المرور بحلفا: كانت حلفا العتيقة هي الطريق الوحيد إلي الخرطوم، وكانت حلفا تتألق جمالاً ورونقاً بإعتبارها ميناء هام، ويذكر السيرجيمس روبرتسون آخر سكرتير إداري في الخرطوم، أنه جاء إلي السودان في عام 1922م وجاء في عربات نوم إلي الأقصر، ومن هناك أخذ مع مجموعته القادمة للسودان وكلهم ثمانية أشخاص، قطاراً أصغر إلي الشلال الذي يقع مباشرة علي خزان أسوان، ويقول روبرتسون أن القطار كان بطيئاً وساخناً للغاية تنعدم فيه وسائل الراحة، بينما قدم وصفاً مريحاً للمركب التي إستقلها إلي وادي حلفا، وأمتدح العمال السودانيين، وتعاملهم الراقي، وقال إنهم يبدون في أدب جم ، ثم وصف جمال مدينة حلفا رغم أنه لم يمكث فيها كثيراً، وقال إن الرحلة علي النهر، كانت تجربة محببة، حيث سار عكس التيار ببطء عبر القرى، والمعابد، وأشجار النخيل، والمساحات الضئيلة من الخضرة علي ضفاف النيل، وكان (معبد أبو سمبل) قمة ما رأى أثناء الرحلة ، وعندما وصل إلي مدينة حلفا بعد يومين من الرحلة النيلية أمتدح مدينة حلفا لأنها جعلته في أمان، وكأنه قد وصل إلي المكان الذي يقصده، وقال: كانت وادي حلفا، مدينة صغيرة ، نظيفة، حسنة التخطيط، لأنه من حلفا ركب القطار الذي بناه كتشنر سنة 1897-1898م، والذي يمتد إلي 240 ميلاً من وادي حلفا إلي أبي حمد.وعندما شرعت مصر في بناء السد العالي، وعندما أصدر اليونسكو نداءاً عالمياً لإنقاذ آثار النوبة أسترعت النوبة إهتمام العالم، وجاء إلي حلفا كثيرون، وكانوا يمرون بمنطقة أبو سمبل لرؤية عجائب رمسيس الثاني، وكان السواح يأتون إلي وادي حلفا يقضون يومين ثم يعودون إلي أسوان، وكان السياح يزحمون الفندق الذي كان يسمى فندق النيل، وكانت الباخرة العتيقة «السودان» تقف قبالة حديقة الفندق، وكان بعض السواح يستخدمون المراكب الشراعية النوبية، ويعبرون لرؤية آثار بوهين العريقة ، وكان بعضهم يستعمل عربات الأجرة إلي قرية «عبكة» لرؤية الشلال الثاني ، وخلال هذه الفترة زار حلفا العتيقة شخصيات كبيرة من بينهم رئيس جمهورية يوغوسلافيا وأحد أبطال دول عدم الإنحياز، وصديق الزعيم جمال عبد الناصر المارشال تيتو، ودوق أدنبرة، وبعض أفراد العائلة المالكة البريطانية، والأمير برنارد الهولندي، والروائي البريطاني الشهير سومرست حوم، وأيضاً رئيس مجلس الشيوخ الإيطالي. وإذا كان هؤلاء جاءوا سياحة إلي وادي حلفا لكي يشهدوا جمالها قبل أن تغرقه مياه السد، فإن عدد ليس بقليل جاء بغرض إنقاذ آثار النوبة، وهم علماء آثار، وكان من بينهم الأميرة مرجرت وليَّة عهد الدنمارك، وكان هدفها المشاركة الشخصية مع بعثة بلادها في إنقاذ آثار النوبة، وإنضمت إلي البعثة الإسكندنافية، وأقامت معهم في منزل نوبي في منطقة «دبيرة»، كان مفروشاً بحصير محلي، وفضلت أن تفرش غرفتها بالبروش المصنوعة من جريد النخل، ورفضت السجاد الفاخر، وتم إستقبالها إستقبالاً حافلاً بالمطار، وعندما وصلت الي دبيرة، تمتعت بكرم العمدة داؤود عبد الرحمن، والذي تمشى مع العادات النوبية، وهو نفسه نوبي أصيل، كان رافضاً للتهجير، وظل صامداً في موقفه، وقد أهدى الأميرة طبقاً من السعف علية عينات من التمر، وقبضة من قمح محمص، وبعض فروع من نبات الريحان الفواح، وحفنة من الآبري، أما الناظر صالحين فقد أهداها عقداً من السملوك وهذه الأشياء تعتبر فألاً حسناً لحياتها الزوجية في المستقبل، ولقد كان أهل النوبة سعداء بالأميرة، لأنها لم تأتي فقط لإنقاذ آثار النوبة إنما كانت مشاركة في تذوق الحياة النوبية، لقد لبست ملابس الفتاة الحلفاوية الجميلة الواسعة الأهداب ، كما إرتدى أعضاء البعثة الجلاليب والعمائم، حتي أعتقد حسن دفع الله المدير الإداري لحلفا، إنهم عمال صعايدة من مصر . الأمير والأميرة: لقد زارت الأميرة مرجريت وادي حلفا يوم11/11/1962م، وأمضت أربعة وثلاثون يوماً، وكانت تعمل معهم في التنقيب تحت إشراف بروفيسور «سييف»، وكان مألوفاً أن يرى أبناء حلفا هذه الأميرة، وهي تحمل أدوات العمل في الشارع متجهة نحو موقع العمل، في فرح وإبتهاج، وكان العمال يعتزون في فخر برفقتها، وسلوكها المتحضر، ومثابرتها وقدرتها علي العمل، وقد حرصت قبل سفرها علي تناول طعام الإفطار مع العمال في سقيفة واسعة من الخشب عُرِّشت بالقش، وكان الإفطار مكوناً من رغيف وفول فقط لا غير، وعندما غادرت كانت قلوب وإحترامات أهل حلفا تحيط بها، وقد كانت تلبس الجرجار ثوب بنات حلفا والذي تحاول إحياؤه. وقد رأس ملك السويد جوستاف أدولف السادس لجنة منظمة اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة، أما الأمير الذي كان له القدح المعلى في عملية الإنقاذ فإنه الأمير صدر الدين أغاخان والذي عين مستشاراً خاصاً للأمين العام لليونسكو، وزار السودان في 1960م، وأشرف وزير الثقافة الفرنسي علي إجتماع باريس لإنقاذ آثار النوبة، وهناك القى زيادة عثمان أرباب وزير المعارف السوداني كلمة نيابة عن حكومة السودان، لقد كانت النوبة، وحلفا، وقد إمتلأت بالآثار التي أعجب بها كبار رجال الدول، وكبار المثقفين والعلماء، وبذلوا الجهد الجهيد كي يتحقق إنقاذ آثار عظيمة كانت مطمورة تحت رمال المكان، حتي جاء أمراء وملوك وعلماء إنقاذاً لها وتمجيداً لتاريخها المجيد.