للمرة الثانية يقيمون مهرجاناً باسم البركل في نفس مكان المهرجان الأول كأنما «البركل» هنا ليس تاريخاً يمكن توزيعه على الجميع، أو أن الفهم قاصر على الجغرافيا.. الإصرار على الفهم الجغرافي(المناطقي) للاحتفاء بالبركل، يفتح باباً لتساؤلات مشروعة، مثل: علاقة إنسان البركل الحالي بثقافة الحفريات في جبل البركل .. قلنا في الحلقة السابقة هناك إصرار على تجاهل النوبيين، وعنوان المهرجان هو سياحة تعتمد على تاريخ المكان !! ...المشكلة الكبرى هي اختطاف مثل هذه المناسبات لأغراض سياسية.. وذلك إما لترويج انتخابي كما حدث في البركل (الأول) أو لتصفية حسابات مع مناطق أو(قبائل) غير مرغوبة للحكومة كالنوبيين !! وبالإنسان النوبي لا نقصد عرقاً أو قبيلة أو مكاناً جغرافياً، نقصد به الإنسان الذي أخذ ثقافة المكان.. لا توجد خلافات قبلية ولا صراعات عرقية؛ من الخرطوم حتى حلفا هناك ثقافة واحدة هي: ثقافة اللغة العربية للدين والسياسة والثقافة النوبية للزراعة والنيل.. تتسع الفروقات كلما اتجهنا شمالاً. هكذا تبدو الصورة إذا فحصنا الفروقات القبلية بحياد، ولكن المصيبة الكبرى إن المصالح السياسية تتطفل على هذه الفروقات القبلية البسيطة لتعيش عليها، لأنها تمثل منطقاً آخر تعتمد عليه فشل (أنصار الحركة الإسلامية) في محاربة النوبيين لأنهم حراس مناطق السدود، التي يتاجرون بها في الخليج أو كيانات ثقافية عصية عليهم!! سخروا من لغتهم أو تمسكهم الديني ولكن النكتة النوبية هزمتهم حتى أصبحوا هم أنفسهم يتبنونها، وحللت هذه الظاهرة في كتاب كامل(نكتة الحلفاوي.. حقيقة متوحشة أم ضرورة فكرية).. انتقلوا من حسابات المجالس الخاصة إلى محاربتهم في معاقلهم الأصلية وهي التاريخ، بدأوا بالتشكيك في علاقة النوبيين بمملكة مروي أنفقوا من أموال سد مروي على بروفات ليؤطروا هذا الاتجاه علمياً وأصدروا كتباً ومقالات تتحدث عن شعب مغاير في مملكة مروي، كأنما التاريخ النوبي بدأ مع مملكة مروي.. أشاروا إلى شيء من هذا في خطبهم في افتتاح سد مروي، أنهم بصدد حضارة جديدة حقيقية في إشارة خفية إلى حضارات قديمة(غير حقيقية).. وعندما انهارت حضارتهم الجديدة في «سد مروي» بدأوا يطاردون النوبيين في مهرجانات المناطق الأثرية؛ مزقوا التاريخ لثلاثة أجزاء الأطراف السفلى وزعوها في(شندي)، والوسطى في البركل، وتركوا رأساً بلا جسد للنوبيين في الشمال !! في مهرجان البركل خطفوا الواجهة النوبية بمنظمتين حكوميتين :(تمثلان بلاد النوبة في مصر والسودان) بدعوة من والي الشمالية، جاءت المنظمة المصرية النوبية للتنمية والوثيقة منشورة في أكثر من موقع؛ وهو هنا يمثل وزارة الثقافة المصرية؛ ومن رأي النوبيين المصريين هناك نعرف بوضوح أنه لا يمثل النوبة المصرية.. أما الممثل السوداني هو(جمعية دنقلا للثقافة والتراث النوبي)، وهي بدوها واجهة للسلطة، وهي منظمة لا تمثل حتى الدناقلة ناهيك عن المنطقة النوبية في الشمال، كما هو واضح في بيانات منظمات دنقلاوية مقاطعة.. الموقف السائد في الأوساط الفاعلة النوبية في السكوت والمحس وحلفا هو موقف اللجنة التنفيذية للمنظمة النوبية للثقافة وإحياء التراث والتنمية، والتي رفضت الدعوة المقدمة لمشاركة فرقة المنظمة(مجموعة أنداندي للغناء والموسيقى) في فعاليات مهرجان البركل. حيثيات الرفض كانت: عدم المشاركة في مهرجان البركل لتعارضه مع مهرجان الولاية الشمالية السياحي المتفق عليه، والذي كان يستهدف كل المناطق الأثرية والسياحة بالولاية دون استثناء، بإقامة مهرجان سنوي متنقل يهدف إلى : 1) عمل بنيات تحتية للسياحة في كل المناطق الأثرية والسياحية بالولاية. 