ونحن على مشارف العيد السعيد، بعد أيام عمرت تفاصيلها بالصيام والقيام والروحانيات،التي لازمت حياتنا طوال أيام الشهر الفضيل، نرفع التبريكات متبوعة بدعاء متواصل لأبناء الوطن أجمعين، قيادة وشعباً، بأن يقيض الله لهم في عيدنا هذاسبلاً وفجاجا واسعة، يعم نفعها أرجاء الوطن كله،أمناً وسلاماً واستقراراً وعيشاً هانئاً وميسوراً، وكل عام وأنتم بخير. لا نجد بداً هذه المرة، من تصويب المساحة برمتها، تجاه أحد الإهرامات الشاهقة التي نثرت في النفوس المجدبة الألق والجمال، عبر نجيمات الفن السواطع، التي كانت سبباً أضاء عتمة الليل الحلوك، بعيداً عن حبس الأماني والرجاءات في سجون الحياة المظلمة.. في السادس من الشهر الجاري، أفاضت إذاعة ذاكرة الأمة كعادتها، في سيرة الراحل العاقب محمد حسن، رائد الغناء الذي عكف على تطوير ذاته وأسلوبه حتى غدا نجماً باهراً في مجاله.. كان العاقب- يرحمه الله- مثالاً للعصامي الطموح الذي لم يمنعه شيء عن إصابة الهدف وتحقيق المطلوب، بدأ حياته عاملاً بسيطاً قبل أن يأخذه تيار العلم، فكان ثالث ثلاثة وطنوا أنفسهم لدراسة الموسيقى، التاج مصطفى والدكتور الفاتح الطاهر، مضى العاقب محمد حسن على طريق التحصيل فاستطاع بإرادته،أن يتوج كفاحه العلمي بالتخرج في معهد الموسيقى بالقاهرة، متقدماً الصفوف خلال الحقبة المايوية، مما حدا بوزير الإعلام وقتها الراحل الأديب عمر الحاج موسى،إبراقه مهنئاً ومطوقاً عنقه بحافز كبير، لم يزد عن مائة جنيه- يوم كان الجنيه السوداني سيد الساحة- يقف في شمم وإباء يمد لسانه ساخراً من كل العملات، قبل أن يجور عليه الزمن، وتحاصره الأيام ليلقى حتفه هبوطاً وتدنياً، بفعل السياسات النقدية المتأرجحة، تفوق العاقب الأستاذ، في دراسة الموسيقى، والموشحات والمقامات العربية، نقل ما تعلمه عبر سلسلة من الحلقات التي قدمها للأجيال عبر الإذاعة السودانية.. عند إلتحاقنا للعمل بالإذاعة، وجدنا الأستاذ موظفاً معروفاً بقسم الموسيقى، مجاورا في المكتب عدداً من الموسيقيين منهم على مكي، أحمد داؤود، بدر التهامي، علاء الدين حمزة، أحمد حامد النقر، عبد الدافع عثمان، برعي محمد دفع الله، عبد الفتاح الله جابو، محمد الحسن السنجك، حمزة سعيد، عوض رحمة، محمد الحسن سمير، قرعم، على أبوديه، (الخميسين،) جوهر ومقدم، محمد المصري، فرح جيش، الزبير محمد الحسن، عبيد محمد أحمد، محمد جبريل، حموده، الفاتح الهادي، ابوشنب، صلاح عمر، الطيب أصله، وغيرهم.. كان (الأستاذ) من الناشطين في مجالات الموسيقى، الى جانب كونه فناناً له أسمه ووزنه، كانت له مساهماته اللحنية عند الآخرين، أمثال محمد ميرغني وعبد العزيز المبارك، كان عضواً بارزاً في لجنة الأصوات بالإذاعة، امتاز في عمل اللجنة بالصرامة والشدة، ينظر بمعياره الدقيق، للقادمين الجدد، متمسكاً بقوة أن يكونوا إضافة تثري الساحة بأصوات فريدة بعيداً عن