يأتي رمضان بخيره هذه حقيقة لا تقبل القسمة على نفسها، تبدأ كل الخيرات بالطقس، ألم تلاحظوا أن الأيام التي سبقت الأول من رمضان كانت ذات حرارة منفلتة ووخذ أبر تتسدد مباشرة من كبد الشمس لفروات الرؤوس وكان العرق المدرار هو الرد الأوفى من الأجساد؟ تغيّر الطقس يوم الجمعة، النسائم استمرت عليلة ومنعشة حتى أذان المغرب حين ابتلت العروق وثبت الأجر بإذن الله. تغتسل النفوس في رمضان من أدران التحاقد وتميل للتكافل وتتسربل بالرحمة وتكون أقرب للصفاء وينعقد عزمها على العطاء والبذل والتصدق ويكون الإحساس بالآخر الفقير هو الإحساس المركزي لكل صائم وتكون الحكومة رحيمة أيضاً وباذلة ومادة ومتصدقة لكن هل هذه الصدقات تستوجب التغطية التلفزيونية؟! كل يوم أشاهد أرتال سيارات ومسؤول يكبّر وجوالات خيش صغيرة وقصة خبرية ترافق المشهد بجدية تتحدث عن كيس الصائم، البارحة أغاظني مسؤول من أحد ولايات دارفور يتحدث عن هذا الكيس الذي أصبح في بلادنا هذه الأيام أشهر من المسؤولين أنفسهم كان يتحدث عن محتويات الكيس و(يمطّق) فمه ويوجه رسالته للفقراء!! هنا تخالط في ذهني المعنى الديني للصدقة والهدم المعنوي (للنجيهة) وتذكرت قول رسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم لرجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما فعلت يمينه وهو رجل من الذين يظلهم الله في يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله فهو من ستة آخرين سابعهم المتصدق الذي يرعى حرمة الصدقة ويضرب حولها السياج السري المطلوب ويخفيها حتى عن أعضاء الجسد. أنا لا ألوم المسؤولين إطلاقاً بقدر ما أوجه اللوم لأجهزة الإعلام فهذا النوع من أنشطة الدولة ليس مادة خبرية في الأصل.. إنه نوع من الأنشطة التي تتقاسمها برامج مختلفة ذات طبيعة اجتماعية وقطاعية والمكان اللائق بها هو البرامج وليس نشرة الأخبار الرئيسية التي تتجاوز المكان السوداني للفضاء الكوني وربما يتابعها باحثون من مراكز إستراتيجية ومؤسسات للبحوث فيفاجئهم (العرديب والكركدي ودقيق الفتريتة) فيغيب تماماً عنهم دور السودان المستقبلي - بحكم تعدد الحدود والتوسط الجغرافي الفريد - في الترتيب الدولي للمنطقة في ضوء ثورات الربيع العربي وما يتبعها من توازن إستراتيجي لن يكون إسهام السودان فيه كيس الصايم بقدر ما ستكون الكياسة!!