منعم سليمان في اللحظة التي تقترب فيها بلادنا من حافة الانهيار الإنساني الكامل، يصبح كل قرار سياسي اختباراً اخلاقياً لا مفرّ منه. مبادرة الرباعية الدولية – أو قل الثلاثية الدولية إن أردت الوضوح والدقة – التي تعمل حالياً من أجل تنفيذ وقفٍ إنسانيّ لإطلاق النار، فتحت نافذة ضوء وسط العتمة، وطرحت سؤالاً جوهرياً: هل يريد أطراف الصراع فعلًا إنقاذ ما تبقّى من هذا الوطن المنهك؟ الردود كانت كاشفة وصارخة؛ قيادة الجيش في بورتسودان، التي تقبع تحت سيطرة الإخوان المسلمين وتقع أسيرة لخطابهم المعادي للإنسان، غير قادرة على الانفكاك من السيطرة الأيديولوجية لتنظيمٍ يريد العودة إلى الحكم، ولو على حساب أيّ شيءٍ وكل شيء! لهذا السبب يعيش البرهان في التردّد والمماطلة وشراء الوقت .. والمماطلة والتسويف في الرجل، لمن يعرفه عن قرب، طبعٌ وفطرة! وآخرها اجتماع ما يُسمّى ب "مجلس الأمن والدفاع"، وهو مجلس معادل لمجلس (دار الندوة) في جاهلية قريش قديماً، حيث كانوا يجتمعون فيه لتخطيط الدسائس والمكائد، وهو المجلس الذي اجتمع فيه كفارهم للتآمر على قتل النبي (محمد) صلى الله عليه وسلم، وقطع الطريق أمام رسالته الانسانية العظيمة. كما يفعل الآن الكفار بالديمقراطية في بلادنا! وجدير بالذكر هنا – ونحن في هذا اليوم المفترج – أن (دار الندوة) قد أسسها (قصيّ بن كلاب)، وكان رجلاً حكيماً ومهابًا وسط قومه، صاحب كلمة وشرف، ولا ريب، فهو من سلسلة أجداد نبينا الأكرم، صلى الله عليه وسلم، وقد مات قبل أن يُدرِك الرسالة المحمدية. بينما "ندوة الأمن والدفاع" قد أسسها (كرتي والكلاب)، وهم جميعاً – بلا استثناء – بلا أخلاق ولا شرف. أمس وافقت قوات الدع م السر*يع موافقة غير مشروطة وفورية على الهدنة الإنسانية التي طرحتها الرباعية – أو قل الثلاثية إن أردت الوضوح والدقة – وتعهد الدعم السريع في موافقته بإيصال المساعدات الإنسانية بصورة عاجلة إلى كل المناطق التي تقع تحت سيطرته. هذا موقف محترم ويُحترم، ويجب أن يلاقي التقدير والترحيب من كل القوى الديمقراطية، وألا يخضع أيّ أحدٍ لابتزاز أنصار القوى المساندة لاستمرار الحرب فيمنعه من الإشادة بالموقف. فمهما يكن، فإن من يقف ويُشيد بمن يقوم بأيّ خطوة من شأنها أن تسهم في إيقاف الحرب لا يمكن أن يُقارن أو يُحاسب بواسطة القوى التي تستثمر في قتل السودانيين ومعاناتهم، ثم تدّعي أنها تمثّلهم وتتحدث نيابة عنهم. والشيء بالشيء يُذكر، أو السيّئ بالسيّئ يُذكر، سمعت أمس البرهان وهو يقول إن الشعب السوداني سيحارب حتى النصر – لماذا يحارب الشعب؟! هكذا تحدّث الرجل بلا حشمة، سارقاً لسان الشعب السوداني الذي انقلب عليه وسفك دماءه ودمر بلاده وجوعه وشرده.. إنّ للغدر أخلاقاً!! البرهان لا يزال يخاطب الناس بخطاب الحسم العسكري، مع أن الناس – بعد مرور ثلاثة أعوام على الحرب – قد أدركوا أن هذه الحرب لن تنتهي بأدواتها الحالية ولو استمرت قرنًا من الزمان، وأن كل يوم يمرّ في ظل هذه الحرب يعني مزيداً من الاقتراب من المقابر، مزيداً من النزوح، ومزيداً من تفكّك بلادهم وتمزّقها وانهيارها الشامل الكامل. إنّ الشيء الذي لم يُدرِكه البرهان حتى الآن، أن الأزمة الإنسانية غير المسبوقة التي أفرزتها الحرب في بلادنا قد بدّلت مفهوم النصر في معاييره الدولية؛ فأصبح المنتصر فيها *ليس من ينتصر في الميدان، بل من ينتصر للإنسان*.