كان لقائي به قدراً بعدما كنا نتداول أشعاره سراً أواخر عهد مايو وقع حينها في يدي ديوانه «الأطفال والعسكر» وكان ملكاً للأخت كمالة بابكر النور الذي استشهد بطلاً كالاسودالضارية. محجوب محمد شريف ابن السيدة الفضلى مريم محمود المولود في أم درمان 1948م هذاالرجل حين أختار أن يكون معلماً أواخر الستينيات من القرن الماضي، ولما تزوج المعلمة أميرة الجزولي وكانت شيلة العرس (شنطة كتب) لم يكن كل ذلك اختياراً بل قدراً. وكعادة العظماء لم يترك ولداً ليستمر تسلسل الأسماء ولكنه ترك اثنتين من أروع مهيرات السودان (مريم ومي) مريم ومي بنياتي وحشتني ولعبتن بي سلام يا غماماتي البتدني ابتساماتي التقيته وهو يحمل شنطته السمسونايت والآلاف يحملونه من زنزانته في كوبر صباح السبت 6 أبريل 1985م وكانت صداقة وأخوة استمرت عمراعرفت فيها من أين تخرج هذا الابيات التي لها قوة الرصاص فهذا الرجل العجيب كان عفيفاً لدرجة المبالغة وكان زاهداً في الدنيا كأعظم الشيوخ وكان يحب هذه الأرض وإنسانها كما لم يحبها أحد لا قبل ولا بعد، التقيته مرات ومرات ولكن ثلاثة منها لا تزال عالقة بالوجدان.. ü الأولى: يوم أن جئته وصديقي سعيد محمد سعيد وحدثته عن أمر سياسي حدث فطلب مني ملخصاً له وأعطاني ورقة وقلم نهار أحد أيام يوليو 1985 وكتبته وأعطيته الورقة قرأ ما بها ثم قال لي (وأنا المعلم وقتها في بداية طريقي) أنت مشروع صحفي ضل الطريق لماذا لم تتجه نحو الصحافة ولم أجب وقتها لأنني لم أعرف ماذا أقول!! وبعد كلامه هذا بثلاثين عاماً ولجت لعالم الصحافة فوجدت أنني أضعت عمراً طويلاً.بعيدًا عن مهنة أحببتها(فعرفت انه ذوبصيرة) . ü الثانية : طرقت يوماً بابه في منتصف الثمانينات ولم يجب أحد «يوم كان يسكن في الثورة الحارة التاسعة قرب بقالة مكرنجة» فقال لي صاحب الدكان جاره أدخل فلا أحد غيره والصغيرة مريم... ففتحت الباب في هدوء ووجدته في (ضل الضحى) نائماً على (كراب بلا مرتبه) وعلى يده تنام صغيرته مريم في وداعة وظللت لثلاثين عاماً نادماً لأنني لم أمتلك وقتها كاميرا أصور هذه الوداعة الرائعة وذلك الزهد العجيب . ü الثالثة : يوم أن زرته والسيدة الجليلة (الخنساء حسن علي) وكان يستقبلها في كل لقاء قائلاً أهلاً بالعروس رغم أنها متزوجة منذ بضع سنوات جلسنا والأستاذة الفضلى أميرة الجزولي التي رحبت بنا في مودة كما ترحب بكل أحبابه.. والله الحق (أميرة) هذه دائماً تذكرني بأمهات المؤمنين في تعاملها مع الناس، كأنها أم لكل سوداني وسودانية، رغم صغر سنها أو كأنها زوجة (سعد زغلول)أم المصريين. جلسنا والزهرتان (مريم ومي ) حوالينا كان ذلك في بداية التسعينات التي لم تكن تختلف عنده عن سنوات العسكر قبلها فقد كان محجوب يسجن ليطلق سراحه حتى يسجن مرة أخرى، ولم يكن السجن الا بسبب قلمه البتار ومواقفه الوطنية التي مافترت ولخصهاأيام مايو في رسالته لأمه مريم محمود: ماني الوليد العاق لاخنت لا سراق والعسكري الفراق بين قلبك الساساق وبيني هو البندم والدايرو ما بنتم يا والدة يا مريم صاحت (مي)يومها وكانت صغيرة جداً لا تتجاوز الخامسة أنا قلت لبتاع الأمن (أسمي زهرة وأمي وردة) فقلت له هل تتخيل (مي) حكاوي عن الأمن والاعتقال قال لا ولكنها قصة حقيقية عن استدعاء أمها للتحقيق معها وكان هو في السجن وقتها فأخذت معها «مي» التي تدخلت ببراءة بين أمها والمحقق حتى غضب منها وأتهم الأستاذة أميرة بتحريض ابنتها.. والقصة يعلمها كل أحبابه ومريديه هذه الحادثة ظلت بمخيلتي حتى اليوم ترى ماذاتحمل الصغيرة عن الوطن والسلطة في أغوار نفسها الغضة . الشريف محجوب لم يكن رجلاً عادياً كان عاشقاً للوطن في جسد رجل هدته السجون والمعتقلات، ولم تهد عزيمته فقد سجنته كل الأنظمة العسكرية وبات كثير الترحال من سجن شالا في دارفورإلي بورتسودان شرقا وهويرسل لرفيقة دربه أميرة بشتاق ليك كتير والله وللجيران والحلة كمان قطرالنضال ولى وغالي علي إدلى ، وفصل من التعليم عام 1978 أيام مايو، وعاد للتعليم بعد الانتفاضة، وتم فصله في بداية عهد الانقاذ في عام 1989م.. وحرمت أجيال من التلاميذمن تربيته لهم على حب الوطن وقيمه وحب الخير. نعم رحل محجوب عن دارنا الفانية بعد أن جعل الوطن أنشودة في أفواهنا وعلمنا كيف نحبه.. رحل بعد معاناة طويلة مع المرض.. رحل إلى ديار أرحب ورب كريم. رحم الله المحجوب الذي كان آخر كلامه واستعداده للرحيل: شبر والله في البكري ولا الفلل الرئاسية اذا ما عارف اعرفني من غير الله ما خايف ولا شايف هناك من يهد حبل الثبات فيني ويخوفني وما متوجس الاحساس من القادم لا طعناً ولا لعان ولا فاحش ولاني بذيء ولا نسناس ولا بجرح مشاعر الناس