في روايته الحب في زمن الكوليرا يحول الكاتب الكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز كل شيء إلى عالم الممكن، بحيث تصل بك نهاية الأحداث إلى أن كل التفاصيل لا يمكن أن تُكتب أو تقع إلا بذات طريقة السرد التي جاءت بها الرواية كفكرة ثابتة لوجود الحب في كل زمان ومكان، لكنه يشتد بشكل أكثر عنفاً كلما اقترب من النهاية (الموت). قبل ثلاثة أعوام قرأت هذه الرواية العذبة التي تحلق بك في عالم اللامعقول كما يقول (الكُتَّاب والفلاسفة) لكن لا أعرف لماذا رغبت في استرجاع تفاصيلها في ذاكرتي مما حدا بي قراءتها للمرة الثانية.. في منتصفها وفجأة وجدت ذهني يذهب بعيداً في محاولة للربط بين الفكرة الرئيسية للرواية التي ترفع من درجات الحب كلما اقترب من الموت، وبين ما يحدث في عالمنا السياسي المحلي ومحاولات قيادات الشمال والجنوب، أن يظهروا أقصى درجات الحب والود وكلمات المجاملة بعد أن وقع الانفصال أي عند الاقتراب من الموت أو من سكراته. هاهو السيد سلفا رئيس دولة الجنوب التي تطرق أبواب الاتحاد الأفريقي وخارطة أفريقيا الجيوسياسية يتحدث عن شجاعة وبطولات الرئيس عمر البشير.. وكان قبلها وخلال خمس سنوات من الاتفاقية لا يجد كلمات غير تلك التي أفضت إلى (موت الحب)، بعد اقتطاع جزء من الأرض بمن عليها.. نفس الطريقة في الحب لدى الشريك الآخر المؤتمر الوطني في التعامل خلال تلك الفترة. بعد دق آخر مسمار في نعش الوحدة تتجه القيادات السياسية في الدولتين، جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان إلى سلك دروب حسن الجوار والعلاقات الثنائية على نهج الإحسان بعد الطلاق.. المصالح المشتركة تجعل من وجود علاقات حب بين الدولتين ضرورة حتمية لابد من بذل الجهد لاستمرارها. بالأمس جاء في أخبار الصحف أن المؤتمر الوطني بعث برسائل إلى حكومات الدول الأفريقية تتضمن اعترافه بنتائج استفتاء الجنوب، وأكد احترامه لحق تقرير المصير، وأن الشمال سيقدم تعاوناً في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية للدولة الجديدة.. ولقد برز هذا الاتجاه الذي صب ماء الثلج على الصفيح الساخن منذ زيارة رئيس الجمهورية الأخيرة إلى جوبا قبيل الاستفتاء، وهي الزيارة التي نالت احترام الوسط الداخلي والمجتمع بعد أن خذلت تصريحات الرئيس كل الجماعات التي كانت تترقب وتنتظر استفتاء غير سلمي. مهما كانت الخلافات يظل التعاون الاقتصادي بين الشمال والجنوب مسألة حياة أو موت، خصوصاً للدولة الوليدة، حيث أن جوار دول شرق أفريقيا لن يمنحها حق البقاء مهما كانت درجة العلاقات الثنائية .. فمع الشمال تستمر عائدات البترول في التدفق على الأقل خلال سنوات، حتى وإن كانت الرغبة في تحويل الصادر عن طريق ميناء ممبسا الكيني في المستقبل.. ليظل ميناء بورتسودان هو شريان الحياة لدولة جنوب السودان. التعاون الاقتصادي بين دولتي الشمال والجنوب سيكون الرابط السياسي والاجتماعي وهو رابط يحتاج إلى المزيد من المرونة في قوانين الانفصال أو فلنقل القوانين التي تحكمها الاتفاقات الدولية للحدود بين دولتي جوار.. فمثلاً الحركة التجارية بين ولاية النيل الأبيض في جمهورية السودان وأعالي النيل في جمهورية جنوب، هل من الممكن أن تخضع لتلك القوانين؟؟... التجار يذهبون ويعودون أكثر من مرة في اليوم فهل تخضع هذه الحركة إلى تأشيرات الدخول والخروج؟.. ما قصدت قوله وجود مثل هذه التعقيدات التي تحتاج إلى نظرة خاصة وتعامل مختلف. نعم انفصل الجنوب بإرادة أهله وليس بسبب ضغوط منبر السلام العادل كما يرى البعض ولو أني من أنصار أن تحترم آراء الشماليين الراغبين في الانفصال.. غير أن الجميع في وضع يحتم التعايش السلمي وتبادل المنافع بعيداً عن حالات الاستقطاب السياسي، التي كانت سائدة خلال سنوات الفترة الانتقالية، وبالتالي من المهم لساسة الجانبين التوقف عن المهاترات والتصريحات المضادة التي زادت من نسبة الاحتقان مما أفضى إلى نتائج غير متوقعة للاستفتاء. حضرت في الآونة الأخيرة عدداً من الاجتماعات المشتركة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في عدد من القضايا.. تأمين حفظ البترول.. الاستقرار بعد الاستفتاء وغيرها... كان الطرفان يرغبان في استدامة السلام والتعايش السلمي.. الاتجاه بتحويل الحديث حول مناطق التماس إلى مناطق التمازج.. إشارات من القيادات السياسية بنبذ العنف والابتعاد عن احتضان الحركات المناوئة.. لغة يحتاجها الطرفان أو الدولتان للعيش في سلام.حالة (الحب) التي يعيشها شريكا نيفاشا الآن بعد أن وقع الانفصال فعلياً نتمنى ألا تكون كما الحب في زمن الكوليرا الذي يزداد كلما اقترب من الموت.