العدل والمساواة والسلام مبادئ عظيمة لواقع ظل تحقيقه حلماً يرواد الفلاسفة والحكماء منذ القدم، فقد صنع أفلاطون جمهوريته المفرطة في المثالية التي يقودها الحكماء، وشيّد الفارابي مدينته الفاضلة التي يسودها العدل والمساواة، وفي العصر الحديث تطلعت الإنسانية إلى نظام حكم يحقق لها العدل والمساواة، وينهي النزاعات والحروب التي عانت منها الإنسانية، وتلظت من ويلاتها إبان الحرب العالمية الأولى، فأنشئت عصبة الأمم لتجمع الأمم المختلفة، وللقضاء على أسباب النزاع واستئصال أسباب الصراع، لكن التنافس حول المستعمرات والهيمنة على العالم حال دون ذلك، فقد كانت بريطانيا لا تغيب الشمس عن امبراطوريتها، وكانت فرنسا تستعمر العديد من الدول في آسيا وأفريقيا، أما المانيا وإيطاليا فقد دخلتا ساحة الاستعمار لاحقاً، فكان لهما القليل من المستعمرات مقارنة بسالفتيهما، وقد أدى هذا الصراع المحموم بين هذه الدول إلى القضاء على عصبة الأمم والعودة من جديد إلى مربع القتال، فيما عرف تاريخنا بالحرب العالمية الثانية، التي قادتها النازية في المانيا والفاشية في إيطاليا واليابان، وخلفت وراءها دماراً هائلاً، ستين مليوناً من الضحايا، ولم تتوقف عجلة العنف البشري عند هذا الحد، فقد استخدمت أمريكا القنبلة الذرية في هيروشيما وناجازاكي لأول مرة في تاريخ الحروب بين الأمم، منذرة بمولد سلاح فتاك يمكنه إبادة مدن بأكملها، وإفراغها من السكان في فترة وجيزة، وانتهت هذه الحرب بهزيمة مذلة لدول المعسكر النازي الفاشستي، وبرغم الفوز الساحق الذي حققته جيوش الحلفاء بقيادة أمريكا، فقد خلفت هذه الحرب الكثير من الضحايا بالإضافة إلى الآثار النفسية والاقتصادية الضارة، ولكي يحافظ الحلفاء على مكتسباتهم، وخوفاً من العودة إلى مربع الحرب مرة أخرى؛ أنشئت هيئة الأممالمتحدة على غرار عصبة الأمم، وقد وعد الحلفاء بكفالة الحريات لكل الشعوب.. وكوَّن مجلس الأمن بغرض فض النزاعات والقضاء على أسباب الصراع بين الشعوب، ورضيت بقية الشعوب بذلك معتقدة أن فجر السلام والعدالة قد أشرق، لكن قوى الطغيان والاستكبار أفرغت هذا المجلس من مضمونه، وأفقدته هيبته ومصداقيته، وقد بدأ هذا جلياً في الطريقة التي يدار بها إتخاذ القرارات في هذا المجلس، فدولة واحدة من الدول الخمس دائمة العضوية بالمجلس وهي: (الولاياتالمتحدة، وبريطانيا، فرنسا، الاتحاد السوفيتي، الصين) تستطيع إيقاف تنفيذ أي قرار أجمعت عليه غالبية دول المجلس، مستخدمة حق النقض الذي أعطي لها (الفيتو)، فقد أعطي هذا المجلس صلاحيات كُبلت، لذلك نجده كسيحاً عاجزاً غير قادر على تنفيذ أي قرار مصيري تعترض عليه الدول التي تملك حق النقض، وما مواقف الولاياتالمتحدةالأمريكية واستخدامها لهذا الحق أسوأ استخدام في منع العدالة من أن تأخذ مجراها في إدانة إسرائيل وإنصاف الفلسطينيين، إلا واحداً من تجاوزات واخفاقات هذا المجلس. فما هذا المجلس إلا أداة طيعة في يد الولاياتالمتحدة تستخدمه في تنفيذ أي قرار تريد إمراره، وإيقاف أي قرار لا يخدم مصالحها، فمثلما صنع هتلرعندما تجاهل عصبة الأممالمتحدة وشن حروبه في أوربا، فقد قامت الولاياتالمتحدة بشن حرب العراق متحدية الأممالمتحدة مستخفة بقرارات مجلس الأمن، ولكن من يجرؤ على تجريم الولاياتالمتحدة أو إدانتها، ومن قبل أعترف المجلس بدولة إسرائيل التي قامت على اغتصاب أرض فلسطين، وتشريد أهلها، وسفك دمائهم، ثم وقف صامتاً إزاء جرائم اليهود في فلسطين، مما شجعهم على ممارسة المزيد من الجرائم والإنتهاكات البشعة في حق الشعب الفلسطيني، من هدم للمنازل، وحصار لمدينة غزة، ومنع إدخال