واليوم نخرج من الوطن.. ذاك الذي كان جميلاً.. وديعاً وبديعاً.. نخرج ونترك وراءنا.. أنين الشعب من الغلاء واستحالة الحياة.. نترك خلفنا جرح دارفور النازف الذي حتى الآن ما زال عصياً على رتق الجراح.. نترك تلال الهموم وبحار الدموع.. وفزع الترقب والخوف من المجهول وتلك الشياطين التي تربص في طريق الوطن بعد التاسع من ذاك الشهر الكئيب والحزين والذي سيشهد رايتين ترفرفان في سماء بلد كان واحداً هماً وحلماً وأملاً.. وماضياً وللأسف ها نحن نغني مع جماع.. بل نبكي مع جماع.. ثم ضاع الأمس منا وانطوت في القلب حسرة.. اليوم وغداً وليتني لا أتوقف من نزف الحروف والدموع بل الدماء.. وأنا أتحدث عن الذي أود أن أقول.. إذاً دعوني أكتب عن «نحن».. وهم..و«نحن» أعني بها الأمة العربية كلها.. قطراً قطراً.. دولة.. دولة.. لا استثني أحداً.. من الصومال.. تلك التي كانت دولة.. فتهمشت وتبعثرت كما تتبعثر شظايا وقطع كوب أو صحن مكسور.. وحتى موريتانيا.. تلك التي تتحدث عن تحرير فلسطين وهي أبداً تقف عاجزة عن سرب من الجراد.. بل تلك التي ظل يأكلها وحتى آخر «صفقة» الجراد.. نحن أعني بهم.. الشعوب العربية التي تحفظ من الشعر أعذبه.. ومن النثر أرفعه تحارب بالأناشيد وبالأغاني والأهازيج و «الصفقة والرقيص» تبني المصانع وتشيد المزارع.. وكل ذلك فقط في الخيال بل في موجات المذياع.. ونحن أعني بهم أيضاً حكامنا الأماجد.. أولئك الملوك أصحاب الفخامة والسيادة وأحياناً الجلالة وأخوانهم من الأمراء أصحاب السمو وطوال العهود.. ولست أدري ماذا يعني المتملقون الأغبياء.. وهم يخاطبون الحكام من تلك «العينة» ب«طال عمرك» وإلى متى يطول العمر.. هل أحد يلقى ربه وهو ينبض بالحياة.. و«نحن» أعني بهم أولئك الجنرالات الذين قفزوا بل صعدوا عتبات القصور الجمهورية المترفة الوسيمة.. شديدة الدثار عالية وشاهقة الأسوار.. صعدوا بل حصدوا هذا المجد.. بماسورة دبابة.. و«نحن» أعني بهم أيضاً أولئك «المحظوظين» والذين صاروا حكاماً يأمرون وينهون.. يحيون ويميتون.. يمنعون ويطعمون.. يعذبون ويهبون.. فقط لأنهم وجدوا أنفسهم بلا أدنى جهد ولا مجهود.. أبناء لحكام سابقين.. أو راحلين.. ثم ورثوا الحكم وكأنه «تركة» أو قطعة أرض.. أو صكوك نقد.. أو حقل.. أو حتى زريبة بهائم ليتواصل حكم العائلة.. انتهاجاً لنهج خطه وسنه «اليزيد».. ذاك الذي قال عنه تلودي وهو يشبهه بحجرة الفحم الحجري في ذاك القطار اللعين.. بل يخاطبه قائلاً.. جوفك يأكل اللهيب وأنا جوفي بياكلو اللهيب.. قلبك أقوى من الحديد وأجبر من قلب اليزيد.. هذا عن نحن.. إذن من «هم».. هم.. هم شعوب العالم المترف في النصف الشمالي من الكرة الأرضية وتحديداً.. دول الاتحاد الأوربي معهم فقط أمريكا.. ولست أدري.. ماذا يجمعنا بهؤلاء.. غير تلك الجيرة الجغرافية عجيبة التساكن بين نصف الأرض الشمالي ونصفها الجنوبي.. ولكن لا بأس.. لأن بضدها تعرف الأشياء.. لولا.. فقرنا وبؤسنا.. وهواننا ومسكنتنا.. وسوء حظنا.. في النصف الجنوبي.. لما تبدى جلياً بهيراً واضحاً ومبهراً.. تألق وتأنق وترف النصف الشمالي من الكوكب.. لا يهم.. فها هو الخط الوهمي الذي يفصل بين النصف الشمالي والجنوبي.. الذي تشير إليه لافتة بارزة الحروف.. هائلة الحجم.. مكتوب عليها.. هنا يتجاور الترف والقرف.. وهم أيضاً أعني بهم الحكام بل رؤساء الوزارات أو رؤساء الجمهوريات بالاتحاد الأوربي وأمريكا.. هؤلاء الذين لو قامت القيامة.. وانشقت الأرض عن اللا معقول.. أو لو حدثت المعجزات.. لن يستطيع أحد منهم أن يبقى في الحكم أكثر من ثمان سنوات حتى لو أتى لشعبه بلبن الطير.. حتى لو حول الأنهار جداولاً من شهد.. هؤلاء هم الذين لم يصل أحد منهم في أي استفتاء.. أو أي انتخابات إلى 60%.. ومن يحصل علي 51%.. يعتبر نابغة ترفع له القبعات والأقلام.. ترفع له الأعلام.. وتتغزل في نصره الأقلام.. هم الذين يذهبون في هدوء من القصر إلى الشارع العريض.. وليس كمثل حظنا «المهبب».. ونحن نجابه حكاماً.. شعارهم غير المكتوب هو.. إما القصر وإما القبر.. وغداً نبدأ..