والعيد يلملم (حاجاته) وأجواءه ليرحل، كنا مشغولين بهموم العودة للخرطوم فقد تفاجأنا بسلوك مروري يكدر صفاء (العيد في البلد) بلا مبرر، فالطريق معبد والبص سياحي، مما جعلني أتجنب إقحام نفسي في المزيد مما يمس إحساس العيد، فترددت في تلبية دعوة من شاكلة (اجتماع مهم للغاية) حرص منظموه على محاصرة المدعوين بالموبايل يستنهضونهم ويذكرونهم بأنهم (أصحاب وجعة، اتربوا من الحواشات التحت دي).. الجملة لاذعة ولكنها الحقيقة. فكم من حداة الخدمة العامة في البلاد وخارجها تخرجوا في خلاوى ومدارس تأسست بعرق رواد مشروع رائد جعل مئويته جزءاً من العيد.. مشروع عملاق ظل يعطي على مدار قرن من الزمان شهد ما شهد من الأحداث والمواقف والبطولات من أهل المنطقة الذين هب أحفادهم اليوم ليكرموهم في احتفالية كبرى.. إنه ليس مجرد مشروع زراعي ضخم أسسه الإنجليز ضمن مشروعات كبرى احتضنتها (المديرية الشمالية) عام 1917 بمقاصد معلنة هي الحد من هجرة السكان وأخرى ما زالت خفية يجري التكهن حولها وحول مخاوفها حتى انعقاد هذا الاجتماع بين ظهراني عيد الأضحى المبارك ببلدة الغابة بمحلية الدبة بالولاية الشمالية. إنه (مشروع الغابة الزراعي الحكومي) المفخرة.. بادرت إدارته بالدعوة للتشاور حول فكرة الاحتفال بمئويته واقتراح شكل الاحتفالية وآلياتها بما يليق باسم المشروع وتاريخه المجيد وأثره الاقتصادي والاجتماعي على المنطقة والولاية والسودان.. سارعت لتلبية الدعوة بسرور تخالطه هموم المشاركة بما يفيد، تسبقني صفتي فإني ممن عناهم ذاك التلويح الصريح بفضل الحواشات على الأجيال المتعاقبة.. لقد جئنا من هذه الأرض.. أي شرف وأي مسؤولية؟ الاجتماع مهيب بدأ بسيرة الرواد يحفه شيء من حرج جراء المقارنة بين الأبناء والآباء والأجداد الذين شهدوا البداية وعززوها.. فالتحدي هو أن يأتي الاحتفال مواكباً لمقام أولئك الكبار ومطمئناً بضمانات تواصل الأجيال بذات العزيمة.. إنه مشروع حكومي قوامه الأهالي الذين حولوه إلى مسيرة حياة فأصبحت الغابة هي المشروع وأصبح المشروع هو الغابة.. من الزراعة تزاوجت الأسر وفتحت المدارس وتنامت المشروعات المصاحبة وازدهى العمران وترعرت الأجيال يتباهى كل بدوره، ببصماته.. هذا محل توثيق الآن كهدف أساسي لهذه الاحتفالية وهي تهتم بالماضي وبالرموز والأمجاد.. اختصت الاحتفالية برسم خريطة طريق لما بعد المائة عام المجيدة هذه، فقررت حصر مشاكل المشروع اليوم واقتراح خطة لتطويره، والبعض يقول.. بل لحمايته فكم من مخاوف من أن تضيع حقوق الأجيال القادمة- لا قدر الله، مع تدافع المستثمرين لحيازة الأرض بوعد التعجيل بإعمارها، ولكن أين ضمانات أهل الحق؟ تساؤلات ومناقشات ساخنة جرت حول تصور الاحتفالية بين بريق الآمال وثقل المخاوف التي تؤججها دوافع (الغيرة على البلد) مغبة (التفريط) و(هجر) الزراعة إلى المدن والمهن الأخرى و(أن لا نكون كآبائنا).. فانداحت آراء جريئة تتحدث عن (توحيد الكلمة، وضع برنامج يليق بالأجداد وبتاريخ المشروع ويلبسه حلة جديدة ويجدد شبابه).. البعض يريده عرساً.. البعض يراه نقطة تحول كما كان فى البداية.. قياداته تجمع كلمة الناس.. يريدونها (غابة جديدة).. ملاذاً للرزق الحلال.. منبع لقيم التوكل على الله (أعقلها وتوكل).. ملهمة ثورات لتصحيح الأوضاع والاعتماد على الذات.. وهناك تساؤلات (هل يمشي المشروع بنفس الطريقة أم نبحث عن التحديث؟..هل وضع الحقول بشكلها الحالي مشجع للاحتفال ليراها الناس)؟ الأفكار اتفقت حول إقرار مبدأ إشراك جميع أبناء المنطقة بالداخل والخارج وإصدار نداء بذلك واستدعاء المبدعين واستقطاب الدعم من الجهات المعنية برئاسة الجمهورية ورئاسة الولاية والمحلية فضلاً عن أصحاب المبادرات في خدمة أهلهم.. يراد بتوفير الدعم الاحتفال اللائق بالرواد وتكريمهم وإصدار كتاب للتوثيق لتاريخ المشروع منذ نشأته وما شهد من أحداث عظمى.. منها ثورة المزارعين في وجه الاستعمار عام 1953.. مع العمل لتأهيل الترعة الرئيسية والفرعيات وفتح الطرق والممرات وتهيئة بيئة العمل بمكاتب الإدارة والحواشات. شددوا: (العبرة في التنفيذ).. وكان التفاؤل حاضراً تلقاء النماذج العملية التي نسبت لرابطة أبناء الغابة بالخرطوم وقد شارك رئيسها في الاجتماع والتزم بالكثير مما يلي إنجاح الاحتفالية.. كذلك ما عرف عن أبناء المنطقة بالوزارات والمنظمات وبلاد المهجر وسابق فضلهم على ذويهم ومنطقتهم والبلاد كلها.. ولدواعي إقران القول بالعمل وإنجاح الاحتفالية بما يليق بالغابة كرائدة في مجال الزراعة والتعليم والاعتماد على الذات.. قرر الاجتماع إنشاء لجنة عليا للاحتفالية برئاسة معتمد محلية الدبة تضم رؤساء اللجان ومقرريها وإدارة المشروع وإشراف وزارة الزراعة بالولاية برعاية الوالي ورئاسة الجمهورية فدعمهم أكيد. مشاعر الإعزاز أحاطت بالمكان وهو قاعة المركز الثقافي الذي حمل اسم المرحوم الشاعر مصطفى سالم.. وتحلت جوانبه بأشعاره ذائعة الصيت ومنها قصيدته التي بقيت على كل لسان تذكر الناس بأمجادهم وهي القصيدة التي خلدت ذكرى ثورة مزارعي الغابة في وجه الاستعمار عام 1953 وحكت للعالم عن بطولتهم الفذة (اسكتوا الغابة كهلاً وصغيراً..إنها الغابة دوماً ستثور).. والبعض يريد لهذه الاحتفالية أن تكون ثورة في التصميم والتنفيذ.. وفقهم الله.