2) جذب السواح وتفعيل المناطق الأثرية في كل أنحاء الولاية. 3) الاهتمام بترميم الآثار والحفاظ عليها. 4) توعية سكان الولاية بقيمة الآثار وحفزهم للحفاظ عليها والانتفاع بعائدات السياحة. 5) تقديم الموروث الثقافي التراثي والفني لسكان الولاية بصورة علمية صحيحة وبطريقة عادلة. من المفارقة المحزنة التي ترينا بوضوح مدى جهل القائمين بأمر مهرجان البركل بالتاريخ، أنهم ينشرون في مواقعهم ما يبين أن حضارة نبتة حضارة مصرية، وأن الآثار التي فيها لقدماء المصريين!! المحزن يتبنون بالنقل رأي المصريين وهذا هو النص منقول من مواقعهم هو: «مهرجان البركل هو محاولة استعادة الآثار المرتبطة لقدماء المصريين..» إلى هذا المدى بلغ الجهل بالتاريخ سحبوا البساط التاريخي حتى من جبل البركل!! الكيد السياسي ظاهر بوضوح في الإصرار على إقامة المهرجان لأكثر من مرة في مكان واحد.. الغريب أنهم يتكلمون عن وحدة الهوية! وهناك أمور مضحكة في سعي هؤلاء: المضحك الأول: هو اهتمامهم بالتاريخ وهم أول من وصفوا المتحف ببيت الأوثان، وهم أول من روج بأن التاريخ الحقيقي للسودان يبدأ مع مملكة سنار. ولكنهم في السنوات العشر الأخيرة بعد ذهاب ريح (أنصار الحركة الإسلامية) بدأوا يتراجعون ويحتفلون بأرض الحضارات، ولكن مع الأسف ما زالت أشكالهم مضحكة، وهم يروجون لبضاعة في صندوق مغلق لا يعلمون ما بداخله.. الخلاصة يروجون للتاريخ بعقلية أمنية.. المضحك الآخر أنهم يريدون سياحة مع(التاريخ) بدون وجود عنصر بشري أقرب لثقافة الأحجار هذه.. معلنون أن القرى السياحية تعتمد على العنصر البشري، ودوننا السياحة في أسوان وأبو سنبل.. والأشد غرابة أنهم يصعدون الجبل ويتركون الأهرامات مظلمة أو أن تجمعهم الكبير في إستاد كورة!! أحد منتقدي المهرجان من أبناء المنطقة عبر عن رأيه قائلاً: (مهرجان البركل العالمي للسياحة والتسوق تحول إلى مهرجان للغناء والرقص، ولا علاقة له بتاريخ وحضارة جبل البركل وسكانه.. هذا ما اتفق عليه كل من حضر).. أما السواح الأجانب فقد قال أحدهم إنه جاء مقتفياً آثاراً تاريخية ولا يهمه حضور فعاليات شعبية أو رسمية.. وقال أحد أعيان مدينة كريمة (إنه كان من الأجدى الاهتمام بالآثار التاريخية، وإبراز ثقافة المنطقة بدلاً عن الحفلات الجماهيرية، يريد منظمو المهرجان أن يقلدوا مهرجان السياحة في بورتسودان، وهذا أمر غريب.. نحن لدينا حضارة وتاريخ قديم وآثار كثيرة لا توجد في أي منطقة من العالم.. كنا نتمنى أن يتم التركيز على تاريخنا الخاص أما أعضاء اللجنة العليا لم أجد منهم سوى السيد علي فقيري، وهو المدير الإداري والمالي في هذه الصحيفة.. سألته عن حكاية هذا المهرجان الذي وصفته له باعتبار بلا هدف وبلا أصول ولا جذور.. حاول في العام السابق أن يدافع عن المهرجان، ولم يقبل اتهامي لهم بتهميش النوبيين.. ولكنني هذه المرة لاحظت فيه يأساً واضحاً.. ومع الضغط قال بصريح العبارة إن ما كنت تقوله عن المهرجان الأول بدأ يصدق!!