*الناظر للساحة السياسية السودانية لابد أن تستوقفه حالة التشظي والانقسام الأميبي التي ضربت كيانات الأحزاب السياسية الكبرى أوالتقليدية التي نشأت مع أشواق التحرر من الاستعمار والحكم الثنائي.. خصوصاً الحزبين الكبيرين (الأمة) و(الاتحادي). *حالة لابد أنها ستفرز سؤالاً منطقياً وملحاً عن أسباب هذا التشظي والانقسام الذي أنتج كل هذه الكيانات الجديدة، والتي بلغ عددها في كل حالة الى أكثر من خمسة أو سبعة تنظيمات جديدة تحمل في مقدمة أسمائها اسم الكيان الأب أو الأصل (الأمة) أو (الاتحادي)، وتضيف إليه ما يميزها عن الكيانات الأخرى الموازية أو عن الكيان الأصل.. وغالب هذه التنظيمات المنشقة أو المتفرعة تتقدمها كوادر كانت تحتل مواقع مهمة في الكيانات الأصلية، لكنها خرجت إما مغاضبة أو طامعة في جاه أو منصب. *اللافت في هذه الحالة أنها تفشت وذاعت في أعقاب انهيار الديمقراطية الثالثة بانقلاب (الانقاذ) 1989م.. حيث وجدت القوى السياسية الكبرى التي كانت تحكم البلاد- ائتلافاً أو اختلافاً أحياناً- في أجواء الديمقراطية الرحبة والسمحة.. وجدت نفسها فجأة تحت قبضة الشمولية -الآيدلوجية المنقلبة إما حبيسة السجون أو طريدة الملاجئ القسرية والاختيارية أو تحت الأرض تمارس النضال السري الذي يستلزم ترتيبات واجراءات تخفٍ واتصالات غامضة لم تعتدها الأحزاب الكبرى، التي بطبيعتها هي أحزاب مفتوحة لم تعرف (التنظيم الحديدي) الذي هو نهج الأحزاب الراديكالية ذات الآيدلوجيات المغلقة والصارمة يميناً أو يساراً. *في ظل هذه الأجواء المضطربة واجهت هذه الكيانات الكبرى.. المفتوحة والهشة بطبيعتها.. القائمة على الولاءات التقليدية الدينية أو المناطقية أو الانتماءات المصلحية لبعض (الأفندية) محاولات اختراق من القوة الحاكمة والمتنفذة التي أصبحت بين يوم وليلة تملك السلطة والثروة وأجهزة الدولة.. فبدأت عمليات اختراق ممنهجة لإضعاف المعارضة لسلطتها عبر تقريب بعض الأفراد أو المجموعات واغوائها بالمنافع الذاتية أوإغرائها بالمناصب الرفيعة، إمعاناً في تفتيت هذه الكيانات على مستوى التحالفات الكبرى، كما جرى مع (التجمع الوطني الديمقراطي) أو على مستوى الأحزاب المكونة له.. فالقوة المنقلبة كانت على دراية ووعي كامل بمكونات هذه الجهات والأحزاب وشخوصها.. وتعلم من أين يمكن أن يتم الاختراق، وكيف تؤكل أكتافها.. وحققت في ذلك نجاحات باهرة يحتاج تدوين تفاصيلها ورواية حكاياتها الى مجلدات.. لكنها على كل حال معلومة لأبناء هذا الجيل الذي عايش ربع القرن الأخير. *ما دفعني لتسطير هذه (الاضاءة) هو ما جرى من أحداث في صفوف الحزبين الكبيرين في الأسبوعين الأخيرين.. خصوصاً المؤتمر الصحفي للأستاذ مبارك الفاضل المهدي ودعوته للم شمل حزب الأمة، وإعادة توحيده.. ثم اجتماع الاتحاديين الطارئ في (أم دوم) وقرارهم بعزل رئيس الحزب وعقد مؤتمر عام يعمل على توحيد الفصائل الاتحادية ويرتب تنظيم الحزب ويستعيد مؤسساته المغيبة.. والحادثتان تؤشران الى أن جماهير هذه الأحزاب «المحتارة» بدأت تعي ضرورة الوحدة والاندماج والتصالح والإصلاح المؤسسي لهذه الكيانات.. عوضاً عن هذه «الحالة الهلامية» التي تعتريها.. بغض النظر عن موقف القيادات الملتبس والمتشبث بمقاعد القيادة حتى لو انفضت من تحتها هذه الجماهير، ولم تبق إلا اللافتة المرفوعة خلف كل مقعد!!. *ومع ذلك علينا الانتظار لنرى كيف يكون رد الفعل النهائي لتلك القيادات في القاهرة أو في لندن، ومدى تفهمها واستجابتها لهذا الحراك الجاد والجديد.