بالخط العريض كان هذا العنوان مكتوباً على حائط دكان ابقرجة قبالة الشارع الرئيسي في هذا الحي، فالأسمنت الذي طليّ به هذا الجدار جعله أكثر إغراءً لخربشة المكبوتين من الجهلاء والبسطاء، ومجالاً خصباً لتنفسهم فهو عبارة عن سبورة كبيرة تسع كل هرج صامت ولكن لسوء حظ (أمونة) هذه فإن الفحمة التي كتبت بها محبتها كانت من شجر المسكيت وهو شجر جاء وافداً مع إحدى التقاوى المستوردة سابقاً فهو سريع الانتشار وأينما وقع أضر مخضراً على التربة أو محروقاً على الجدران فهو هش هشاشة من أدخله إلى أرض السودان الخصبة وله لمعة جعلته بارزاً من دون الكتابات الأخرى كالجير مثلاً، وقطع الطباشير التي لا يستطيع المعلم الكتابة بها لصغر حجمها فيلقيها دونما يراعي ما تصنعه من بعض صغار التلاميذ فحب أمونة بجواره الكثير من العبارات الأخرى والتي منها التذكار ومنها الاستنكار وأشياء أخرى كثيرة منع من ظهورها عوامل شتى كالخط مثلاً أو عدم إتقان اللغة بإهمال الإملاء في الكثير من المدارس مما جعل حتى الجامعات تعاني منه وليس حائط دكان (ابقرجة) وحده، وكل هذه العوامل ساعدت وأراحت أعين المارة الذين لا يلتفتون لمثل هذه الأشياء المبهمة فهمهم أكبر ومشغولياتهم صارت تجعلهم يسبقون ظلهم، فمنهم الذي لا يملك قوت يومه رغم تعليمه ومقدرته حتى على فك رموز الكتابة الهيروغولفية، فهو أذكى من (شامبليون) ولكنه لا يدري حتى ما يلبسه من أحذية، أحذاؤه أم حذاء زوجته أم حذاء أحد أولاده.. ومنهم من هو مشغول بهموم غيره ولكن لسوء حظي أقرئتها قهراً وذلك عندما طرق عم مضوي بابي بطرقات قوية فخرجت إليه مرحباً ولكنه لم يجبني بل ابتدرني بقوله «الله يلعن أبو تعليمكن...!»، قلت له ما الحاصل يا عم فما كان منه إلا أن قادني بعد أن أمسك بيدي إلى ذلك الجدار وهناك أخذ يتحدث بكل غضب وإشارات متوالية نحو الجدار عن التربية وما آلت إليه بصوتٍ عالٍ ونقد لاذع وأحزان مترادفة عما أصابها من إهمال وتدهور، ثم دلف إلى انعدام دور المعلم فيها وأنه أهمل تغذية تلميذه بالمثل والأخلاق الحميدة وأنه اعتمد على تعليم حروف خالية من معانٍ لا تسمن ولا تغني من جوع تربوي وأنها نفسها ناقصة أو زائدة في كثير من الكلمات لإهمالهم القواعد الإملائية التي كان المعلم يهتم بها ويوليها اهتمامه ويعاقب في عدم تطبيقها وفي عدم تكرار التصحيح من بعد الخطأ في كتابتها، وظل يسترسل ويمد يده إلى الحائط بإشارات متكررة وأنفاس ساخنة وأنا أقف أمامه صامتاً بلا كلمة واجماً بلا رد وما زال يتحدث ويجتر التعليم في عهدهم واحترامهم لمعلميهم وتقديرهم للكبار والآباء والأمهات واتقانهم للغات واهتمامهم بما اكتسبوه من التربية والتعليم الذي تلقوه من معلمين احترموا أنفسهم فاحترمهم طلابهم وقدرتهم مجتمعاتهم فنفعوا بعلمهم وعلوا بحلمهم، ثم تطرق ناقداً الوزارة نفسها، لاعناً لطريقتها في تعيناتها للمعلم وأن المعلم كان لا يتم تعيينه إلا بغربلة تحقق التعيين للرجل المناسب لتربية النشء، وأما اليوم فالشرط ورقة شهادة ومعاينة لا تعطي عشر المعيار الحقيقي ثم التعيين ونزولهم إلى المدارس.. طالب يعلم طالباً.. محتاج يعلم محتاجاً سبحان الله يا أبنائي.. سبحان الله ثم أطلق صراحي بفك يدي التي أصابها العرق والتنميل وتحرك وهو يصفق بيديه ولا زلت أنا واقفاً أنظر إليه من خلفه إلى أن عرج إلى طريق بيته فرجعت والحيرة تتابعني والأسئلة تترادف أمامي وأخذت أفكر واسأل نفسي لماذا لم يذهب عمنا مضوي إلى الشرطة؟.. لماذا لم يذهب إلى اللجنة الشعبية؟.. لماذا لم يذهب إلى إمام المسجد؟.. لماذا؟.. لماذا؟ ما دام هو غيور على العروض.. غيور على التربية.. ومن بعد صمت طويل وجدت أن العم على حق وأنه لم يخطيء مسار الحقيقة.. فحقاً ما قاله فالمعلم بإمكانه أن يحدث ثورة التغيير في مجتمعه وأنه يمثل جسراً مهماً تمر من خلاله التربية وهذا ما قصده هو وله التجربة سواء في نفسه أو ممن تعلموا من زملائه في زمانه.