بالأمس توشحت دار حزب البعث السوداني بثوب الحداد تبكي من شدة فجيعتها وهي تودع زعيم الحزب محمد علي جادين إلى مثواه الأخير،الراحل مفكرسوداني عروبي الهوى وسوداني الهوية, خلف مشروعاً عروبياً سودانياً بعد أن ترجل عن صهوة جواده بعيد اضفائه للسودانوية على الفكر البعثي العروبي خلال مساعيه التي افلح عبرها في تكوين حزب بعث سوداني مائة بالمائة ورغم انغماسه في لجج السياسة إلا أنه صاحب قدح معلى في الفكر والتأليف والترجمة يجمع بين يديه كافة خيوط الفكر والسياسية ولكن زهده وتواضعه جعله يتوارى عن الأنظار فهو يحلم بالعروبية تخرج من كوة سودانوية فكان عروبي التفكير واشتراكي الهوي سوداني الانتماء مولده أطلق صرخة ميلاده الأولى في العام 1942بقرية «التي» التابعة للجزيرة ونشأ وترعرع في كنف أسرة بسيطة تمتهن حرفة الزراعة, درس الابتدائية بمدرسة القرية والمتوسطة بمدني الوسطى والثانوي بمدرسة وادي سيدنا ومنها التحق بكلية الاقتصاد جامعة الخرطوم في العام 1958م.وتفرغ لقضاياه الفكرية ولم يطرق باب الزواج وكانت كتبه ومشاركاته الفكرية بالداخل والخارج تشغل جل وقته وكان زاهدا في كل مباهج الحياة حتى انه لم يملك داراً في العاصمة الخرطوم التي عاش فيها منذ أيام الدراسة بالجامعة, وفي أيامه الأخيرة رحل ليقيم مع شقيقه د.الطيب بجبرة ضاحية الخرطومجنوب. محطاته فور تخرجه في العام 1965 من كلية الاقتصاد دلفت به خطاه نحو وزارة المالية متنقلاً بين مكاتبها ومتدرجا بين سلمها الوظيفي حتي صعد الي درجة مساعد وكيل وزارة بالمالية لم يمكث بالمنصب طويلاً فخرج من باحة الوزارة مفصولاً إلى ساحة المعتقل إثر وشاية دفع بها أحد خصومه بأنه يعمل ضد أهداف الدولة فخرج من المعتقل لكنه مالبث أن أعيد إليه في العام 1973 ليمكث في غياهب السجن أطول فترة يقضيها سياسي في العصر الحديث فافرج عنه في العام 1983 ليواصل نشاطه السياسي الشيء الذي دفع به إلى الاعتقال مرة أخرى في العام 1984 ومكث في سجن كوبر عاماً حتى أخرجته الجماهير الهادرة في انتفاضة أبريل 1985 من السجن . انضم جادين إلى حزب البعث العربي الاشتراكي وتدرج بالتنظيم حتى وصل إلى منصب نائب أمين السر ونتيجة لقناعات ذاتية يحملها في جعبته في عدم تحقيق أفكار العروبية القومية أي نجاحات وسط الواقع السوداني نفض يديه عن غزل العروبية واتجه في العام 1997 إلى تأسيس حزب البعث السوداني وفق افكار ورؤية سودانية عكف على صياغة مفاهيمها لوحده. بجانب نشاطه السياسي البائن فهو مفكر قومي ومترجم ومؤلف ألف العديد من الكتب كان آخرها كتابة (ملامح من تاريخ حركة التيار القومي وحزب البعث في السودان) الذي كان بمثابة نقد ذاتي للتجربه السياسية كما أنه أثرى المكتبة العالمية بتراجم عديدة أبرزها كتاب»صراع الثروة والسلطة في السودان» كما أنه كان عضواً في المجلس الأربعيني في جامعة الخرطوم في النصف الأول من القرن الماضي. صفاته ويصفه عضو الهيئة الرئاسية بالحزب الاتحادي الأصل علي محمود حسنين بأنه يمتاز بعمق التفكير والرؤى الثاقبة مع المصداقية والوضوح, كما تتميز شخصيته بالهدوء والوقار والأدب الجم ويمضي حسنين بأن مزاملته له في معتقلات مايو لسنوات عديدة جعلته يعرفه عن قرب كمناضل صامد, بينما يقول عنه صديقه إسحق القاسم شداد بأنه رجل زاهد ولا يحب الأضواء، ويترك دائماً مكانه لمساعديه ودفع شبابه وعمره فداءً لما آمن به من فكر البعث والعمل القومي عموماً. وعاش في السجون والمعتقلات وشظف العيش وصار راهباً, أما رفيقه في النضال يحي الحسين المحامي قال إن جادين رجل عالم ومفكر وطني سعى بأفكاره إلى العبور بالبلاد إلى العروبية وكان زاده في تحقيق هدفه الزهد والتواضع, بينما يسير كمال بولاد في ذات المسلك فيقول إن جادين كان نموذجاً للمثقف الوطني صاحب المشروع, نذر حياته لمشروع تأطير السودانوية ومحاولة تغلغلها في العروبية واجتهد في ذلك حتى قبيل وفاته. الصحفي المهاجر علاء الدين محمود في تغريدة له على صفحته ب(فيس بك) قال إن جادين تنتاشه سهام النقد إذ عاش متمرداً، وهو حري بالتمرد الذي يصنع التاريخ، ولكم غصن في سدرة ثقافته مترامية الظل دانية الثمر، وكان جادين متواضعا تواضع العلماء متباهيا بسودانيته المرسومة على وجهه السمح، فبذل كتابات باذخة عن الثقافة السودانية، مثلت لنا قمراً منيراً .. لا أدري كيف هي حال «ألتي» الآن, لابد أن نسوة القرية ينظمن المناحات في ذكره، والرجال يشيدون مجداً من نسبهم به، لا شك أن أطفال القرية يتملكهم الزهو أن جادين خرج منهم وعاش بينهم، ولابد أن «ستات الشاي» قد افتقدن طلتك الوسيمة، وكذا الصحفيون الذين كنت تلتقيهم بكل تواضع العلماء تحت ظل تلك الأشجار تتناول معهم القهوة وتنفث دخان سجائرك، تسبقك ضحكاتك الساخرة، يا جادين لا نقول قد تعجلت الرحيل .