خِطبةُ ودِّها مباحةٌ لنا ومتاحة إن أخذنا بأسباب رضائها ولم نُصبها بأذى اللَّحن المُسيء، ولم نتناول ما تنفرْ المسامع السليمة منه، وتشمئزُ النفوس ذات الذخيرة النقية عند وروده، فالتثبت عند كل ما نسمع، والتقصي لكل ما نتلقى هما سبيل الصلح معها، والصلح خير.. ليس كل الذي نسمعه هو من ذريَّتها، ولا كل ما نقرأ هو من أهل بيتها، ولعل هذا مما يزيد من عظم المسؤولية، فكم من كلمةٍ، وكم من تركيب وتعبير ظنناها من صحيح اللغة، وهي أبعدُ ما تكون عن ذلك، ولعل الصَّوارف التي أصابت مواضع التجويد عندنا في كل شيء لم تهمل ضرب مواضع خِطبة اللغة وكسب ودَّها، فقد قتلنا الذاكرة وأصبنا التفكير بعطب عندما احتلَّت الحاسبة مخازن جداول الضرب التي كانت مستودعاً حياً في أذهاننا، واجتهدت مكبرات الصوت في إضعاف حناجر الخطابة التي عمرت المنابر في الماضي، وتعدت الشبكة العنكبوتية على كثير من المهارات فقتلتها، وانتشرت الكتابة الركيكة سهلة التناول لتنال مقاعد مظان اللغة ومراجعها وتنأى بنا عن المعاجم والشروح، فأصبحنا نردد كلمات نتجهُ بها تلقاء معانٍ هي منها براء كقول أحدنا: أنا أتساءل، كيف تتساءل يا أخي وأنت مفرد والتساؤُلُ لا يكون إلا بين الجماعة وهو سلوك حِواريّ؟ فالصحيح قولنا: نحن نتساءل (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) الصافات«50» (عمَّ يتساءلون«1» عن النبأ العظيم«2») النبأ. لم تبخل علينا لغتنا بما تملك، بل غاصت بنا في دقائق المعاني والمسميات.. فأطلقت على سبيل المثال على حصاة التمر أسماءً ثلاثة، فقالت عن الغلاف الذي يُغطيها (القطمير)، وقالت عن المجرى الذي يعلوها (النقير) وعن ذلك الخيط الممتد في النقير (الفتيل).. (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير..) فاطر«13».. (أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيرا)النساء«53».. (فمن أوتيّ كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يُظلمون فتيلا) الإسراء«71». أما حركات التشكيل واعتوارها لمواضع حروف الكلمة، توفر لنا بيئة لا ينقضي التمتع بالعيش فيها، ولا تُملُّ مصاحبتها، فالضُحَّكةُ بضم الضاد وتشديده وفتح الحاء هو كثير الضحِك، والضُّحْكةُ بضم الضاد وتشديده وسكون الحاء، هو الذي لديه من الصفات ما يثير الضحِك منه، والصَّدَقة بفتح الدال هي العطاء في سبيل الله، أما الصَّدُقة بضمها، فتعني مهر زواج المرأة (وءاتوا النساء صَدُقاتهنَّ نحلة..) النساء«4»، أما الذُّنُوبُ بتشديد الذال وضمه مع ضم النون، فهي جمع الذنب وهو الإثم، أما الذَّنُوب بتشديد وفتحٍ، فهي تعني لغةً دلْوَ البئر واستُعمِلت بمعنى النصيب من الشيء (فإن للذين ظلموا ذَنوباً مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون) الذاريات«59». لمن أراد مثل هذه السياحة فيمكنه أن يعتادها ويَردَ مشارعها لينهل من جميل المعاني وأنقاها ما يوقظ المتعةَ ويدفع إلى المزيد.