاز الأمن والمخابرات، ووثائقه محور هذا الكتاب، استند على ساقين بغيضتين: الأولى، العنصريَّة.. والثانية، الشوفينيَّة6 Chauvinism وفيما بينهما، كان مال السُّحت، هو القاسم المشترك الأعظم للتعبير عن أي من الفكرتين. ونزيد بعوامل أخر، علماً بأن القائمين على أمر جهاز الأمن والمخابرات، تعمَّدوا إزكاء نيران النعرات العنصريَّة القبليَّة حتى صارت سِمَة في حُكم اللاهوتيين الجُدُد. وكانت الظاهرة أكثر سطوعاً في جميع إدارات ووزارت ومرافق الدولة. ومن خلالها أديرت كثير من صراعات الكواليس بين الأجنحة المختلفة في دست الحكم. وفيما يبدو لم يكن ثمة اكتراث يُذكر من المتصارعين أنفسهم، في أن تأثيرات الظاهرة السلبيَّة تهدِّد مكونات المجتمع السوداني، لا سيَّما، وأنه يعيش في دولة قيد التكوين والتشكل. ونستدعي للذاكرة مراراً السهولة التي مضى بها انفصال الجنوب، الأمر الذي حفَّز آخرين لأن يحذو حذوه، في حين أن إزالة الأسباب التي أدَّت إلى ظهور هذه الحِمية تبدو أقل كلفةً من الانفصال. مع ذلك تداعت بعض أجزاء السودان بالسهر والحمى (سنذكر هذا تفصيلاً في فصل قادم) وإلى أن يحين ذلك، لن نقوى على الصبر فيما جاءنا بقولٍ مُبينٍ قطع قول كل خطيب!
4 ذلك في إشارة إلى أن انفصال الجنوب مضى كحدث مثلما تمضي سائر الأشياء في السودان، فقد عجز السودانيون بصورة عامة والوحدويون بصفة خاصة عن التعبير بأي من الوسائل عن الأثر الذي خلفته كارثة العصر السوداني، سوى الصمت الذي كان أضعف الإيمان!
5 أنظر مقالنا المنشور في المواقع الاسفيرية السودانية المعروفة بتاريخ 3/4/2011.
6 تعود التسمية لجندي فرنسي (نيكولا شوفان) عمل تحت قيادة نابليون بونابرت وكان يكن له ولاءً أعمى، ومن هنا أصبحت هي الفكرة التي تعبر عن التعصب والتطرف والمغالاة الشديدة للقومية أو للأمة أو حزب معين مع حقد وكره عميق لباقي القوميات والأوطان والأمم.
ما جاء به الفريق صلاح قوش في هذا الصدد كان أمراً أدَّاً، ولن يكون غريباً إن كُتب بعدئذ في لوح أهل السودان بأنه حاملُ لواء تلك الظاهرة البغيضة، بلا منافس. إذ تجلت تلك الروح العنصريَّة فيما خطه قلمٌ صحفي، الذي كتب تقريراً بعنوان: "كنتُ شاهداً على عنصريَّة صلاح قوش“ جاء فيه ما يلي، علماً بأن المذكور ترجَّل يومذاك من رئاسة جهاز الأمن والمخابرات وإمتطى صهوة ما اسماه بمستشارية الأمن وكأن النظام ينقصها عددا! «اتصال هاتفي يوم الاثنين الأول من فبراير 2011 أتاح لي الشهادة على عنصرية بغيضة خرجت من أفواه عدد من قيادات المؤتمر الوطني في لقاء مرشح المؤتمر الوطني بالدائرة "5“ مروي بطلاب منطقة مروي صلاح قوش مدير الأمن السابق ومستشار الرئيس الحالي. ابتدر الحديث الشاعر السر عثمان الطيب، وبعده مرشح المؤتمر الوطني في القائمة النسبية للولاية الشمالية معتصم العجيمي وأخيراً اللواء متقاعد حسب الله عُمَر، خرجت بعض الإشارات العنصرية خلال إفادات الثلاثة، دوَّنتها وأنا أتعجَّب من مستوى هؤلاء القيادات، لكن الذهول الحقيقي سيطر عليَ وأنا أستمع إلي صلاح قوش، بعد حضوره واعتلائه المنصة، وهو يقول للطلاب: «نحن بنينا السودان لكن ما اهتمينا بي أهلنا، وبعد دا الناس يقولوا الجماعة