لم أتوقع أن أصادف(معمعة).. فهي داخلية وللبنات وفي حي شعبي، ومع ذلك فضلت الاحتياط فاستعنت بصديق يفهم في سيناريوهات الزحام، لكنه اشترط الحضور مبكراً، فتأكدت بأنه لا يضمن لي الانفلات من عراك الشبابيك والمواعيد وحكاية اسمها (الشبكة طشت)، فضلاً عن زحام الطرق.. الحياة اليومية في عاصمة البلاد يحاصرها زحام شرس متزائد بلا رحمة، خاصة أمام شبابيك خدمة الجمهور، والامر بلغ طور تدخل الرجل الثاني في الدولة كما تابعنا.. دعونا نأمل فقط أن تفلح جهود المسؤولين في إنقاذ المستشفيات من هذا التزاحم غير الإنساني. عبرنا تقاطع (ود البشير) بلا ذلك الزحام المربك.. الجسر الجديد أثار كوامن الإعجاب بالانجاز، لنفاجأ بحشود من الآباء والأمهات والطالبات يتزاحمون على باب التقديم لداخلية في حضن هذا الحي الأم درماني العريق.. يقال إن التطور مسألة متكاملة، تذكرت ورش العمل العديدة التي أقيمت عن تبسيط الاجراءات والحوكمة وتوظيف الحاسوب، لتتجاوز الدولة مشاكل الترهل الوظيفي، وضعف الاداء، وتناقض المشهد- هنا تطورنا وهناك مازلنا في الحضيض..الزحام هنا مختلف، فهم آباء وأمهات قادمون بحثاً عن مأوى بديل آمن لبناتهم جوار الجامعات التي قبلوا بها..العراك داخل السرادق، فالعدد كبير والكل يتخوف من ضياع الفرصة، بينما الإذاعة الداخلية ترفع من الهمم والمقر من الداخل يبدو كخلية نحل فتفاءلنا. أخيراً اكتملت اجراءات الطالبة التي جئت معها عوضاً عن ولي أمرها بالشمالية، واحتضنت يدها بفرح طاغ بطاقة الداخلية، ومعها قائمة بشروط تربوية قاسية تسعد أي ولي أمر، وقد تستفزه.. فالمشرفة على الداخلية أشعرتني بهذه الاجراءات المشددة بأنها الآن أولى بها مني، وأبلغتني صراحة وبحزم أنه لا يحق لي أن أزورها بالداخلية إلا بعد إبراز أوراقي الثبوتية.. وكنت طوال الوقت اتعجب كيف تدار هذه(المعمعة) بين يدي طاقم من الكوادر الشابة يجلسون خلف الحاسوب، ويتجولون مع الجوال ويتعاملون مع عدد هائل من أولياء الأمور بانضباط واحترام، وتصورت أنه ما يحدث في داخليات مماثلة منتشرة بأنحاء البلاد مع انتشار الجامعات، فكيف تتحمل مؤسسة مسؤولية إدارة هذا الكون من فلذات الأكباد نيابة عن ذويهم ووفق برامج متنوعة واجراءات تربوية صارمة، وفي مناخ عام قلق تجاه الأبناء وهاجسه الشفافية المطلقة، فلا مجاملة في حق أجيال قادمة في أزمنة صعبة معقدة. مثل هذه الإجراءات المشددة والبرامج المتنوعة فيها طمأنة مطلوبة.. وتعكس التحدي الماثل أمام المسؤولين عن الداخليات وقد توسعت رأسياً وأفقياً كما نتابع في الأخبار.. ونعلم أنها الآن تأخذ شكل (مدن جامعية)، انتشرت في أنحاء البلاد (لمساندة التعليم العالي)، كما تقول المطبوعات التي وفرها لنا مسؤول الإعلام بالصندوق القومي لرعاية الطلاب الأستاذ مكاوي علي مكاوي ومعاونوه، وفيها معلومات جديرة بأن تصل للناس عبر مختلف الوسائط، فهي تحكي عن جهود انتظمت يساندها النقد على مدى ربع قرن ليقطف ثمارها كم هائل من الطلاب والطالبات والوالدين والمجتمع والدولة معاً.. الغاية كما يقول الأمين العام للصندوق برفيسور محمد عبدالله النقرابي هي الحفاظ على إرث المجتمع السوداني في مجال(الايواء) البديل للأسرة وإثرائه. يبدو أن الصندوق كمؤسسة مجتمعية كان يبحث عن مبرر ليتحمل هذه(الأمانة)، وهذا الهم القومي الجليل نيابة عن آلاف الأسر السودانية، فاستدعي فكرة الايواء بعبقريتها الراسخة في المجتمع، بما حفلت من قيم المبادرة والشهامة والإحسان ليجسدها في برامج تربوية مفعمة بعناصر تجديد الطاقات وتحفيز عناصر الالهام في الطلاب وتهيئة بيئة الدراسة الجامعية بمحفزات التنشئة المتكاملة عبر مناهج متعددة وطموحة، يبدو انجازها مستحيلاً بلا(عصا موسى).. إن تمدد الخيال بين (داخلية الطالبات بواد البشير) بام درمان و(مدينة داؤود عبداللطيف الجامعية) بالخرطوم هو ما جعلنا نتذكر (عصا موسى) ومعنى أن تحل يد الله عز وجل في الأشياء.. هناك خطوة موفقة بعنوان (الشراكة المجتمعية) تبناها الصندوق بهدف إشراك المجتمع والترويج للمبادرات المجتمعية الراسخة في مجال ايواء الطلاب في الخلاوي والمعاهد وبيوت الأسر والجامعات العريقة.. وجدت مثالاً لهذه الشراكة المجتمعية في (مدينة داؤود عبداللطيف الجامعية) بالعمارات، وهي واحدة من 155 مدينة جامعية بالبلاد، تأسست بمشاركة القطاع الاقتصادي، تصميم كلية الهندسة جامعة الخرطوم، وعلى أحدث طراز كما شاهدتها مع صحفيين ورؤساء تحرير لدى افتتاحها- برجان، 180 شقة، 792 طالبة، رسالتها تعليمية تربوية تتسق مع الدور الاجتماعي والوطني للمرحوم داؤود عبداللطيف- (ناشط في العمل الإجتماعي، برلماني، وزير الشؤون الاجتماعية مسؤول عن الإعلام والعمل 1966). يضيق المجال للتعليق على دور هذه الداخليات تجاه الأسر وإثراء لإرث (الإيواء) بمقوماته السودانية الصميمة وقد استدعى اهتمام دول أخرى وتراءت عبقريته والعالم اليوم منهك بالبحث عن(مأوى) آمن بديل لمن فقدوا أوطانهم بلا ذنب.. هل تنال التجربة حقها من التوثيق والتقييم وهي تحتفل بعيدها الفضي(2016) بإذن الله.. للبروفيسور قاسم بدري مدير جامعة الاحفاد كلمة منصفة في هذا السياق، فلقد قال لدى افتتاح مدينة حجار الجامعية للطالبات (إن وجود سكن ملائم مكتمل في كل مقوماته من حيث الإشراف والنظافة والجو البيئي السليم، يجعل أولياء الأمور في طمأنينة تامة من ناحية سلامة بناتهن وهن في الغربة).