مدينةٌ رسمت في أنفاس شهيق الأشواق وزفير الحب والامتنان، منعت عني البحث عن ضياع الأماني، وأقبلت على مخاطبتي برقة دون جدل أو خصومة، سافرت اليها صغيراً واستقر بي المقام في زمان الأسفار، حين يتنقل الوالد بين محطات القطار ناظراً أو كمساري ركاب، أو غيرها من تلك الوظائف المتداولة في سكك حديد السودان.. ومن محاسن الصدف أنها الرحلة الأخيرة، ومنها جلس الوالد في المعاش لتكون هي المدينة المتمددة في أوراق الذكريات، فطال بنا المقام لأكثر من عقد، تشربت فيها بعاطفة الاعتصار، وأنا في بداية المعرفة تلمست ترابها، فأدركت أنها ثروة من الوجد الخرافي.. رأيت فيها الخضرة ذات خصوصية في مظهرها، شوارعها تنعم بعفوية الخطى، أهلها يودعون سر جمالها في قلوبهم، فتجد ابتسامة الحب تطل من وجوههم قبل أن يأتي الصباح، وما أنقى صباحها المجتمع على مطابع الألوان التي تخجل المشاعر، وهي في حالة تنادٍ أنضر وأشبه بحنان، قال عنها التاريخ باندهاش مشوق على قلوب العذراء وأصحاب الانتماء الكامل للنفوس الخيرة، التي تنام على وسادة العرفان والإلفة، وتصحو على رسم جمالي فريد في زمان الخريف الساحر.مدينة رسمت في قاع الوفاء أشتاتاً من العشق الخالص، وجذبت إليها لفيف الباحثين عن الملهمات التي تسابق عطر الحروف وتغسل الحرمان تماماً في زمان لا يعرف الرياء ولا يتناول خبز القسوة في أسواق الجمال الفطري، فكل شيء لا يعرف بعضه إلا بالصدق ولا ينكر المعروف، وإن جاء مسترخياً لظرف الزمان وبعد المسافات..! مدينة رسمت في نفسي جملة الحب والولاء الصادق، فظل مختزناً يعبر عن نفسه بامتعاض في هذا الزمن الجرئ والكاذب على قوالب الطهر والتسامح، الذي بات مقبوضاً على حافة الاعوجاج العاطفي، الذي يخاطب دواخله بحيرة، ويقسم أن الزمان رحل بمسميات الإيقاع السريع ليكون الحال مسرحاً متعدد الفصول وروايته جاءت من خلف أكوام القسوة الحديثة، لتكون الأدوار من نص قديم يحكي عن الصدق والجمال والجوف خالي من ومضات الذكريات لأن البعد طال، ولأن الواقع أمال، وامتلأ بمظاهر الماديات، فبات كل شيء مسخ لا طعم له ولا رائحة.. مدينة وضعت شعث الإلهام وجعلت منه تجربة الحروف باقية في الوجدان تنادي مقدحات الأشواق أن تطرق أبواب الماضي مساءً مسترجعة سوابق التحليق على أشجار السدر والمانجو وما خلفته من ثمر، لنتناوله صباحاً في إجازات الصيف، حين نأتي زرافات ووحدانا، ونبقى في انتظار الخريف حين تحلق الطيور القادمة من الهضبة الاثيوبية قادمة من سدني في رحلة الأسراب الطويلة.. أي دهشة تصيب العيون الجميلة، اختلاط أقرب الى الأحلام..مدينة تُسحر أهلها أولاً فيأتي إليها من هم أبعد منها لمجرد إنها شيء آخر لأنها وضعت في دائرة الجمال المطلق وأبكت ما أبكت من شعراء، وإن كان لزاماً يتبعهم الغاوون فبقاء التوازن الجمالي يفضي بالجلوس على ضفاف نهرها الموسمي، الذي يأتي حاملاً كل الأشياء حتى أغصان الأزهار والورود النادرة- مدينة خالدة في منعطف الذكريات، وإن تقدمت السنون ورحل بعض من أهلها قسراً في زمن الإشفاق الرمادي.. وكلما التقيت بأهلها هنا أحس بأن الجمال غالب في إجازة المدن الكبيرة ورائحة الماكينات وأبواق العربات، وزخم العواصم المؤلم لمثل هؤلاء الرائعين.. أبدأ احترق عشرات المرات محاولاً الرجوع لتلك المحطات الناصعة حين يغرد الطاؤوس النادر في أعلى أشجارها، وتغير منه طيور الجنة ذات الألوان المتعددة، وحكاية الجبال الشاهقة حين تمازحها سحابات الخريف فتتلاقى مدفقات المشاعر حين تذوب بألم جمالي على صخور تعودت الاعتذار دائماً باغفال صامت يعلن على أنه يبكي ألف مرة، فيظهر التجانس خضرة تشارك الجبال مسرح الجمال الجاد- مدينة رسمت في قلبي معلقة ثامنة.. فغنى لها بوجع جاذب أكثر من مطرب تعلم منها كيف يدغدغ مشاعر الجمع في أفراحها، التي تجمع كل الجمال مساءً وترقص الخواطر بشوق منتظر وإن كان للهجرة مساكن جزلى تتجدد في كل يوم ولا تنام إلا على أرصفة السهر الطويل- أقول حكاية في قلبي أفردها ملتقى العيد.. وصحوت أغني حبيت عشانك كسلا وذهبت أكثر صوت السواقي الحاني ذكرني ماضي بعيد.. أي ماضٍ واي بعدٍ هذا فلا زالت الجبال «توتيل- التاكا-مكرام» تنادي باشفاق للذين رحلوا من غير إذن برحول مفاجئ أين أنتم فقد هدت ثورة القاش وانتهت ملحمة الانتظار على ضفافه، لأن الحسناوات بتن في رحلة الأسفار لمدن الحصاد الزماني فقد كان يظهر تمرده لتواجدهن على مقربة من أشجار العشق القديمة، وأي فراش حائر قد أخذ من الصمت محطات للحزن، فكل ما كتب بات بأصالته ذكرى صادقة ونامت تماماً رحلة المسافرين الى كسلا، وانتهت القصة الصادقة حين انشغل الآخرون بهوس الماديات، فرحل الطاؤوس الى بلاد تعرف تماماً كيف تقرأ الجمال، ولا تبحث عن لقمة هانئة من صدر المدينة الكاذبة التي تتعامل بمبدأ الربح والخسارة، جاهلة تماماً أن في سيقان الورود ماء الورد، وأن في أغصان الأشجار ثمراً حلو المذاق، وأن في ترابها ينبت الذرة، وأن في جوفها ماءً عذباً يصلح للشرب بمعادن نادرة ويكفي أن مياه توتيل تسقي كل مسافر، فيعود إليها ألف مرة ويبدو أن الاختراق أقسم أن يهزم صدق العواطف القديمة بكل صفائها ونقائها.