٭ إنتهينا في الحلقة الماضية من هذه «الإضاءة» إلى ترجيح لجنة العلاقات الخارجية أن يكون «التطبيع» مع إسرائيل من بين التوصيات النهائية لمخرجات الحوار الوطني الدائر بقاعة الصداقة، وأن حزب المؤتمر الوطني الحاكم قدم ورقة «رمادية»، تطالب بإقامة علاقات جيدة (مع كل الدول) دون استثناء، بما يعني من حيث المبدأ «عدم الممانعة» من «التطبيع». ٭ أثناء ذلك أريق حبر كثير.. من الزملاء كتاب الرأي.. خلال الاسبوع الماضي في شأن التطبيع، استحساناً مرة، و«مسحاً للوبر فوق الدبر» حيناً، ورفضاً موضوعياً في أحيان أخرى.. بل وتنجيماً وتبريراً وتغبيشاً للرؤى حول العبارة «الغامضة» التي أدلى بها وزير الخارجية إبراهيم غندور.. وهو يجيب على إقتراح الإسلاموي العتيد عبد الله دينق الوزير السوداني- السابق- ثم الجنوب سوداني حاضراً، في ندوة محضورة بأن «أمريكا لن تصالح السوداني إلا بعد التطبيع مع إسرائيل، وعلى السودان أن يدرس هذا».. وهو رد مختصر، ربما أحيط بغموض مقصود، يقول «العايز يدرس.. يدرس يا عبد الله».. وهو ما يصب بشكل أو آخر، في ذات المعنى الذي أسلفنا الإشارة إليه.. وهو تطبيع «التطبيع».. أي جعل الدعوة إليه أمراً مباحاً ومتاحاً وضمن أجندة الحوار التي قد تجد طريقها إلى الدستور. ٭ مرة أخرى نؤكد على الفارق النوعي بين «التطبيع».. و«إقامة علاقات دبلوماسية رسمية» بين الحكومات.. وإن كانت المخاطر والشرور متحققة ومنتظرة في الحالتين، ولكن يبقى «التطبيع» في بعده الشعبي والدعوة اليه باعتباره «عادي بالزبادي» هو الخطر الماحق بكل ما ينطوي عليه من غباء متلفع بالفجور.. ٭ ومن بين التبريرات الفطيرة ل «التطبيع».. المستندة إلى تحليلات مستعجلة لواقع التردي والتراجع الذي تشهده المنطقة العربية.. وكأن عجلة التاريخ قد بلغت نهايتها في الدوران.. ذلك القول الذي ذهب إليه بعضهم بأن «المصير العربي المشترك، لم يعد مشتركاً».. وأن «القضية المركزية» التي هي القضية الفلسطينية، لم تعد مركزية.. وإن قضيتنا مع دولة اسرائيل كانت تنحصر في أن اسرائيل تسعى لتفتيت السودان وتفكيكه، وأن من بني جلدتنا من تكفل بهذا الدور وفاق إسرائيل وأمريكا في إنجاز المهمة.. فعليه يصبح لا ضير من حيث المبدأ في مناقشة تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ٭ مثل هذه التبريرات.. على الذكاء المخاتل و«الحرفنة» في صياغتها.. تبريرات تنطلق في جوهرها من مفهوم ساذج لحقائق الصراع العربي الإسرائيلي.. فهي تقول ببساطة إنه إذا كان العرب الأقرب إلى إسرائيل ممثلين في بعض دول المواجهة قد «تصالحوا» مع إسرائيل وعقدوا معها معاهدات السلام، وإذا كان التضامن العربي المنشود قد آل إلى التمزق والتناحر أحياناً، فما بالنا نحن الأبعدين من الانغماس في خصومة مع إسرائيل تجر علينا الويلات وتعيق علاقتنا مع الولاياتالمتحدة التي (ربما) تتعطف علينا عندما (نُطبّع) مع إسرائيل وتصنفنا دولة صديقة وترفع عنا العقوبات والمقاطعات.. أو كما قال عبد الله دينق. ٭ شواهد التاريخ.. في هذا الظن الساذج والخائب عديدة.. وأقرب وأهم مثال للأذهان هو حالة (سيد شهداء فلسطين) ياسر عرفات أبو عمار.. فأبوعمار وبعد أن أفنى زهرة شبابه وجل عمره في مناطحة دولة الصهاينة.. أحفاد حيُيْ بن أخطب بعد لقائه النبي (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة وقسمه «بعدواته ما بقى حياً» كما سبقت الإشارة.. أبو عمار هذا ذهب إلى الصلح مع إسرائيل عبر اتفاقية «أوسلو» المنكودة.. استجابة للضغوط الدولية من جهة، ولتأسيس مشروع دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وغزة ولمّ شعت شعبه من الشتات.. علها تكون مقدمة لتحرير كامل الأرض المحتلة من البحر إلى النهر مع مقبل الأيام والأجيال.. ولأن إسرائيل لا تعوزها القدرة على قراءة النوايا، ورأت أن الرجل لايزال مستمسكاً ب «القدس الشريف» عاصمة لدولته المستقلة ولم يردع شعبه عن فعل المقاومة.. حاصرته بالمدفعية الثقيلة والدبابات في «مبنى المقاطعة» مقر سلطته، بل ودسّت له السُم الزعاف، كما فعلت زينب بنت الحارث إمرأة سلام بن مشكم بالشاة المسمومة مع النبي الأعظم (ص)... فقضى نحبه مسموماً بآخر ما أنتجته تكنولوجيا الاشعاعات الذرية كما أثبتت معامل الفحص النووي الفرنسية بعد نبش جثمان القائد. (نواصل)