أبسط مقومات الحياة من غذاء ودواء لسكانها، ثم الغارات الغاشمة التي شنتها إسرائيل على غزة مؤخراً، والدماء المسفوكة والأرواح التي أزهقت، والأسر التي شردت، وما خلفته هذه الغارات من آلام نفسية، وإعاقات بدنية، وجرائم بشعة، بثتها القنوات الفضائية بثاً حياً على مدار الساعة، وشاهدها الملايين من شعوب العالم التي خرجت في مظاهرات إدانة غاضبة، ولكن المجلس رغم ذلك وهو لا يحتاج إلى دليل أو شاهد- ظل مكتوف اليد عاجزاً عن اتخاذ أي موقف، أو إصدار أي قرار- من السهل جداً اتخاذه لإدانة إسرائيل إن لم يكن بسبب الأرواح البريئة التي أزهقت، فليكن بسبب انتهاك إسرائيل لقرارات الأممالمتحدة، واستخدامها لأسلحة محرمة دولياً، ولكن هيهات أن يحدث هذا أبداً حتى ولو كان على حساب هيبة المجلس، فالولاياتالمتحدة تقف بالمرصاد لإبطال أي قرار يصدر ضد إسرائيل، فدماء شعوب العالم الثالث والشعوب العربية رخيصة جداً عند هؤلاء القوم. بينما تجتهد بعض دول المجلس في إدانة رئيس دولة السودان، وتجعل مجلس الأمن يتخذ قراراً بتحويله إلى المحكمة الجنائية الدولية، لا لشئ سوى أنه مارس صلاحياته في بسط الأمن والنظام وردع المتمردين في دولته! وهو شأن داخلي من الطبيعي أن تتخذ حياله مثل هذه الإجراءات، ولا يحتاج إلى تدخل خارجي. وكذلك نراها تسعى جاهدة لاصدار قرار يدين إيران لمجرد سعيها لامتلاك الطاقة النووية بهدف الاستخدام السلمي، بينما يقف المجلس عاجزاً عن محاكمة رئيس الولاياتالمتحدة الذي اعتدى على دولة العراق متحدياً اجماع الأممالمتحدة ومجلس الأمن، ضارباً بقراراتهم عرض الحائط، دون تقديم أي مبررات واضحة عن هذا الإعتداء الغاشم أو الجرائم التي إرتكبت في حق الشعب العراقي بعد ذلك، فهذا الاستخفاف بهذه المؤسسات سيؤدي حتماً إلى فشلها كما فشلت عصبة الأممالمتحدة من قبل، وصار من الصعب أن تستعيد هذه المؤسسات ثقة الأمم فيها، ذلك لأنها أصبحت مجرد أداة تنفذ بها دول الاستكبار سياساتها ومطامعها. وتجعلها سيفاً مسلطاً على من يخالف أو يخرج عن طوعها. فهل شكلت كل هذه المنظمات والمؤسسات الدولية- التي تحمل أسماء لا تتوافق مع واقعها- لتحاسب الدول الأفريقية والدول المستضعفة، فقط لمنعها من ممارسة حقوقها في بسط الأمن والسلام وامتلاك ما يضمن لها الاستقرار؟ فلماذا إذن لم تدن إسرائيل رغم جرائمها وانتهاكاتها الواضحة التي لا تحتاج إلى دليل، ولماذا لم يقدم الرئيس السابق للولايات المتحدة- بوش- للمحكمة الجنائية لاعتدائه على دولة العراق، بفرية أسلحة الدمار الشامل؟ وكيف يسمح له المجلس أصلاً بشن هذه الحرب دون أن يستوثق من صحة معلوماته؟ أما الجمعية العمومية للأمم المتحدة فهي كالجمعية الأدبية، تنعقد لينفس المكروبون والمظلومون عن أزماتهم ومعاناتهم بالكلام والخطب، فقد افتقدت هذه الجمعية هيبتها ومصداقيتها، فقراراتها ليست ملزمة، فهي كالذي يصدر الأحكام ويفتقد لآلة التنفيذ، كل هذا قاد الأمم والشعوب إلى عدم الثقة بهذه المؤسسات والتشكيك في قدرتها على حل المشاكل، وإرساء دعائم السلام العالمي.لقد حطم الاستعمار حلم شعوب العالم في تحقيق السلام والعدل، وأفرغ هذه المنظمات من مضمونها، وجعلها عاجزة لا حول لها ولا قوة، فعلى الشعوب المستضعفة في مشارق الأرض ومغاربها أن تتحد وتقوي من كتلة عدم الانحياز، لتعمل على إصلاح هيئة الأممالمتحدة، بجعل قرارات الجمعية العامة ملزمة، والغاء حق النقض (الفيتو) ومساواة القارات في عضوية المجلس.. فدول عدم الانحياز تمثل غالبية دول العالم، وهي الآلية العملية التي تستطيع أن تلجم دول الطغيان، وتحقق حلم العالم في الأمن والسلام.