كنت قد وعدت القارئ الكريم في عمودي- عن أيام الخرطوم المسرحية- بالعودة إلى مسرحيات أيام الخرطوم المسرحية وندواتها الفكرية وتنظيمها بإسهاب، وهذا ما سأفعله لاحقاً، أما في هذا المقال سأعود إلى ملابسات مسرحية «إنقلاب للبيع»، كما وعدتك أيضاً قارئي الكريم في ذات العمود، ففي نهايات الثمانينات عرضنا مسرحية «إنقلاب للبيع» على خشبة مسرح قاعة الصداقة.. وهي مسرحية كانت تحذر من الفوضى التي عمت البلاد حينها، وجعلت المسرح السياسي مهيئاً لمغامرات عسكرية، وكان ذلك عام 1987، فما كان من الوزير المختص حينها إلا أن سعى إلى إيقاف المسرحية بشتى السبل، بدلاً من الغوص والتعمق في الذي هدفت إليه المسرحية. مسرحية «إنقلاب للبيع» مأخوذة من مسرحية «بكالاريوس في حكم الشعوب» لعلي سالم.. وهي تحكي عن طلاب مستجدين في كلية عسكرية في إحدى البلاد العربية، يستولون على السلطة من خلال إنقلاب عسكري، وبعد مغامرات وتجارب مريرة، يدرك قائد الانقلاب أنه بحاجة إلى دراسة، فيذهب إلى أكاديمية تعطي بكالاريوس في حكم الشعوب بعد فترة دراسية تمتد لأربع سنوات، وهناك يفاجأ بأن كل الطلاب من دول العالم الثالث وتحديداً من قارة أفريقيا. واءمت بين فكرة هذه المسرحية والرسالة التي تود توصيلها، وبين الواقع السوداني ما بعد السادس من أبريل عام 1985م، فسودنت بعض الأحداث، وقمت بتأليف أحداث أخرى جعلت المسرحية وكأنها كتبت خصيصاً للواقع السوداني المعاش، حينها وبدت وكأنها تأليف خالص. كنا مجموعة متجانسة من الممثلين والفنيين والإداريين.. أسامة الأمين- وعثمان إبراهيم في الإدارة- وصديق حسن- وعصام عبد الله في الفنيات- وعبد الحكيم الطاهر- وعبد الواحد عبد الله- وعثمان جمال الدين- وحياة طلسم- وعماد الدين إبراهيم- ومحمد بشير دفع الله- وإبراهيم بشير- والراحل عيسى تيراب- وعز الدين هلالي- وطارق البحر في التمثيل- وكان المخرج المنفذ الفنان عباس أحمد الخليفة- أبلى الممثلون بلاءً حسناً، وكذلك الإداريون والفينيون.. وكنا نؤدي القسم قبل بداية العرض للعمل الجماعي بإخلاص وهمنا إسعاد الجمهور. كانت الإعلانات على ما يرام في التلفزيون والصحف.. وكان التعويل على إعلانات تلفزيون السودان بأم درمان، باعتباره التلفزيون الوحيد حينها.. وبدأت الصحف تكتب عن العرض بين مادح وقادح، وعرف الناس مكان المسرحية، وبدأ الجمهور في الازدياد يوماً بعد يوم، وفجأة أصدر الوزير عبد الله محمد أحمد أمره بإيقاف إعلانات المسرحية عن التلفزيون، فكان قاصمة الظهر. توقف الجمهور عن الحضور باعتبار أن العرض قد توقف بإيقاف إعلانات التلفزيون، تصدت جريدة الوان لقرار الوزير، فكتب الناقد أبو القاسم قور «الدكتور حالياً» موجهاً حديثه للوزير بأن يبحث عن ما رمت إليه المسرحية بدلاً من السعي لإيقافها، لأن الإعصار قادم قادم، ولكن لا حياة لمن تنادي. تأثر الدخل بايقاف الإعلان بالتلفزيون، ودخلت المسرحية مرحلة الخسارة الكاملة تجارياً، وهذا أمر يصب في خانة الآثار السالبة لقرار الوزير، ولكن كانت هناك إشراقات لابد من ذكرها. أولاً أشكر كل الإداريين والفنين والممثلين، الذين أصر بعضهم على العمل بلا مقابل، إلى أن أكملنا الأيام المعلنة للعرض، وكان ذلك هو المتوقع، ولكن ما أود التركيز عليه في ختام هذا العمود هو المواقف النبيلة الأخرى التي تجعلني أزداد فخراً بأنني سوداني. فبعد توقف المسرحية تماماً ذهبت إلى دار الصحيفة التي كانت تتولى أمر الإعلانات، وقابلت الشخص المسؤول لأعطيه المبلغ الذي تطلبه الصحيفة نظير الإعلانات، ومن ثم استرد شيك الضمان الذي كان لديها، ولكنني فوجئت بالمسؤول يقول لي: (ياعز الدين نحن متابعين، ومتابعين قرارات الوزير، وعارفين المسرحية خسرانة، معقول نأخد منك قروش)، ثم أخرج الشيك من الدرج ومزقه أمامي، كان هذا المسؤول هو الأستاذ أحمد البلال الطيب، ولم أكن أعرفه حينها جيداً، ولكنني لن أنساه مدى الحياة. الموقف الثاني كان من الممثل الكبير عبد الحكيم الطاهر فوجئت بأنه يأتي إليَّ ذات صباح بسيارته الفيات الحمراء ثم يغادر منزلنا في الخرطوم بحري راجلاً تاركاً لي ورقة في الصالون مكتوب عليها بخط يده: (ياعزالدين أنا عارفك خسرت على المسرحية دي كتير.. بيع عربيتي دي وسدد بيها ديونك). هذا هو السودان وهؤلاء هم السودانيون.