مشكلة حكومتنا المركزية أنها تسدّ أذنيها بطينتين، الأولى (طينة الثقة) المفرطة في النفس، والثانية (طينة الإعتماد) على الحكومات الولائية، خاصة في ما يتصل بشأن الأحوال الأمنية.. وتحاول الحركات المسلحة وما تبقى منها من عصابات مسلحة، تحاول أن تثبت وجودها (الدموي) في أي ميدان، حتى ولو كان الأمر من (دون مواجهة).. ونقصد بذلك عمليات الاغتيال بعد رصد الضحية مع نهب الممتلكات الشخصية ووسائل الحركة والنقل. الحكومة المركزية الآن عليها أن تراجع الموقف في ولاية شمال دارفور مراجعة كلية وشاملة، لأن الانفلات الأمني مع تسارع وتيرته الحالية سيبلغ مداه قريباً، إذ كيف يعقل أن يتعرض موكب حكومي رسمي على رأسه معتمد محلية «كتم» في شمال دارفور.. إلى (هجوم مسلح) يستهدف المعتمد- رمز السلطة- ومن معه، لينجو المعتمد ويقتل اثنان من حرسه ويصاب ستة من مرافقيه. لا أريد التعليق مجدداً، بل أعيد نشر مقال نشرته على نفس هذه الزاوية تحت عنوان (تجارة الموت بين الربح والخسارة) يوم السبت الرابع من أغسطس الماضي.. ونشره وحده يكفي، لأن فيه نبوءة بالفوضى وإشارات إلى مكامن (الضعف) و (التقصير). تجارة الموت بين الربح والخسارة! الذي وقع في مدينة «نيالا» حاضرة جنوب دارفور من أحداث، قبل أيام قليلة، وأودى بحياة نفر كريم من أبناء الولايات بأيدٍ آثمة لن يمر دون حساب أو عقاب، رغم التعقيدات المحيطة بإطلاق النار على المتظاهرين، فبعد استنكار المجلس التشريعي لولاية جنوب دارفور في جلسته الطارئة يوم أمس الأول لاستخدام «القوة المفرطة» لتفريق المتظاهرين ظهرت مفاجأة كانت متوقعة لكن ربما لم يضعها المتظاهرون في حسبانهم وهي دخول «طرف ثالث» في المظاهرات الاحتجاجية بين «المتظاهرين» و «الشرطة»، إذ أعلن الأستاذ حماد إسماعيل حماد والي جنوب دارفور من خلال بيانه الذي ألقاه أمام جلسة المجلس التشريعي التي شهدها أعضاء حكومة الولاية ولجنة الأمن فيها، أعلن أن هناك «جهات» غير الشرطة استخدمت السلاح الناري من مسافات قريبة في مواجهة المتظاهرين. وفي «كُتم» التي لا تبعد أكثر من سبعين كيلومتراً من «الفاشر» حاضرة ولاية شمال دارفور اغتال «مسلحون» معتمد محلية «الواحة» لحظة توقف سيارته للتزود بالوقود في إحدى محطات الخدمة وسط السوق. وقبل هذه الأحداث الدامية التي تتابعت، شهدت ولاية جنوب كردفان حادثة مؤسفة، قبل أسابيع قليلة اغتال خلالها مسلحون القيادي السابق في الحركة الشعبية، والقيادي الحالي بالمؤتمر الوطني، الشهيد إبراهيم بلندية رئيس المجلس التشريعي في ولاية جنوب كردفان وعدداً من معاونيه ومرافقيه، حيث وقعت جريمة الاغتيال تحديداً في السادس من يوليو الماضي. وجرت محاولات سابقة لاغتيال عدد من القيادات، فشل بعضها لسوء التخطيط، وفشل بعضها الآخر لاكتشاف السلطات والأجهزة الأمنية للجرائم قبل وقوعها، لذلك نجأ من الموت اغتيالاً وتصفية مولانا أحمد هارون، وقبله الأستاذ مكي علي بلايل رئيس حزب العدالة، والمستشار الأسبق للسيد رئيس الجمهورية في الثامن عشر من أغسطس من العام 2011م. جرائم القتل السياسي المنظم، تعتبر جرائم مستحدثة في بلادنا، لم تعرفها ساحات التنافس السياسي إلا مع ظهور «الحركة الشعبية لتحرير السودان» مثلما هو حادث الآن في جبال النوبة وولاية النيل الأزرق، على اعتبار أن أسلوب الاغتيالات والتصفيات الجسدية يعتبر جزءاً من التركيبة العقائدية والذهنية لمنسوبي الحركة «الأم»، وقائمة التصفيات هناك تطول، لكن أكبرها وأخطرها «اصطياد» الرأس الكبيرة للحركة عندما تم التخلص من «القائد» و «المؤسس» للحركة الدكتور جون قرنق دي مابيور. بعض حركات التمرد الدارفورية، التي نشأت في كنف الحركة الشعبية، وتحت رعايتها و «تدريبها» تطبعت بطبعها، فأضحت لغة السلاح هي الأمضى والأقوى دون غيرها، خاصة بعد أن أخذت الحكومة تفاوض كل من «هب» و «دب» وحمل السلاح، حتى أن بعض قطاع الطرق وجدوا لأنفسهم مكاناً داخل القصر الرئاسي في الخرطوم. نحن الآن في حاجة إلى «حملات» مكثفة لجمع السلاح، حملات لا تعرف «الحسابات السياسية» ولا المجاملات ولا الموازنات العرقية والقبلية والجهوية، حملات «تصادر» السلاح من كل الأيدي، إلا يد «الدولة» الممثلة في القوات النظامية، وأن تكون هناك عقوبات رادعة في مواجهة تجار السلاح الذين «انتعشت» أسواقهم بعد انهيار نظام العقيد القذافي في ليبيا، وتدفق مئات الآلاف من قطع السلاح إلى دارفور ودول الجوار.. وقد أصبح «تجار السلاح» أصحاب «مصالح اقتصادية» كبرى، نخشى أن تدفع بهم مصالحهم تلك إلى البحث عن «مصالح سياسية» تسهم في صناعة سياسات الدولة. على الدولة كلها وبكامل مكوناتها أن تعلن الحرب على تجار السلاح الذين يجنون الأرباح السوداء مقابل تجارة الموت، بينما تجني بلادنا الخراب والبؤس والحزن المقيم.