٭ بينما نحن نواصل العمل في عرض مذكرات حسين «من زنزانته الأمريكية».. طرأ على العراق تطور داخلي مهم.. حيث كلف الرئيس العراقي الجديد فؤاد معصوم الدكتور حيدر العِبَادي رئيساً للوزراء خلفاً لنوري المالكي المنتهية ولايته (الثانية).. التي لا يريد لها أن لا تنتهي.. فرفض تكليف العِبَادي واعتبره «خرقاً للدستور» ولقرار المحكمة الدستورية العليا.. وتوجه بنداء تحريضي إلى القوات المسلحة ومن اسماهم ب«المجاهدين».. طالباً دعمهم والوقوف إلى جانبه باعتباره رئيس الحكومة الشرعي بحسب الأكثرية التي تتمتع بها كتلته النيابية في البرلمان.. (301 أعضاء «لدولة القانون» التي يترأسها).. قرار الرئيس العراقي باعتماد مرشح التحالف الوطني (الشيعي) حُظى بترحيب واسع على المستوى الدولي والاقليمي فبادرت الولاياتالمتحدة والأمم المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي وايران لمباركته وأبدت استعداداً للتعاون مع العبادي إذا ما شكل حكومة وحدة وطنية تتخطى الانقسام السياسي والمجتمعي الذي يشهده العراق.. ٭ لكن مع ذلك تبقى «الإيد على القلب» مخافة أن ينجح المالكي في تأجيج الأوضاع بنقل الصراع المسلح على السلطة من الموصل شمالي العراق الأوسط إلى بغداد العاصمة باطلاق مليشياته والموالين له في القوات المسلحة، الذين حشدهم في صفوفها بعد إعادة تشكيلها في أعقاب حلها إثر الغزو الأمريكي.. الأمر الذي يُدخل العراق في متاهة جديدة.. بما في ذلك فتح الطريق أمام «داعش» للدخول إلى العاصمة بغداد.. بمنطق «عليَّ وعلى أعدائي يا رب» أو بمنطق «نيرون» في إحراق روما.. ٭ نعود لموضوعنا.. الذي هو مذكرات صدام حسين من زنزانته الأمريكية.. باعتباره جذر الأزمة وتداعياتها التي تضرب استقرار العراق اليوم وتشعل الحرائق في قلبه واطرافه.. والملاحظة الرئيسيّة التي رأيت أن أضعها نصب أعين قراء هذا العرض لتلك المذكرات هي: أن كاتبها ومحررها المحامي خليل الدليمي، رئيس هيئة الدفاع عن صدام حسين.. والذي كان يلتقيه بهذه الصفة لم يكن محايداً تجاه صدام.. ولم يكن يقم بعمل صحفي مهني أو ببحث أكاديمي.. لكنه سجل تلك المذكرات ونشرها بدافع التعاطف مع رئيسه صدام حسين والانحياز لما يعتبره موقفاً وطنياً في مواجهة الأعداء الذين احتلوا بلاده وقبضوا على رئيسه وقادته بتلك الطريقة المذلة.. وهذا لا يقدح في «أمانة» ما نقله الديلمي عن صدام.. لكن هذا التعاطف والانحياز كان بادياً بين سطوره وصياغة عباراته واسئلته الموجهة وتعليقاته الحزينة.. وكل هذا لا يُفقد هذه المذكرات قيمتها «التوثيقية» باعتبارها وجهة نظر صدام في ما جرى له ولبلاده.. وهي- كما سلفت الاشارة- قيمة «موضوعية» لأي باحث في شؤون العراق يريد أن يضع في اعتباره ماذا يقول صدام ونظامه وماذا يقول معارضوه واعداؤه الداخليون والخارجيون. ٭ يستهل صدام روايته عن نفسه.. بالعودة إلى طفولته ونشأته.. ففي قرية «العوجة» إحدى نواحي «تكريت» حاضرة محافظة صلاح الدين وسط العراق- 071 كلم شمال غرب بغداد- رأت عيون صدام النور في 82 ابريل 7391م.. في منزل مكون من غرفة واحدة.. ولد ونشأ يتيماً.. فقد توفى والده «حسين المجيد» قبل ستة أشهر من ميلاده.. وأطلقت عليه والدته «صبحه طلفاح» اسم «صدَّام».. وهو اسم لا يخلو من دلالة.. فحياته المقبلة كانت كلها «صِدام وصدَمات» بما في ذلك نهايته المشهودة.. والعرب تعتقد أن «لكلٍ من اسمه نصيب»! ٭ كانت عائلته الصغيرة تمتهن الرعي والزراعة وتعيش