في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي توافدت أعداد من الطلاب السودانيين سعياً للعلم بمصر الشقيقة، وطلائع الطلاب في ذاك الزمان كانوا يتجهون للأزهر الشريف وكلية دار العلوم تحديداً، وكذلك للدراسة بجامعات القاهرة، الإسكندرية، عين شمس وأسيوط.. ومن الأفذاذ الذين تخرجوا في دار العلوم الإعلامي الكبير بروفيسور علي شمو وأستاذنا الجليل المستشار بولاية الجزيرة الأستاذ عبد الله الحسن والشاعر والمربي الكبير الهادي آدم صاحب قصيدة «أغداً ألقاك» للراحلة أم كلثوم، والشعراء جيلي عبدالرحمن ومحيي الدين فارس وتاج السر الحسن ومحمد محجوب حمد النيل ومصطفى طيب الأسماء والشاعر الطيب السماني وغيرهم من الأفذاذ السودانيين الذين أضاءوا سماء مصر والسودان والأمة العربية بفيض كبير من نور العلم والمعرفة التي عمت السودان والعالم العربي، كذلك علماؤنا الذين تخرجوا في مجالات الطب والهندسة والصيدلة والبيطرة والزراعة والقانون والعلوم السياسية في جامعات مصر الشقيقة، وفي معاهدها العليا الهندسية والزراعية، ولا أنسى معهد مشتوهر الزراعي العالي في صعيد مصر الذي تخرج فيه خيرة الخبراء الزراعيين، منهم شاعرنا الراحل المهندس الزراعي إسماعيل حسن، هذا المعهد الذي نافس معهد شمبات الزراعي في إعداد الخريجين الذين كانت المشاريع الزراعية في أمس الحاجة لهم، وكانت هيئة البحوث بواد مدني تعطيهم الأسبقية في التوظيف دون غيرهم. وبالعودة إلى الشقيقة مصر، كانت هي محطة انطلاق للطلاب الذين يرغبون في السفر شمالاً إلى أوربا سعياً وراء العلم الذي كان صعب المنال في بلادنا بسبب محدودية الفرص في الجامعات والمعاهد العليا. وبجهد شديد يشد الرحال من يسعده الحظ بالسفر من الإسكندرية ومنها بالباخرة إلى اليونان، وتعتبر في ذلك الزمان محطة انتظار لكثير من السودانيين الراغبين في السفر إلى داخل أوربا بالقطار الدولي «INTERNATIONAL TRAIN»، وكانت وجهة معظم الطلاب السفر إلى يوغسلافيا وهي الأمل المرتجى لكل راغب في الدراسة، وبانفتاح يوغسلافيا على العالم الثالث حسب توجهها الاشتراكي والذي يجمع بين الشرق والغرب، وصلت إلى يوغسلافيا في أوائل الستينيات، أعداد كبيرة من الطلاب السودانيين الذين جاءوا رأساً من الخرطوم عن طريق منح عديدة من الدولة اليوغسلافية لحكومة السودان، والآخرون عن الطريق الذي أشرنا إليه. وقد تزامن وصول هذه الأعداد مع زيارة الرئيس الراحل الفريق إبراهيم عبود مع وفد رفيع عال، تم من خلال الزيارة عقد اتفاقيات عسكرية وتجارية وثقافية، وفي الاتفاقية الثقافية تم استيعاب كل الطلاب المنتظرين في يوغسلافيا في جامعات بلغراد وزغرب «كرواتيا» حالياً، وفتح المزيد من الفرص في شكل منح لأعداد لاحقة. في جانب البحرية تم الاتفاق على إنشاء سلاح البحرية باستيعاب ضباط من القوات المسلحة في الكلية البحرية في مدينة اسبليت Split الساحلية، وبناء قطع السفن الحربية التي شكلت أول سلاح للبحرية السودانية، وقد عاد الضباط بعد تخرجهم يقودون سفنهم وكان منهم ثلاثة من أبناء ود مدني الأفذاذ، منهم ابن عمي الراحل الفريق بحري يوسف حسين بطري عليه رحمه الله، والذي أصبح فيما بعد قائداً لسلاح البحرية السودانية في بورتسودان، وبعدها كان أحد أعضاء المجلس الانتقالي في حكومة المشير عبد الرحمن سوار الذهب، وكذلك قريبي العميد م. سعد أحمد خير أطال الله في عمره، والذي يدير حالياً أعماله الزراعية في مدينة سنجة، وهو ابن المناضل المرحوم أحمد خير المحامي. كان أول قائد لسلاح البحرية هو المرحوم العميد صلاح محمد سعيد، وهو أيضاً من أبناء ود مدني، كما شملت الاتفاقية مع يوغسلافيا إنشاء أول أسطول تجاري وبناء السفن في موانيء رييكا وبولا على بحر الادرياتيك، وكذلك استيعاب عدد من الطلاب وتخرجهم كضباط بحريين ومهندسي سفن وبحارة في كليات ومعاهد يوغسلافيا، وقيام الخطوط البحرية السودانية التجارية الناجحة «SUDAN SHIP ING LINE» ورئاستها في بورتسودان، ولها مكاتب في أوربا في كل من ليفربول ببريطانيا، وهامبورج بألمانيا، وكان مديرها أيامها بألمانيا الصديق السيد محمود محمد إلياس من أبناء ود مدني، وأذكر من السفن التي شكلت أول أسطولاً تجارياً سودانياً البواخر الخرطوم، أم درمان، نيالا، دنقلا، شندي، القضارف، أركويت، مروي، الجزيرة ومريدي. وتخرجت من يوغسلافيا أعداد كبيرة من السودانيين في شتى المجالات. جاءت كل هذه المكاسب بفضل العلاقات القوية التي أقامها حكم الرئيس الراحل الفريق إبراهيم عبود في بداية حكمه والصداقة مع حاكم يوغسلافيا المارشال جوزيف بروز تيتو أحد أبرز قادة حركة عدم الإنحياز التي كانت تجمع أعظم حكام ذلك العصر، والذي استفاد السودان من إيجابياته كواحدة من الدول المستقلة حديثاً. وقد قامت يوغسلافيا بتقديم الكثير من المشاريع للسودان، أهمها إنشاء مصانع الجلود مدبغة الخرطوم ومدبغة النيل الأبيض المتجاورتين بالخرطوم، وإنشاء سلخانة أم درمان المركزية وكثير من المشاريع الأخرى، أهمها إنشاء طريق القضارفكسلا كأحد الأجزاء الثلاثة لطريق بورتسودان الذي اشتركت في إنشائه الصين، يوغسلافيا، إيطاليا وألمانيا. وبكل أسف تقسمت يوغسلافيا الصديقة وبقيت ذكراها عالقة في أفئدة السودانيين لما قدمته ورئيسها الراحل تيتو من أعمال لا تنسى. ود مدني