اخترت منذ زمان بعيد أن أطرق في كتاباتي أبواب الأدب والفن والاجتماعيات بعيداً عن السياسة وغلوائها، فللسياسة كتابها ومحللوها الذين حذقوا الإبحار في بحارها بمدها وجذرها.. ومن يبحر فيها لا يسلم من شك وظن، غير أن ما يجري في البلاد من اصطراع واصطخاب يجبرك جداً للحديث، وليكن ما أكتب محض تأملات.. وابدأ القول بإن العاقل من كان قلبه على الوطن وسلامته وأمنه واستقراره، مهما كلف ذلك من تراجع وتنازلات ونكران ذات، فالمؤتمر الوطني الحاكم مطالب بإجراء حزمة من الاصلاحات السياسية، وتوسيع مواعين المشاركة.. والمعارضة مطالبة بالحوار السلمي للوصول إلى كيفية المشاركة بعيداً عن التعنت والتصلب، والشقاق والترغيب والوعيد.. هذا ببساطة ما يجنب الوطن العواصف والمحن في هذا المنعرج الحرج، الذي يمر به.. ألا يرى ساستنا ما يضمره الأعادي نحو بلادنا من تمزيق وتقسيم!.. رحم الله الشاعر الفذ الهادي آدم إذ يقول: (بلادي كلما ناديت نجماً * تفجر خاطري وهفا فؤادي أراني ما أقمت فآنت شغلي * وإن خف الركاب فأنت زادي يروم لك الأعادي كل خطب * ويأبى الله ما رام الأعادي يظنون الدروب فرش ورداً * وليس فراشها غير القتاد وما نقموا عليك سوى فخار * جمعت من الطوارف والتلاد نشيد أنت في فم كل حر * تموج به الحواضر والبوادي ترجعه بافريقيا طبول * تموج به الحواضر والبوادي) وربما سأل سائل: أهذا كل ما عندك؟ لم تأت بجديد. وردي أن الجديد عندي دعوتي ألاّ يدخلنا الساسة حكومة ومعارضة في اتون صراع مسلح، فكفى ما لدينا من خطوب، ودونكم ما يجري حولنا من تدمير للأوطان وسفك للدماء، ولتتيقن المعارضة أن الحكومة تقبل بفتح الأبواب لمن يريد مشاركتها في الخروج بالوطن آمناً مستقراً، في وجه مآلات الانفصال ومشاكل الأطراف المتنازع عليها، وهذا ما صرحت به غير أنها لن تقبل الخروج عن مسؤولية حكم الوطن، لتحل محلها المعارضة، إذ ليس هذا من المنطق في شيء.. أقول هذا من باب إعمال العقل والتأمل في طبيعة الأشياء، ومن باب تجربة سياسية تقل كثيراً عن تجربة الإمام الصادق المهدي.لا شك أن الحكومة إن كانت شمولية أو كانت ديمقراطية تحتاج لمعارضة قوية تشد من أزرها وتعينها على تصريف أمر البلاد، بتأمين الشورى وتداول الرأي، وإن صح أن الإنقاذ تعمدت إضعاف الأحزاب بتفتيتها وإخراج بعض قياداتها لتكوين أحزاب بديلة، أن السؤال: ما الذي يخرج أصلاً بعض قيادات الأحزاب من أحزابها إن وجدت داخلها التقدير والاعتبار المعنوي والمادي، إن كانت متفرغة للعمل السياسي.. هل أضحت أحزابنا بهذه الهشاشة التي تمكن كل من يريد تفتيتها للوصول إلى ما يروق له من تقسيم وتمزيق.. إن الذي لا خلاف حوله أن الأحزاب السودانية القديمة والجديدة تحتاج إلى الكثير من الإصلاحات الداخلية، وتحتاج إلى إعادة بناء.. ففيها الذي لم يعقد مؤتمراً منذ عهود.. وعضوية جلها غير محصورة ولا مكتوبة