المسخ والتكرار الممجوج، عكس ما نلحظه في زماننا هذا ونراه،.. أثناء كتابة هذه السطور عن فنان الفنانين العاقب الأستاذ، سألت صديقنا الإذاعي (القديم) بخيت أحمد إبراهيم، أحد أصدقاء العاقب وأصفيائه المقربين، عن سر نجاح العاقب وتفوقه في الأداء والتلحين، كانت إجابته أنه- (أي العاقب)- كان مدركاً حصيفاً لما يفعل ولما يقول، يتأنى في تقديم أعماله بحثا ًعن التجويد، في إحدى المرات اصطحب بخيت رهطاً من شباب الإذاعيين لزيارته، منهم أسامة جمعة، ماهر حسن مختار، طلال عثمان، متوكل طه، وغيرهم، لمعاودته في مرضه بمنزله بامبده شارع مدني، طرقوا عليه الباب فاستقبلهم بفيض من الدموع التي تساقطت تباعا، كتعبير حتمي لتلك الزيارة، التي حملت بين طياتها حتمية تواصل الأجيال... عرف الأستاذ، هكذا كان يناديه شيخ النقاد ميرغني البكري بين أقرانه، بسماحة النفس والخاطر المشروح تعلوه ابتسامة عريضه تأبى مطلقاً أن تفارق وجهه، حتى في أحرج وأحلك المواقف والظروف، معروف أن العاقب محمد حسن ، بدأ حياته مقلداً للعميد أحمد المصطفى، قبل أن يعمد الى انتاجه الخاص بعد إلتحاقه بالإذاعة، حيث ظهرت ملامح الدراسة في كل أعماله، التي تنوعت بين الأغنيات القصيرة والطويلة، على شاكلة ( نجوى) و(حبيب العمر) للأمير عبد الله الفيصل، و(هذه الصخره) لشاعرها المصري مصطفى عبد الرحمن، ثم اكتملت لوحته الفنية من خلال تعامله الراقي مع عدد من الشعراء من بينهم السر قدور، اسماعيل خورشيد، حسن أمين، والد الأعلامية عفاف حسن أمين، عزمي أحمد خليل، مهدي محمد سعيد، أبوالمعالي عبد الرحمن، الفاتح الطاهر، رحمى محمد سليمان، بدر الدين الجارم، اسحق الحلنقي، التجاني حاج موسى، عبد الله النجيب، ابوقطاطي، سيف الدين الدسوقي، بشير محسن وغيرهم... من أشهر اغنياته التي كتبها قدور، (ياحبيبي نحن إتلاقينا مره)، دفعت الفلاتية بهذه الأغنية للعاقب لتلحينها، فلما سمعها عنده صديقه التاج مصطفى، سأله لماذا لا تضيفها اليك لتزيد رصيدك، أجابه العاقب إنها (حقت الفلاتيه)، لايستطيع أخذها منها، تولى التاج الأمر وذهب للفلاتيه غضباً قائلاً... كمان ياعشه دايرة تمشي الاذاعه وتغنى أمام الناس.(.. ياحبيبي نحن إتلاقينا مرة. وعايزة أشوفك تاني مرة الف مره..).الكلام ده ياعشه مابجى، إنتبهت الفلاتية لحديث التاج، قائلة.. (.يا ود أمي شن أسوى، ده كلام الشاعر)، أمرها التاج الرجوع للشاعر لتعديلها ولكن قدور رفض، فمضت الأغنية للعاقب، تسبقها حيلة التاج مصطفى الذكية، كتب العاقب بعض نصوص أغنياته منها (..العوده لى متين.).و(أنت فاكرني)؛. وظل مواصلاً لمشواره حتى فأجأته المنية في 6/7/1998م مودعاً الدنيا التي ملأها شدواً جميلاً...رحم الله الفنان المثقف والإنسان العاقب محمد حسن ، رحمة لا عذاب من بعدها، فقد ظلمناه في حياته رغم إنه قدم الكثير، والتحية لأسرته وأبنائه وأهله وعشاقه أجمعين...