يتحدث العقيد معمر القذافي بكثافة في خطبه النارية المتوالية حول الاستعمار الجديد واستهداف الغرب الولاياتالمتحدة وأوربا- للنفط الليبي باعتباره المحرك الأساسي للمعركة الدائرة على أرض ليبيا، متجاهلاً عن عمد كل هذا «التسونامي التحرري» الذي ينتظم المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، دون أن يقف متأملاً ولو لبرهة يسيرة الحقيقة البسيطة القائلة بأنه لو كان الغرب وراء كل هذه الثورات المشتعلة لما وقع كل من مبارك مصر وبن علي تونس في عين هذه العاصفة قبله، ولما طالت رياحها علي عبد الله صالح في اليمن في تزامن مدهش مع مصيبته هو في ليبيا، فصالح هو من أهم حلفاء الولاياتالمتحدة في حربها على الإرهاب، وهو شخصياً «القذافي» حليف مستجد تمّ استئناسه وترويضه أخيراً للحرب على «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، لكن الدهشة الكبرى التي تكاد تذهب بالعقول في كل هذا الهرج والغبارالمتصاعد الذي يثيره «العقيد المزنوق» هو الواقع الصادم الذي آلت اليه عائدات النفط، النفط الذي كان «لليبيا الثورة» قصب السبق والريادة في تحريره، فقد تبددت هذه «العائدات المحررة» بفعل صلف القذافي وجنون العظمة الذي ركبه بين دعم التمردات والحركات المسلحة على مستوى العالم حتى يصير سيادته «قائداً أممياً»، ودعم لبعض الحكام الأفارقة وسلاطين القبائل ليصبح «ملكاً لملوك أفريقيا»، وبين مشروعات خيالية أثبتت لا جدواها كذلك «النهر العظيم» الذي أراد «بعقدة الصحراوي» أن يستعيض به عن «نهر النيل العظيم» الذي أخطأت الطبيعة في جعله يمر بعيداً عن ليبيا في قلب الصحراء الكبرى. والأخطر من كل ذلك هو ما كشفت عنه مجريات الثورة الليبية الجديدة من أن عائدات النفط لايصل منها إلا النذر اليسير، بل يتم «تجنيبها» لصالح العقيد وأنجاله في بلاد «الغرب المتهم الأول»، إما في حسابات سرية أو في سندات للخزانة الليبية تحرك الاقتصاد، أو في عقارات وشراكات أو أندية رياضية لصالح الأسرة الكريمة، بينما يذهب جزء مهم أيضاً منها لشراء السلاح والعتاد الذي يوجه اليوم لصدور أبناء ليبيا، فقد ادخره العقيد «ليوم كريهة» يخصه ولا يخص ليبيا الوطن، هذا غير تلك المليارات المهولة التي صرفها العقيد على برنامجه النووي قبل أن يسلمه لواشنطن آخر الأمر عربوناً للصداقة. نعم صعد القذافي بانقلاب الأول من سبتمبر 1969 إلى السلطة، بعد أن أزاح العرش السنوسي الذي لم يركب موجة التحرر والاشتراكية التي انتظمت العالم الثالث - آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية - وكان أحد مراكزها «مصر الناصرية» على مرمى حجر من ليبيا، وصعود القذافي ورفاقه إلى السلطة فاجأ مصر ذاتها، كما ينبئنا محمد حسنين هيكل أول مبعوث لجمال عبد الناصر يزور ليبيا للتعرف على الشبان العسكريين المنقلبين على عرش الملك السنوسي، وذلك ضمن سلسلة أحاديثه مع قناة «الجزيرة»- مع هيكل.. تجربة حياة- فقد رفع الشبان الثائرون الذين نفذوا الانقلاب شعارات ناصر والثورة المصرية حذو النعل بالنعل «وحدة حرية اشتراكية». بالإضافة إلى تحرير ليبيا من القواعد الأجنبية، وإعلان الاستعداد للمعركة من أجل تحرير فلسطين والعداء للاستعمار القديم والجديد، فاعتبر ناصر ذلك «فتحاً جديداً» ورداً على هزيمة حزيران «يونيو 1967»، خصوصاً وهو يجيء بعد شهور قليلة من الانقلاب في الجارة الأخرى والأقرب «السودان» وإعلان ضباط أحرار هناك بقيادة جعفر نميري انحيازهم التام للمشروع التحرري الذي يقوده ناصر، لكن بمرور الأيام ثبت لناصر ولمن بعده أن كل ذلك الذي جرى في ليبيا أو السودان لم يكن إلا سراباً يحسبه الظمآن ماءً، وأن الأمر كله وفي الحالتين لم يتعد أحلام الشباب المنقلب في الوصول إلى السلطة وركوب «الموجة العالية» التي ترفعهم إلى حيث يريدون، وأثبتت الأيام و«الجردة النهائية» أن انقلابيِّ «مايو» في السودان كانوا أقرب للعفة والطهر والوطنية من رصفائهم الليبيين خاصة العقيد، فلم يثبت كما هو الحال في ليبيا أنهم تورطوا في فساد كذلك الذي اكتشفته مجريات الثورة في ليبيا أخيراً، فماتوا فقراء كما ولدتهم أمهاتهم. دفعتني التطورات الجارية في ليبيا للعودة إلى كتاب ظل يربض في مكتبتي منذ العام 1976 أهدانيه الأستاذ عبد الله النويس وكيل وزارة الإعلام ورئيس مجلس إدارة جريدة «الاتحاد» الإماراتية، بعد أن قرأه هو، كتاب «قصة النفط» للأستاذ مازن البندك والذي صدر عن «دار القدس» ببيروت في يونيو 1974، ويعتبر الكتاب لشموليته والجهد الكبيرالذي بذله الكاتب في التحقيق والتقصي واحداً من أهم المراجع لمن يريد التعرف على حكاية النفط العربي، كيف بدأ وما هي المسارات التي اتخذها ومن هم الأشخاص والشركات الذين فجروا النفط، وكيف كانت العلاقات بين المستثمرين والدول المنتجة وما هي مراحل التحرير والتوطين التي قطعها حتى أضحت البلدان المصدرة صاحبة الحق والمستفيد الأول من عائدات النفط. لكن المفاجأة والمفارقة هي أن ليبيا و«ليبيا الثورة» بالذات كانت هي الرائدة في تحرير وتوطين النفط على النحو التالي: يقول البندك: تحسب وتتحسب، ولكن الضربة تأتيك من حيث لا تدري، وهذا هو الذي حدث بالضبط للشركات العاملة في ليبيا التي كانت ترى في ليبيا البديل الأول لنفط الشرق الأوسط في حال انقطاعه لسبب أو آخر، وذلك لوفرته بعد أن بلغ إنتاجه حينها «3.6» مليون برميل في اليوم أي حوالي «30%» من احتياجات أوربا الغربية ولجودته ولقربه من الأسواق الأوربية، وأخيراً للنظام السياسي الصديق الذي يمكن الاعتماد عليه، ولكن ثورة الفاتح من سبتمبر بددت كل هذه الحسابات دفعة واحدة، ولم يمضِ وقت طويل حتى فقدت الشركات مراكز التسلط والقوة والغطرسة التي تمتعت بها في النظام القديم. ويمضي مازن البندك ليروي لنا قصة النفط الليبي المثيرة، كيف تم الحصول على الامتيازات والنفائح التي انطوت عليها، مثل قصة شركة «أوكسيدنتال» التي وصلت إلى المحاكم الأمريكية نتيجة عمليات الرشى والفساد التي اتبعتها الشركة للحصول على تلك الامتيازات المهولة، لكن بحلول الذكرى الأولى ل«الثورة الليبية»- انقلاب الملازم أول معمر القذافي ورفاقه- أي في العام 1970- اضطرت الشركات إلى أن ترضى برفع الحيف الذي أنزلته بأسعار النفط الليبي، وتسلم بتصحيح الأسعار على أسس جديدة وبأثر رجعي يعود إلى سنة 1965، كما تم رفع ضريبة الدخل على الشركات من 50 إلى 55 في المائة من صافي الأرباح، بالإضافة إلى انتزاع نسبة مئوية تعوض الحكومة الليبية عن انخفاض قيمة العملات الأجنبية نتيجة التضخم المالي. وبهذا تمكنت ليبيا من انتزاع حقوقها من براثن الشركات كما لم تستطع أن تفعل من قبل أية دولة عربية أو غير عربية، وكان أهم ما أدخلته ليبيا في علاقات الدول المنتجة بالشركات هو تقنين الإنتاج وتحديده وفق معدلات معينة ورفع الأسعار مقابل ذلك، وكان هذا مبدأ وتطور خطير في صناعة النفط طالما طالبت به حكومات الدول المنتجة وفي مقدمتها فنزويلا، فجاءت «ليبيا الثورة» لتضع هذا المبدأ موضع التنفيذ لأول مرة في تاريخ صناعة النفط في البلاد العربية والشرق الأوسط . وبما أن قصة ليبيا والنفط قصة طويلة ومشوقة وتستحق الوقوف على بعض أهم تفاصيلها، فسنخصص لها- إن شاء الله- حلقة إضافية السبت لنقرأ فيها رواية الرائد عبد السلام جلود نائب رئيس مجلس قيادة الثورة.. وبهذه المناسبة.. أين هو الآن، حي يرزق أم طريح الفراش أم في ذمة الله، هل سمع أحد منكم شيئاً عن مصيره؟!