فور سماعي بانشقاق وزير الخارجية الليبي موسى كوسة ومغادرته إلى لندن عبر تونس، بعد ادعائه المرض والإعياء، خطرت على بالي قصة سلاطين باشا مع الخليفة عبد الله، وما نسب إليه في أواخر عهد الخليفة من قول، لا أدري أكان حقيقة أم هو بعض «الخيال الشعبي» السوداني. فقد تواترت الروايات بأن «عبد القادر سليطين» الذي اعتنق الإسلام أيام المهدية بعد أسره، وجرى ختانه إعمالاً ل«السُّنة» كان يقول لمن حوله في أم درمان:«أنا المصيبة المعلقة بالسبيبة.. تنقطع السبيبة وتقع النصيبة»، وما يجعلني أتشكك في أن هذا القول صدر - بهذا السجع البديع- عن سلاطين نفسه، هو أن رودلف سلاطين هو أساساً رجل مخابرات وأجنبي، فهو كرجل مخابرات لابد أنه يدرك - خصوصاً بعد أن أعلن إسلامه- أن هذا القول إذا ما وصل إلى أسماع خليفة المهدي فإن مصيره الحتمي هو الموت بتهمة الخيانة العظمى، وبالتالي لابد أن يحتاط في أقواله لما يبعد عنه كل تهمة «تجسس أو نفاق»، وكأجنبي فلا يتوقع المرء أن يكون الرجل قد بلغ من الفصاحة في العربية واللهجة السودانية ما يجعله ينحت ذلك القول البليغ، ولابد أن أحد المحيطين بسلاطين من السودانيين من ساورته الشكوك في صدق سلاطين فيما زعمه من إسلام أو التزام بالولاء لدولة المهدية والخليفة، فأصبح يردد «بلسان سلاطين» ذلك القول، وعلى الأرجح بعد أن هرب سلاطين عبر صحراء العتمور على ظهر إحدى النوق البشارية مُيمماً وجهه شطر مصر، ليعود مجدداً مع الجيش الغازي لإعادة فتح السودان وإطاحة دولة المهدية وتأسيس الحكم الثنائي. بعد قرار مجلس الأمن «1973» بفرض حظر الطيران فوق ليبيا واستخدام كل الوسائل الضرورية لحماية المدنيين والوقف الفوري لإطلاق النار، كان وزير الخارجية الليبي موسى كوسه أول مسؤول ليبي رفيع يعلن الالتزام بالوقف الفوري لإطلاق النار والعمل لحماية المدنيين، بينما كان رئيسه العقيد القذافي يردد من باب العزيزية أن القرار الدولي باطل ومرفوض، وأنه سيوزِّع السلاح على كل الليبين لمقاومة هذه «الحرب الصليبية الثانية» على ديار الإسلام. ولا بد أن تلك أول صدمة تلقاها كوسة، خصوصاً وإن إعلانه وقف إطلاق النار الذي كرره أكثر من مرة من شاشة «تلفزيون الجماهيرية» لم يكن هناك ما يصدقه، سواء في أقوال «القائد الأممي» أو من أفعال كتائب القذافي على الأرض التي لم تتوقف لحظة عن القتال أو مهاجمة المدنيين حتى داخل دورهم ، فأصبح الرجل بمثابة «شاهد ماشافش حاجة، أو شايف كل حاجة وما قادر أقول بغم»، وفي الحالتين فقد منصبه ودوره أي قيمة ضمن النظام الذي يتسنم حقيبة الخارجية فيه، وهو رجل اعتاد أن يلعب أدواراً محورية في صناعة القرار، بالرغم من عتو القذافي وديكتاتوريته، ومن هنا تتبدى أهمية استقالته وانشقاقه وهروبه إلى «عرين الحلفاء» في لندن، بعد أن راوغ القذافي وزبانيته عبر الإعلان عن مرضه وإعيائه وحاجته للعلاج وطلبه - كما قال المتحدث باسم الخارجية إبراهيم موسى- لإجازة للاستشفاء في تونس عرف كيف ينتزعها دون إثارة شكوك القذافي الذي عانى من انشقاقات سابقة في الحلقة الضيقة المحيطة به. فقد سبق موسى إلى الانشقاق آخرون في قمة هرم السلطة تولى بعضهم حقائب سيادية، أولهم وزير العدل مصطفى عبد الجليل الذي ذهب إلى بنغازي لينضم للثوار، وليؤسس ويترأس المجلس الوطني الانتقالي- السلطة البديلة- ولحق به في الأيام الأولى أحد رفقاء القذافي في انقلاب الأول من سبتمبر اللواء عبد الفتاح يونس وزير الداخلية، هذا غير قادة عسكريين كبار ووحدات عسكرية برية وجوية وخاصة بأكملها، كما يتزامن انشقاق