(يا أيها الأطفال: يا مطر الربيع.. يا سنابل الآمال.. أنتم بذور الخصب في حياتنا العقيمة.. وأنتم الجيل الذي سيهزم الهزيمة) لو لم يختتم نزار قباني قصيدته الشهيرة «هوامش على دفتر النكسة» بهذه الأبيات المترعات ثقة ويقيناً في لطف الله وأقداره، لأحدث في قلوب قرائه، نكسة لا تقل وقعاً على هزيمة 1967م .. ذات التحدي الذي لاح لنزار- وهو يكتب قصيدته تلك بمداد الروح لا روح المداد- ما زال قائماً ومتجذراً في راهننا، لأن الثورة ستظل في عرف الناس وأفهامهم منظومة متراكمة متراكبة لفعل التغيير الشامل.. ولهذا لم أجد غرابة في الإتجاه الذي انتظم بعض الوسائط الإعلامية العربية، والمقالات الناقمة الناقدة لمسارات الربيع العربي ومآلاته المتوقعة، كونها تصدر عن نخبة تجد شرعيتها فيما هو قديم لا ما هو قادم، وتجد ذاتها وهويتها المتشظية ضمن أطر وتقسيمات وعلاقات مصالحية، لا تنتج إلا الأزمات، ولا تصدّر إلا المآزق، وقد قرأت مقالاً مقذعاً لغسان بن جدو الصحفي النابه، والمذيع اللامع بقناة الجزيرة سابقاً، اتخذ له عنواناً مثيراً «لماذا أتجاهل ثورة الربيع العربي» حشده- على غير عادته- بكثير من الأحكام المرسلة المتعجلة على شاكلة قوله إن «هذا الربيع لا يعدو في أعلى مراتب التوصيف أن يكون تمرداً اجتماعياً متشظياً قائماً على الانفعال العاطفي الوجداني لجمهور تائه» وقوله إن «هذه ثورات أوقدها النفط والجهل وحديث التعصب والتدين السياسي.. وليس القهر والحرمان والديكتاتوريات.. أما فلاسفتها الحقيقيون فلا يتكلمون العربية»!!.. وأنها «حركة فوضوية لجمهور بلا قيادة وبلا قائد وبلا عقل مدبر» ليتناول بعد ذلك ما أفرزه ربيع الأعاريب من رموز وشخصيات إعتبارية بشيء من التهجم والتهكم، فالغنوشي في نظره «ليس إلا فيلسوفاً صغيراً يقايض كتبه في إيباك بثمن بخس هو السلطة» أما في ليبيا فقد أبدى تهكمه الساقط بأحد رموز النضال هناك مصطفى عبد الجليل الذي قاد الإنتصار على ديكتاتورية اللون الأخضر، بلون الفداء الأحمر، وأسقط أوهام العقيد وعقده التي اختزلت المشهد الليبي بفسيفسائه وتضاريسه الإبداعية في يوتوبيا الهلوسة وكوابيس اليقظة .. أما سوريا فقد أفرد لها مساحة أوسع من حيث نقده لثوارها وأبطالها، وإبطاله لدواعي قيام ثورة على أحد الأنظمة المقاومة النادرة، التي لم تطلق رصاصة إلا على شعبها، لينتهي في ختام تطوافه الذاتي وطوافه حول نفسه إلى مطالبة الثوار لا الدكتاتوريات بالرحيل.. ولأننا لسنا في معرض الرد عليه أصلاً، فلن نكلّف أنفسنا في مجاراة سقطاته واسقاطاته النفسية، وعقده الشعورية.. وننتقل إلى أنموذج آخر أقرب إلى سياق الأحداث والتعاطي معها بتحيز معرفي لما يظن أنه حقيقة لا بتحيز أيديولوجي يرى أنه عين الحقيقة، وما سواه أباطيل، فقد كتب هشام صالح ترجمان المفكر محمد أركون، ولسان حاله بلغة الضاد مقالاً رائعاً تحت عنوان دال (هل يستطيع هيغل أن يفسر الربيع العربي؟) أبدى فيه إنزعاجه وامتعاضه من صعود الإسلاميين وصدارتهم غير المستحقة لللبلدان الثائرة المستجيرة من رمضاء الإستبداد بنار الأسلمة- حسب ظنه- معتبراً أن هذه الظاهرة ستحدث ردة عميقة في بنية الوعي بالتغيير لا التغيير بالوعي، أو- بحسب تعبيره- «سيظل المستقبل هو الماضي والماضي هو المستقبل» مستعيناً بالفيلسوف الضخم هيغل لفك طلاسم هذه المعادلة التي تعيد إنتاج الماضي بشكل أعقد تركيباً، وأقل اتساقاً كونه ينقل نماذج لا تتساوق، مع منطق الراهن وتتجاوز نطاقه.. ليخلص- بعد إستطراد فلسفي عميق- إلى أن هذه المرحلة التي يتصدرها الإخوان والسلفيون تعد ضرورية للولوج إلى عالم الحداثة والتقدم، وتتيح الفرصة لمصارحة الذات التراثية ونقدها، بعد أنسنتها وإزالة أغطية القداسة عنها، فقد انتهى حسب وصفه عصر الآيديولوجيات الإستلابية والمراهقات الثورية والطفولات العقلية.. وهذه الجزئية تنسف مقال بن جدو من أساسه، حين تعتبر ما يراه غسان مثالب وثقوباً في ثورات الربيع، ما هي إلا مزايا وسمات تفضيلية تضيف إليها ولا تخصم منها، فأجمل ما في ثورة الربيع أنها لم ترتهن لفرد أو نخبة، أو أيديولوجيا، بيد أن الأفراد والنخب والأفكار هنّ من آثر الإرتهان لها لما تمثله من ثورة على مستوى الفكر والفعل.. أما هشام صالح فقد كان حري به أن يستدعي الفيلسوف فوكولا هيغل لسابقته ومقدرته على تلاوة المشهد الثوري الإيراني، حين أطلق في العام 1978م نبوءته الصاعقة واصفاً الإسلام بأنه « برميل بارود سيغير ميزان القوى في المنطقة وربما أكثر..» وبمثل ما يحمل لنا ربيع الأعاريب بوارق الأمل فيما هو قادم إستشرافاً لآفاقه ووعوده، فإنه كذلك يحمل في طياته حذراً من عتمة أنفاقه، ووعيده وما بين هذا وذاك، تبقى الحقيقة التي لا محيد عنها وهي أن الثورات لا تصنع المعجزات ..!!