ولا معروفة، ولا يحمل منتسبوها بطاقات عضوية، ويفتقر بعضها إلى دور في الولايات، ويفتقر جلها إلى مال التسيير، وإن نشطت الأحزاب في تحصيل اشتراكات العضوية، حتى إن وصلت نسبة التحصيل إلى 30% فقط فإن ذلك يضمن التسيير.. هذا بجانب ما تدفعه الحكومة لدعم الأحزاب، وإن تعذر ذلك فإن مال الاشتراكات يفي بالتسيير، خاصة لدى الأحزاب الكبيرة التي تفوق عضويتها المليون مشترك.. إن تحصيل المال عسير غير أن عضو الحزب الملتزم لا يضن ب5 جنيهات في الشهر لحزبه.وإن تأملنا موقف الأحزاب من الانتخابات العامة الأخيرة وعدم جاهزيتها لتلك الانتخابات، وعدم جاهزيتها لغيرها فقد نصت اتفاقية نيفاشا على انتخابات عامة تقوم في نهاية الفترة الانتقالية التي حدد لها أكثر من خمسة أعوام، وكان المؤمل أن ترتب أحزاب المعارضة حالها لهذه الانتخابات منذ العام الأول، بحصر كشوفات عضويتها والتبشير السياسي في كل فجاج أنصارها، استعداداً لفترة التسجيل.. هل تهيأ حزب واحد من أحزابنا لتلك الانتخابات على هذا النحو بخلاف حزب المؤتمر الوطني؟. نعم لحزب المؤتمر كما تقول الأحزاب الفرصة الأوفر فهو في الحكم ويملك مفاصل الدولة، من خدمة مدنية وإعلام وهذا بلا شك يعينه على التفوق، ولكن ألم يكن من الممكن إن تعاملت الأحزاب مع الأمر بجدية واحكمت الرقابة منذ تقسيم الدوائر وفترة التسجيل، ووضعت خططها، واستنفرت عضويتها.. ألم يكن من الممكن منازلة المؤتمر الوطني، ووقف ما أشاعت من عمليات التزوير وانتزاع ثلث عضوية البرلمان على أقل تقدير، مما يمكنها من إسماع صوتها بشرعية القانون.. أين تجارب الأحزاب الطويلة في هذا المضمار، وفيها من تعلمت الحركة الإسلامية منه الدقة وإتقان العمل الحزبي، هرعت الأحزاب جميعها تلبي دعوة الحركة الشعبية لمؤتمر جوبا، وسبق أن قلت إن الحركة الشعبية لم تقدم للأحزاب الدعوة حباً فيها، ولكن كيداً لشريكها المؤتمر الوطني، ضمن فصول كيدها التي استمرت منذ توقيع الاتفاقية إلى يوم الانفصال.، فالحركة الشعبية التي شاركت الأحزاب مرحلياً في نضالها ضد الحكومة، هي ذاتها التي ذهبت منفردة إلى مفاوضات نيفاشا دون أن تصر على إشراك شركائها في النضال، ودون أن تعتذر لهم أو توضح لهم أسباب الانفراد. ذهبت الأحزاب لجوبا في أوج فترة التسجيل، وهل كانت تتوقع أن يكف المؤتمر الوطني عن التسجيل وينتظرها حتى تعود؟. فوتت الأحزاب فترة التسجيل وعادت دون أن تحزم أمرها، هل تشارك في الانتخابات أم لا.. وظل حزب الأمة أكبر الأحزاب في اجتماعات متصلة حتى عشية يوم الاقتراع، دون أن يصل إلى قرار بالمشاركة أم عدمها.. وصب هذا الاضطراب والتردد الذي عم الأحزاب في مصلحة المؤتمر الوطني فما حاجته إلى التزوير؟ واسأل: ألم يكن ذهاب الحركة وحدها لمفاوضات نيفاشا خير مؤشر للأحزاب، لفهم أن وئام الحركة المتقطع معها محض تكتيك مرحلي؟ ثم بعد أن انطوت فترة التسجيل قام رئيس الحزب الاتحادي بجولة أدهشت المراقبين وخرجت لاستقباله المدن التي يقطنها انصاره بمئات الآلاف ولكن 90% من الذين خرجوا «وهذا تقدير تأملي» لم يسجلوا انفسهم للانتخابات، لعدم توفر معينات التسجيل من مركبات تؤجر ودعاية وخلافه، والسؤال ما جدوى خروج المناصرين بمئات الآلاف بعد انتهاء فترة التسجيل. اللهم إلا أن كان ذلك لتنشيط المناصرين للانتخابات القادمة. إن الذي أكد لي غفلة أحزابنا إن لم أقل ضعفها وعدم اغتنامها للفرص التي تتاح هو موقفها السلبي من انتخابات اللجان الشعبية بالخرطوم، فقد أعلن والي الخرطوم حل اللجان الشعبية وإجراء انتخابات للجان جديدة في غضون شهر، وهي انتخابات تتم فقط بحصر سكان الحي وليس فيها تزوير دوائر ولا سجل ولا نشر كشوفات ولا خلافه وليس فيها إعلام ولا خدمة مدنية، تستغلها الحكومة ويتم الترشيح في الهواء الطلق، وتحسب الأصوات برفع اليد أمام الملأ بوجود الضابط الإداري المسؤول عن المنطقة. لم تعلن الأحزاب مقاطعتها لهذه الانتخابات، وجاء وقتها ولم يرسل حزب واحد مراقباً لتلك الانتخابات بخلاف المؤتمر الوطني، وهو بالطبع لا يملك وحده كل عضوية أحياء الخرطوم وقد فاز كثيرون من خارج عضويته وذلك باجتهاداتهم الفردية، وكان يمكن أن اهتمت الأحزاب بأمر هذه الانتخابات اكتساح كثير من الأحياء، وهذه الانتخابات إن فطنت الأحزاب أهم بكثير من الانتخابات البرلمانية، لأن الحزب الذي يمسك بالسلطات الأدنى من قواعد السكان هو الذي تفتح له الأبواب للتبشير ببرامجه وسياساته الرامية لخدمة الناس، وهذا هو الهدف من قيام الأحزاب، لم يصل لنا في حينا بكافوري مراقب من أي حزب بخلاف المؤتمر الوطني وأكثر ظني أن الأحزاب استخفت بهذه الانتخابات ورأت أن لا داعي للدخول فيها، ما دام المؤتمر الوطني يتنازل لها عن بعض حصصه بالتحاور والترغيب والوعيد.. وأختم تأملاتي هذه بخاطرة تمثل حال انتظار الأحزاب لتنازل المؤتمر الوطني عن حصصه، تذكرتها وأنا أكتب هذا المقال، وهي أنني كنت أعمل مساعداً للمحافظ في منطقة الفاو في عقد الثمانينيات، وكان مشروع الرهد في بدايته والبيئة من حولنا ملأى بالصيد.. كنا نخرج لصيد طائر الحباري، وكان لنا زميل لا يقوى على (التلتلة) والخروج معنا في النهار الحار للصيد، ولكنه كان ينتظر عودتنا ليقسم معنا قسمة عادلة ما ظفرنا به من حبار. أقول هذا وأشهد الله أنني مع حكم تقف فيه معارضة قوية مع الحكومة حتى لا تنفرد وحدها بأمر البلد، وهو بلد حتى لو ذهب عنه الجنوب يظل (حدادي مدادي وما بنبنيهو فرادي) كما يقول الشاعر الفذ محجوب شريف.. فإن قلت ما قلت عن ضعف أحزابنا فما قصدت إلا أن أرى أحزابنا تعمل اليوم قبل الغد، لتجديد شبابها، وإصلاح حالها، وتقوية عضدها، لتستشرف آفاقاً زاهية لتصبح بلادنا قدوة وانموذجاً للدنيا في التداول السلمي للحكم.. والله من واء القصد.