ربما يصدق القول، من قرائن الاحوال ان السلطة قد رسمت الحوار الوطني على مقاس أجندتها حيث تكسبها خلاصاته تفويضا أقوى بكثير من مشروعها الانتخابي الأخير، بمعني ان يطل الرئيس بوجه جديد على المشهدين الداخلي والاقليمي وبتفويض قومي على ان تكون الحاضنة القومية لكل ذلك هو الحوار الوطني، المؤسس من وثيقة المشروع الإصلاحي للمؤتمر الوطني الذي ارتكزت على ست محاور باستحداث منصب رئيس الوزراء والرئاسة معاً، وبالتالي يتم توظيف الحوار لمزيد من الصلاحيات والشرعية. أما معالجة قضايا البلاد الأساسية الكبرى يمكن الالتفاف عليها بشكل أو بأخر بما يمكن التنازل طوعاً عما تحتويه من أجراءات غير جوهرية مع اضافة بعض الأجراءات الادارية على مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية باستيعاب بعض الأطراف المحسوبة على المعارضة، وتحديدا تلك التي حيدتها السلطة، لاسيما من الأحزاب التاريخية والحركات المسلحة، بمعنى أن السلطة تريد حوارا يحافظ على نظامها الحالي بتوسيع حدود قاعدته من اجل أستقطاب واسع لحلفاء ثانويين انطلاقاً من قدرتها المستندة دوما على عقد صفقات جديدة في براعة تكتيكية على لعبة البقاء في السلطة بتحالفات جديدة ليس الغرض منها الوصول إلى تسوية تاريخية، بل فقط بغرض العمل على ترتيبات تضمن لها مواصلة السيطرة لسنوات قادمة تحت عنواين ولافتات جديدة تتناغم مع رؤيتها بضرورة ايجاد معادلات سياسية جديدة، وبالتالي تبدو الحكومة بمثابة الأخ الاكبر مع أخوة صغار يتحركون في هامش للحرية والتعبئة ليتسع ويضيق هذا الهامش حسبما ما تمليه الظروف والمتغيرات السياسية المحيطة بالنظام. واذا كان لنا ان ندرك، وبعيداً عن الرؤية السلطوية لحل الأزمة الشاملة، فإن المقاربة هي ليس الحوار من أجل الحوار، فالحوار ليس غاية في حد ذاته ولكنه وسيلة لتحقيق هدف سامي هو فتح الطريق لتحول جدي في مسار الأزمة يخرج البلاد إلى مربع جديد. نعم فقد ظل الوطن في حالة من الحوارات السياسية غير المنتجة بتدافع مدني وعسكري مستمر طوال سنوات ما بعد الأستقلال، حول نظام حكم يتراضى عليه الجميع باحداث تغيير حقيقي لتأسيس الدولة، وأحداث تنمية متوازنة أجتماعياً وجغرافياً بممارسة ديمقراطية حقيقية، وبعدالة اقتصادية في توزيعات الثروة، وفي كفالة الحريات والحياة الحرة لكل مواطن، وذلك لان الحكم الشمولي قد أستنفذ أغراضه ووصل إلى نهايته، وتبعا لذلك يصبح الغرض الجوهري من الحوار هو البحث عن الأجابات الشائكة في الترتيبات السياسية والدستورية والتداول السلمي للسلطة، والتي تحتاج إلي ارادة جماعية في مشاركة الجميع دون أستثناء في وطن أمن ومستقر، وفي حالة سلام مع نفسه ومع الأخرين، وباختصار هو مشروع الحل الشامل للتغيير المطلوب الذي يعيد بناء السودان على أسس جديدة راسخة. وفي كل الأحوال، فان مسار التسوية الجارية وفق منطوق مخرجات الحوار هو غلبة الأجندة الاقصائية المتبادلة في حسابات أطراف النزاع اكثر مما هو تقديم تنازلات مطلوبة من اجل أستقرار الوطن ليس من أجل الذات وحسابات المصالح التي تقلصها التسوية وصولا إلى معادلة تأسيس نظام سياسي قادر على تحقيق السلام والأستقرار والتنمية، ومدخلا لمعالجة الأزمة الوطنية لانتاج نظام سياسي فعال ودائم يستوعب كل مطالب القوى الأجتماعية المختلفة. حقا لم يعد ممكناً أن تبيع السلطة وهم الحوار لتكريس قبضتها السلطوية في ظل وضع إقتصادي مزري قادر مره أخرى على إنتاج التمرد وحروب العصابات، انما التواضع قبولا بتسوية تاريخية، تقوم على مبدأ الجميع يكسب، وليس على مبدأ المباراة الصفرية حيث الكاسب يكسب كل شئ والخاسر يخسر كل شئ.