موسى مع انشقاق وزير خارجية ليبيا التاريخي عبد السلام التريكي، الذي عينه العقيد أخيراً ليخلف وزير خارجيته السابق وصديق صباه عبد الرحمن شلقم الذي انشق هو الآخر وانضم إلى بعثة ليبيا في الأممالمتحدة التي تمردت على العقيد حتى قبل أن يصدر قرار مجلس الأمن «1973». فالتريكي الموجود في القاهرة آثر أن ينسحب من المشهد بهدوء، معتذراً عن تولي مهمة السفير الدائم لليبيا لدى الأممالمتحدة التي انتدبه لها القذافي بديلاً لشلقم، وقال في بيان أرسله إنابة عنه ابن أخيه سفيان التريكي المبعوث لدى الجامعة العربية إلى وكالة «رويترز» في القاهرة حيث يقيم عبد السلام، الذي قال:«قررت عدم الاستمرار في العمل، وعدم قبول أي عمل يسند إلىَّ.. وإنني في الوقت نفسه ادعو الله أن يوفقني لعمل شيء يسهم في إنقاذ هذا الوطن الغالي». ما يجعل من قصة كوسة في ليبيا شيئاً شبيهاً بقصة ردولف سلاطين في السودان، هو أن كوسة هو في المقام الأول رجل مخابرات أفنى عقوداً من عمره في خدمة نظام العقيد القذافي. وكان رئيساً لجهاز الأمن الخارجي المشهود له بملاحقة المعارضين في الخارج واختطاف وتصفية بعضهم، وحتى عندما عُين سفيراً لبلاده في الثمانينات لدى المملكة المتحدة أبعدته لندن مخافة أن يلعب دوراً استخبارياً أكثر من دوره الدبلوماسي، والآن عندما لجأ إلى لندن عبر هذه الرحلة السرية التي لابد أن للمخابرات البريطانية دوراً فيها، حيث تم استقباله تحت جنح الظلام في مطار صغير قليل الحركة هو مطار «فارنبورو» جنوبي لندن، وحيث أكد وزير الخارجية البريطاني وليم هيج أنه كان على اتصال معه عبر الهاتف حتى يوم الجمعة قبل الماضي، فإن هناك العديد من الشواهد أن موسى هو «سبيبة الحلفاء» التي يعقب انقطاعها وقوع المصيبة وبداية الانهيار الشامل، وفي هذا يمكننا إيراد بعض التصريحات الدالة على ذلك، والاحتفاء العظيم من جانب الحلفاء بهذا «الانشقاق المجلجل»، فعلى سبيل المثال: اعتبرت الولاياتالمتحدة- على لسان تومي فيتور، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي أن موسى كوسة أوثق مساعدي القذافي، يمكنه المساعدة في «توفير معلومات مهمة بشأن عقلية القذافي حالياً، وخططه العسكرية»، بينما قال وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فرايتي: «إن الانشقاقات في صفوف الدائرة المقربة من القذافي هي التي ستطيح به وليس العملية العسكرية الغربية.. وإنما من خلال الضغط الدولي لتشجيع الأشخاص المحيطين به على الانشقاق، بعد أن يدركوا أنه لا يمكن أن يكون جزءاً من المصالحة الوطنية»، وقال هيج: «استقالة موسى تظهر أن نظام القذافي الذي شهد انشقاقات مهمة متشرذم وتحت الضغط ويتداعى من الداخل.. ولابد أن القذافي يسأل نفسه من التالي الذي سيتخلى عنه»، وفي الأثناء أعلن الادعاء الملكي الأسكوتلندي أمس الأول أنه يود الاستماع إلى إفادة كوسة في شأن تفجير طائرة «بان أمريكان» فوق لوكربي عام 1988م، في وقت قالت فيه طرابلس إن نظام العقيد القذافي «لا يقوم على الأشخاص».. إنما على «الجماهير» طبعاً!. أهمية كوسا كرجل استخبارات قوي و «كمصيبة معلقة بسببية» تكمن في أنه الرجل الذي أدار كل الملفات الخطيرة وأزمات النظام مع الغرب، ملف لوكربي وملف الطائرة الفرنسية والتفجيرات التي اقترفها النظام عبر القارات، وملف البرنامج النووي الذي قدمه العقيد عربوناً للصداقة مع الولاياتالمتحدة والغرب، وها هو اليوم بين يدي الغرب بكل ما يعلمه عن العقيد الذي حار الغرب والعالم في طريقة تفكيره وفي التنبؤ بما قد يقدم عليه من أفعال.