كنت قد تلقيت رسالة عبر الجوال قبيل العيد تدعوني للانضمام لأحد الوفود المغادرة صباح العيد للصلاة مع المرابطين والمواطنين ببعض المناطق المختارة ومنها «تلودي»، فرددت برسالة اعتذار نسبة لارتباطي بإمامة المصلين، وأداء خطبة العيد بمسجد أرباب العقائد «فاروق العتيق» بالخرطوم، ثم بلغني النبأ الفاجع بسقوط طائرة تلودي واستشهاد كل الإخوة والأصدقاء بعد خروجنا من المسجد!! قلت: سبحان الله الذي تجري الأقدار في ملكه بتقديره وتدبيره وحده جلا وعلا الذي يحيي ويميت، وقد جاء في كتابه العزيز «وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً». لقد كتب الله على هؤلاء الإخوة الشهداء أن يختارهم لجواره في صبيحة يوم العيد وبين يدي الصلاة.. في أفضل الأوقات، وقد التقت الأرض بالسماء.. في يوم الجائزة ومكافأة الصائمين بالرحمة والغفران والعتق من النار.. في لحظة مباركة يباهي الله ملائكته بعباده الذين فرض عليهم الصوم فصاموا.. تركوا الشهوات والعادات لأجل الله إيماناً واحتساباً، فيشهد الله ملائكته أنه قد غفر لعباده وفاءاً بوفاء. إن الموت حقيقة حتمية مقدرة في موعدها لا علاقة لها بالحرب أو السلم.. بالعافية أو المرض.. بكبر السن أو بصغره، ولا علاقة لها بحصانة وأمن المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته، إنما العلاقة هي بين الموت والأجل، وبين الموعد المضروب وحلول أوانه ومكانه.. يقول تعالى: «أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة». إن خشية اقتحام المواقف والتردد في تنفيذ التكاليف مهما كانت شاقة، والجبن من خوض المعارك الحربية مثلاً، ليس بمنجٍ من أقدار الله الغلابة وأمره الماضي. يقول تعالى: «قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم» إذاً هناك «أجلٌ» مكتوبٌ لا يستقدم ولا يستأخر، وأن هناك «مضجعاً» مقسوماً لابد أن يجيء إليه صاحبه فيضجع فيه، فإذا جاء الأجل سار إليه صاحبه بقدميه!! لا يسوقه أحد ولا يدفعه أحد إلى «المضجع» الذي تستريح فيه النفوس وتسكن إليه الخطى، وينتهي إليه مشوار الحياة، إنها أقدار الله وحكمته وحده تجلت في حادثة طائرة تلودي، وتتجلى في كل حدث في أرض الله وملكه، فقد روى شهود العيان كيف تبدلت مواقع و«مضاجع» أعضاء الوفود، فقد مضى إلى حتفه في طائرة تلودي بعض الذين أدرجت أسماؤهم في الوفود الأخرى!! وانصرف عن طائرة تلودي إلى الرحلات الأخرى - كادوقلي - والدمازين - هجليج من كان مدرجاً للسفر إلى تلودي!! وهكذا نجا من نجا ومضى إلى ربه من مضى بتقدير المولى وتدبيره المحكم. إن الإيمان بالقضاء والقدر لا يعني ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته، وكل ما يدخل في طوقه وإمكانه من استعداد وأهبة ووقاية واستكمال العدة، وتحضير المركبات، ووسائل النقل بقواعد الأمان، وضوابط السلامة، وكذلك تأمين المهابط والمطارات والموانيء البرية والبحرية- حسب الأعراف والنظم المحلية والعالمية- وقد شرع الإسلام كيفية خاصة للصلاة في الحرب «صلاة الخوف» تضمن للمجاهدين التوفيق بين متطلبات مواجهة العدو والمحافظة على أداء الصلاة في وقتها. إن الراصد لضوابط السلامة وقواعد تأمين المسافرين جواً أو براً أو بحراً يلحظ الضعف البائن لتلك الأمور في بلادنا، حيث لا يختلف إثنان في أن بعض الطائرات المستخدمة لا تصلح للمسافرين، ولكنها للمغامرين فقط، وينطبق الأمر على بعض المطارات والمهابط خاصة في المناطق النائية والمدن البعيدة، أما ما يسمى بطرق المرور السريع، فهي ليست بمواصفات طرق المرور السريع المعروفة، والتي شاهدناها في أركان الدنيا، من حيث السعة أو مواصفات البناء، أو مواقف الطواريء للإسعاف أو الصيانة، بحيث يصبح التخطي لأية سيارة في بلادنا هو مشروع حادث وذهاب أرواح في طرق المرور السريع، التي تجري عليها قاطرات ومقطورات ضخمة وطويلة لم تعد لها الطرق المناسبة بعد، وإذا تحدثنا عن المخاطر المحدقة بالمشاة العابرين لطرق العاصمة فحدث ولا حرج، حيث لا أنفاق أرضية أو كباري طائرة تؤمن الحد الأدنى من القواعد المطلوبة للسلامة. وختاماً.. نسأل الله أن يكون ذهاب هذه الثلة المباركة من القادة العسكريين والمدنيين والسياسيين وشباب الدفاع الشعبي والإعلاميين والدعاة الذين شكلوا لوحة وطنية مكتملة الأطياف، وقدموا وفداً إنابة عن أهل السودان لأهل السماء في يوم العيد.. نسأل الله أن يتقبل شهادتهم، وأن تكون هذه التضحية الكبيرة والغالية قرباناً مقبولاً عند الله يفرج به كروبنا ويقيل به عثراتنا، ويأخذ بأيدينا إلى سبل السلام وأمن واستقرار البلاد.