فقراً مدقعاً.. وكان العراق أوانها يموج بحركة سياسية نشطة واضطراب في مسار النظام الملكي الحاكم.. ويشهد في الوقت ذاته نشوء حركات سياسية جديدة.. ولد صدام في هذه الأجواء والحرب العالمية الثانية تتعالى قرعات طبولها.. تزوجت والدته من زوجها الثاني «إبراهيم حسن» وانجبت له إخوة هم «برزان ووطبان وسبعاوي».. وتربى في سنوات عمره الأولى على يد والدته وزوجها الذي كان يمتهن أيضاً حرفة الرعي.. عاش الطفل اليتيم ما بين التجوال في البوادي والفلوات الواسعة والبيع والشراء في محطة قطار تكريت- الموصل لكي يساعد- قدر استطاعته- في إعالة اسرته وإخوته الصغار. ٭ شب صدام.. وفي روحه بذرة تميز وقيادة استشعرها من عرفوه في ذلك الوقت المبكر.. تلميذاً في ابتدائية تكريت.. فهو ابن بيئته الرعوية الخلوية الصارمة التي رفدته بالمثابرة والدأب والجدية.. وتجلت هذه الميزات والملامح الشخصية أكثر بعد التحاقه بالمدارس المتوسطة والثانوية إثر انتقاله إلى بغداد للعيش في كنف خاله المُدرس «خير الله طلفاح».. انتقل صدام إلى بغداد العاصمة في وقت كانت تشهد فيه انبثاق الأفكار القومية ونضالات الحركة الوطنية المعادية للاستعمار.. فبدأ وعيه يتشكل هناك في «دار طلفاح» التي كانت تعج بنشطاء العمل القومي ورجالات الحركة الوطنية وتتجمع فيها الكتب والمطبوعات السياسية والفلسفية والأدبية.. ٭ بعد أن أنهى صدام دراسته الثانوية.. حاول الالتحاق بأكاديمية بغداد العسكرية.. لكن أسباباً خاصة وأخرى سياسية تتعلق بانتمائه منذ تلك السن المبكرة لحزب «البعث العربي الاشتراكي»- 6591- حالت دون انخراطه في الخدمة العسكرية.. فهو قد تعرض حينها لفترات اعتقال متقطعة.. ٭ انقلاب عبد الكريم قاسم، الذي أطاح بالملكية في العراق 8591.. كان حدثاً مهماً في تاريخ صدام.. فالضباط الذين نفذوا الانقلاب ضد «فيصل الثاني، كانوا يساريين من غير البعثيين.. وكان «البعث» مناوئاً للسلطة الجديدة، التي لم تفلح في توفير الاستقرار، فقرر حزب البعث إحداث تغيير في كوادره وضباطه.. وبسبب اصدار قرارات بالحكم باعدام عدد من الضباط ومن بينهم ضباط بعثيين.. جرت محاولة من قبل الحزب لاغتيال عبد الكريم قاسم.. كان صدام أحد الكوادر الحزبية المشاركة في تنفيذها.. فشلت تلك المحاولة بعد اطلاق النار على موكب الرئيس قاسم.. وأُصيب صدام بطلق ناري في ساقه.. واستطاع رغم الاصابة عبور دجلة سباحة.. فاراً إلى بلدته قرب تكريت.. لاحقته الأجهزة الأمنية ولم تعثر عليه.. عاش صدام متخفياً لفترة ومن ثم قرر الهجرة.. وفي ديسمبر من عام 9591 بدأ رحلة مضنية وطويلة عبر الفيافي والصحراء سيراً على الأقدام وأحياناً بالدواب حتى وصل إلى الحدود السورية ثم دمشق، التي أمضى بها نحو ثلاثة شهور.. التقى خلالها بالعديد من رموز الحركة القومية، ولم تنقطع صلته بالحزب داخل العراق، وكانت تلك الرحلة وما تلاها مما ساهم في انضاج رؤاه السياسية وصعود نجمه في أوساط الحزب. ٭ بحلول فبراير 0691 وصل إلى القاهرة.. كان هدفه مواصلة الدراسة والكسب المعرفي فالتحق بمدرسة «قصر النيل» في القاهرة للحصول على الشهادة الثانوية تمهيداً لدراسة القانون بجامعة القاهرة.. وسكن بحي الدقي مع ثلة من رفاقه البعثيين.. وتدرج في العمل التنظيمي في صفوف الطلاب، حتى غدا المسؤول الأول عن طلاب الحزب في مصر.. وكان يمضي معظم وقته- كما اشتهر عنه- بين القراءة ولعب الشطرنج.. استمراراً للجدية والصرامة التي طبعت سلوكه منذ الطفولة.