شرعت الحكومة في تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي والإداري المؤسسي، بما يشبه النفير السياسي الشامل لاستنهاض كل مؤسسات الدولة لمجابهة الأزمة الاقتصادية الراهنة التي تمظهرت في عجز الميزانية الكبير ونقص الموارد، الأمر الذي أدى لتدني سعر صرف العملة الوطنية وازدياد معدلات التضخم وتفشي الغلاء. يحمد للدولة أنها تعاملت مع الأزمة الراهنة بحزمة متكاملة ومتلازمة من الإجراءات بدأت بتصحيح الأخطاء الإدارية والاقتصادية مع استصحاب الواجبات المرحلية للحكومة في الرعاية الخاصة بضحايا هذا البرنامج الإصلاحي من العاملين وذوي الدخل المحدود والفقراء وأصحاب الاحتياجات الخاصة من المواطنين. أعلنت قيادة الدولة خطة صارمة في التقشف الإداري والسياسي التي بدأت بإعادة هيكلة المؤسسات الحكومية وإزالة مظاهر الترهل والتشوهات التي أصابت هيكل الدولة، الأمر الذي كثيراً ما نبهنا إليه في زمن العافية فلم يستبينوا النصح إلا في ضحى الغد!! لقد قضيت خطة الدولة التقشفية بخفض مخصصات وامتيازات الوظائف الدستورية وضبط المصروفات العامة وتحويل الدعم المخصص للمحروقات لدعم السلع الأساسية لحياة الناس والدعم المباشر للأسر الضعيفة، الأمر الذي يدعو للتقدير والثناء ويترتب عليه بالمقابل نهوض أهل السودان بما يليهم من واجبات، التي أهمها مراجعة الأسر للعادات الاستهلاكية البذخية السيئة والإسراف المذموم والاجتهاد في حسن إدارة اقتصاد الأسرة وفق الموارد المتاحة وتقديم الضروريات على الكماليات، غير أن أكبر ما يعاب على خطاب دولة الشريعة في السودان والمجتمع المسلم الانكفاء على لغة الاقتصاد وأرقامه الجافة والانغلاق في أسوار أسباب الأرض الظاهرة والهلع والخوف من النتائج المادية المتوقعة، والغفلة عن التطلع للسماء ورب السماء. نعم نحن مكلفون بالتماس أسباب الرزق بعمارة الأرض والكد فيها، ولكننا لا نكف عن التطلع إلى المصدر الأول الذي أنشأ هذه الأسباب!! إن المؤمن يعيش في الأرض، قدماه ثابتتان عليها ولكنه يرف بأجنحة الإيمان إلى ملكوت السماوات.. يأخذ بالأسباب ولكنه يستيقن أنها ليست هي التي ترزقه، فرزقه مقدر في السماء، وما وعده الله لابد أن يكون، تقول القاعدة الأصولية: (ترك الأسباب معصية ولكن الاعتقاد في السبب كفر)، ويقول تعالى: «وفي السماء رزقكم وما توعدون»، ولقد ربط القرآن بين الاستغفار والأرزاق في مواضع كثيرة ومتكررة، فيها يتضح الارتباط بين صلاح القلوب واستقامتها على هدى الله، وبين تيسير الأرزاق وعموم الرخاء، يقول تعالى «فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراًü يرسل السماء عليكم مدراراًü ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراًü مالكم لا ترجون لله وقاراًü وقد خلقكم أطواراً»، ويقول تعالى: «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون»، وقال في موقع آخر «ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيمü ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم...» وقال في موضع آخر «... ألا تعبدوا إلا الله إني لكم منه نذير وبشيرü وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله...». هذه القاعدة التي يقررها القرآن الكريم في مواضع متفرقة، قاعدة صحيحة تقوم على أسبابها من وعد الله، ومن سنة الحياة، كما أن الواقع العملي يشهد بتحققها على مدار القرون. روى الإمام الأصمعي نادرة ذكرها الزمخشري في تفسيره الكشاف نسوقها لطرافتها وصلتها بموضوعنا مع التحفظ في جانب الرواية. قال الأصمعي: «أقبلت من جامع البصرة، فطلع إعرابي على قعود له فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع. قال: من أين أقبلت؟.. قلت من موضع يتلى فيه كتاب الرحمن.. فقال: أتل عليّ. فتلوت: «والذاريات».. فلما بلغت قوله تعالى: «وفي السماء رزقكم وما توعدون» قال: حسبك!! فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى!!.. فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالإعرابي قد نحل واصفر.. فسلم عليّ واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت «فورب السماء والأرض إنه لحق»... فصاح وقال: يا سبحان الله.. من أغضب الجليل حتى حلف؟.. لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين!!.. قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه.