مضت ذكرى رحيل الزعيم إسماعيل الأزهري في الشهرين الماضيين دون احتفاء شعبي أو سياسي بهذه الذكرى العطرة، وأسعى في هذا المنبر بصحيفة آخر لحظة، ذات الانتشار الشعبي والسياسي الراجح، لاستدراك هذا الاحتفاء الذي غطى عليه استرجاع ذكرى حركة 25 مايو، وهو قد انتقل إلى جوار ربه مع بداياته. والاحتفاء بذكرى هذا الزعيم العظيم إنما تتيح لنا إيلاءه حقه في تاريخنا السياسي، وأكبر قيمة سياسية له هي أنه استطاع أن يحتل الموقع الثالث بين زعامتي السيد علي الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي، بعد رحيل السيد يوسف الهندي.. وقد استطاع أن يحتل هذا الموقع المتميز بين قلوب الملايين من أبناء شعبه، بعطائه السياسي المكتسب، وليس بانتمائه الموروث من قبيلة أو طائفة.لقد كانت الحياة السياسية منقسمة بين الاتحاد مع مصر والتحالف مع بريطانيا، ونشأ الحزب الوطني الاتحادي وحزب الأمة، ليعبرا عن هذا الارتباط بدولتي الاستعمار، (كانت مصر نفسها شبه مستعمرة لبريطانيا)، ويسجل للسيد عبد الرحمن المهدي رفضه لهذه الصيغة من الإرتباط وتفضيله استقلال السودان عن الدولتين، وقد حمل هذه الرؤية الاستقلالية أخيراً الزعيم إسماعيل الأزهري وبشر بها شعبياً ورسمياً، فجاء الاستقلال بفضل قيادته لهذا الخيار.كان الزعيم الأزهري ينتمي نسباً إلى طائفة السادة الإسماعيلية، فجده لأبيه هو مؤسس الطريقة الإسماعيلية، السيد إسماعيل الولي، ولكن الزعيم الأزهري لم يشأ الطريق السهل الموروث، وإنما استقل بزعامته عن طائفته، فكون له شخصية كارزمية خاصة، بعمله السياسي ونضاله الوطني، بتحالفه مع زعامة السيد علي الميرغني، ثم خروجه عن هذا التحالف، فرجوعه اليه أخيراً، فلو كان حزبه على ولاء طائفي لما خرج عليه ابتداء. ولعلم الجيل الراهن، فإن الزعيم إسماعيل الأزهري، كان من المناضلين الأوائل للاستعمار البريطاني، منذ أن تخرج في الجامعة، وعين استاداً للرياضيات بالثانويات، وقد دخل السجن بسبب هذا النضال ضد الاستعمار، فخرج منه وهو على شعبية واسعة، نمت بنشاطه السياسي في المراحل اللاحقة حتى تحقق استقلال السودان، فكان رئيس الوزراء لأول حكومة وطنية هي حكومة الحزب الاتحادي الديمقراطي التي فازت في أول انتخابات بالأغلبية البرلمانية.والقيمة السياسية الكبرى، كما أشرت، هي أنه كون لنفسه زعامة تكاد تضاهي الزعامتين الطائفتين، حتى أضطرهما للتحالف بينهما ضده، فيما يعرف بلقاء السيدين لأول مرة منذ الحركة الوطنية والاستقلال، والفرق بين الرئيس والزعيم هو أن الأول يكون على رأس إدارة الحكومة، بينما الثاني يجمع حوله الجماهير، فيقودها نحو تحقيق غاياتها في المرحلة، مفجراً طاقاتها حاشداً تأييدها، والزعيم إسماعيل الأزهري قد جمع بين الرئاسة والزعامة عن استحقاق حتى عرف بهذه الزعامة (الزعيم إسماعيل الأزهري) منذ ذلك التاريخ حتى الآن. وكان من الصعب أن تكوِّن هذه الزعامة بجانب زعامتي الطائفتين، وحتى لا نخلط في المصطلحات، فإن الطائفة الدينية هي محضن تربوي لأتباعها، كما عرف عن الطوائف الصوفية، أما الطائفية كما ابتدعها الاصطلاح السوداني فهي استغلال الانتماء للطائفية في العمل السياسي الحزبي، وقد استطاع الزعيم الأزهري أن يستقبل عنها في مرحلة من المراحل. وكان ذلك من أجل أعماله، ذلك بأن الطائفية تنطوي على خفض بائن في الممارسة الديمقراطية، حيث يختلط الولاء الطائفي بالولاء السياسي لمصلحة الأول، بينما تقوم الديمقراطية على حرية الإرادة في الانتماء الحزبي.هذه هي القيمة السياسية، وربما الفكرية الشخصية الزعيم الأزهري في التاريخ الوطني، لقد قامت الطائفتان بدور عظيم في تحقيق الاستقلال وكان حسبهما ذلك الدور، فقد نشأت الديمقراطية في مواطنها بالغرب، بعد أن ذوبت الولاءات الثانوية، العرقية والطائفية، وكان قدرنا في العالم الثالث أن تنشأ الأحزاب ليوكل اليها هي نفسها عملية تذويب هذه الولاءات الثانوية، فأضفنا اليها الجهوية.. من هنا نشأ الدور التاريخي للزعيم الأزهري، حيث جرت على يديه أول المحاولات للتحرر من الولاء الطائفي.أكثر من ذلك فقد كانت أحزابنا الطائفية تحمل خاصية الفصل، حتى الشكلي، بين زعامة الطائفية ورئاسة الحزب، فآل الأمر الآن إلى الجمع بينهما، مما يعد أكبر انتكاسة في الحياة السياسية اليوم. ألا رحم الله تعالى الزعيم إسماعيل الأزهري بقدر ما قدم لوطنه من جلائل الصنائع، وبخاصة تفريقه بين الزعامة الطائفية والرئاسة الحزبية. والله المستعان