مسيطرين على الحكومة، ناس دارفور عندما يقابلونا في خلال اللقاءات يقولون لنا إننا سنأتي إلى مروي ونغتصب نساؤكم، وكنا نقول لهم نحن ما زيَّكم، وقت نبقي زيكم ممكن تغتصبوا نسوانا، نحنا فاشلنا بمشي للطورية، وناجحنا بمشي للعسكرية، عشان كدا نحن العسكرية نجحنا فيها شديد، وما ممكن زول يقدر علينا، ونحن عملنا كتيبة خاصة لحسم الناس ديل لو جو، لكن أولادكم للأسف شَرَدُوا منها، وما اهتموا بالموضوع»... ويضيف الصحافي مختتماً تقريره بقسم كأن ما قاله لن يُصدِّقه أحد: «أقسم بالله إنني سمعتُ هذا الحديث، ومعي أكثر من 100 طالب وخريج من أبناء مروي»!!7
لكل امرئ يومئذٍ شأنٌ يُغنيه، كما قال المولى تبارك وتعالى. فهذا حديث ارتجَّت له أركان البلاد الأربعة فيما نظن، ويكاد المرء يشعر بتململ أرواح الوطنيين في أجداثهم، ومنهم من نذر عمراً ووضع روحه على كفه من أجل وحدة السودان بحقبها التاريخية المختلفة. ومنهم من تكسَّرت تحت نصالهم وقوة إرادتهم مشاريع المستعمرين بمختلف جنسياتهم وتبايُن مآربهم. صحيح أن نظام العُصبة الحاكمة تطرَّف في أيديولوجيته، ولكن لم يكن متوقعاً أن يتطرَّف في عنصريته بمثل ذلك السفور والمباشرة. المفارقة أن الدين "الإسلامي“ الذي منه يدَّعون استمداد مرجعيتهم، استندت كثير من نصوصه القرآنية والأحاديث النبوية على نبذ العنصرية، لأنها منتنة، على حدِّ قول الرسول الكريم: «حدثنا عمرو بن دينار، سمعت جابر بن عبدالله "في الصحيحين“: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، فكسع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال له الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا يا رسول الله: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة»! وهو القائل أيضاً: «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى»، وقال الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...} (الحجرات - 13).. وقال أيضاً: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...} (الحجرات – 10) وتأتي تلك كدلائل وبراهين لتؤكد أن نظام العُصبة السودانية اتّخذ من الدين وسيلة لتمرير أجندته السياسية.
واقع الأمر إن اصطراع العرق والأيديولوجيا كان يمور في صدور كثير من الإسلامويين. وجاءت أحداث بعينها لتثبت ما كان دائراً في الخفاء ردحاً من الزمن. فقد تغلبت العصبية القبلية في أحايين كثيرة على الرابطة العقدية، في حين نجد أن غريزة المصالح الخاصة وأشياء أخر، كانت تفور في الصدور بما يصعُبُ الإفصاح عنها. ولنضرب مثلاً بقصة ميلودرامية تقطع نياط القلوب، حتى ولو كان الذي تجرَّع مرارتها من العُصبة نفسها. ففي خضم الصراع بين الإسلامويين بعد انقسامهم إلى مؤتمر وطني وشعبي، اختفى "محمد الخاتم موسى يعقوب“، ووالده كما هو معروف أحد العُصبويين الذين قضوا عمراً في رحاب التنظيم، ويُعَدُّ من القيادات الإعلامية البارزة في الحركة وكذا السيدة والدته. بغريزة الأمومة والأبوة معاً، طفقا يبحثان عن ابنهما حتى خارت عزيمتهما، واستسلما لقدرهما دون أن يقويا على البحث أكثر مما فعلا. ورحلة البحث تلك يضيق
7 حمزة بلول - صحيفة الأحداث 2/2/2011.
المجال عن سرد تفاصيلها الدقيقة التي جاءت على لسان الوالدين في اكثر من موقع، وصفا فيها ما حدث وجهودهما في طرق باب أي مسئول توسُّلا أو تسوُّلا - سيَّان - عنده حلاً لمصيبتهما، والقصة بتفاصيلها لا تخلو من عجائب وغرائب ومفارقات لن يجد المرء لها مثيلاً إلا عند من اتخذ الدين وسيلة لتحقيق مآرب خاصة لا علاقة لها بالعقيدة وسماحتها.
تلك القصة لم يعلم بها قادة العُصبة فحسب، بل وصلت حتى (الرئيس) المشير عُمَر البشير، مروراً بنائبه علي عثمان طه، وانتهاءً بثالثهما أحمد إبراهيم الطاهر، رئيس الجهاز "التشريعي“، وقلنا انتهاءً لأن الأخير هذا استقرَّت القضية على طاولته برُمَّتها، ذلك باعتباره المسئول عمَّا يُسمَّى ب"لجنة المحاسبة“ في الحزب. وسواء صدقاً أو كذباً، قال الأبوان: إنه تكوَّنت ثلاثة لجان للبحث والتقصي، ومع ذلك لم تستطع فك طلاسم القضية التي أصبحت لغزاً في أذهان العامة، وإن بَدَت واضحة المعالم في أذهان خفافيش الظلام. هل يصدِّق أحداً في البشرية، حتى ولو كان ساذجاً أن رئيس دولة يأمر بتشكيل لجنة للبحث في قضية فرد حول موضوع معيَّن أياً كانت طبيعته، تعود بخفي حنين؟! هل لعاقلٍ أن يأتمن رئيس في حياة أمة وقد عجز عن حل قضية فرد؟! هل تلك دولة غاب، أم دولة تحكمها قوانين وتشريعات؟! كم مثل هذا اختفى في ظروف مماثلة أو مغايرة، وأهله لا يعرفون طريقاً لرئيس الجمهورية؟! بل هَبْ أنهم يعرفون، فهل كان بوسعه أن يفعل لهم أكثر مما فعله لأخيه في العقيدة والوطن، كما يقولون؟! بالطبع هذه أسئلة تعبث بذهن من كان مثلي وهو يعلم أنها لن تجد إجابة شافية.. لأن من يعلم نام قرير العين هانئها!
صفوة القول إن القضية التي تطاولت لأكثر من خمس سنوات، لم يعرف حتى الآن ما إذا كان المختفي قسراً، حي هو أم ميِّت. وبالطبع، فمن باب الاجتهاد يمكن القول إن الثابت في حيثيات الأسباب، هو أن الشاب المختفي أحاط نفسه بكمية من المعلومات والأسرار التي خشي أصحابها من المصير نفسه، ولم يجدوا غير هذه الوسيلة القذرة، أي اللجوء إلى ما حرَّم الله، وهو القتل.. أو ما حرَّم الإنسان، وهو الاختطاف والحبس القسري في مكان يصعُبُ الوصول إليه. لا يعرف المرء ما هي مشاعر السيد موسى يعقوب الحقيقية بعد هذه المحنة، ومدى تقلبه بين فقه المصالح الذي يحكم كثير من قيادات الحركة الإسلاموية، والأيديولوجيا التي أفنى فيها عمراً، والقبيلة التي يلوذ بها الإسلامويون حينما يدلهم ليلهم وتتفرَّق بهم السُبُل. وما حدث لابن يعقوب يماثل ما حدث للمهندس علي البشير، الذي اغتيل بدمٍ بارد أمام أسرته (سنستعرض هذه القصة وفق تفصيل في فصل قادم) ونكتفي بالإشارة إلى أن المغدور كان ضحية صراع الأيديولوجيا والسلطة، ولم يكن وحده، فقد لحق به آخرون قضوا نحبهم بصورة أكثر ميلودرامية، ومنهم من ينتظر!
أما العنصر الثاني في كتاب جهاز الأمن والمخابرات، فقد كان "المال“ كما ذكرنا من قبل، والذي كان ديدن الفريق أول صلاح قوش إبان رئاسته الجهاز، وهذا ما ستكشف عنه الوثائق التي ننشرها في هذا الكتاب. الواقع أنه ليس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.